بقلم:نيكولاس بيلهام
تستعرض وسائل الإعلام العنف الذي يجري عالمياً وإرتباطه بالإسلام على مدار الساعة، ألا أن إستذكار التاريخ المضئ للحضارة الإسلامية قد يكون مريحاً بعض الشئ، فالإسلام أقل عدمية ليكون حضارة عالميّة، كتاب جديد“الأشخاص الذين شكّلوا الحضارة الإسلاميّة“ من تأليف تشيس روبنسون Chase Robinson ، حيث ترسم 30 صورة شخصية زاهية اسهمت في إبراز مظاهر إبداعية وتكنولوجية مُبتكرة. على إستمرار الحضارة الإسلامية تشهد ظهور ملوك ومُقاتلون بدأً من النبي مُحمد وإنتهاءاً بـ الشاه إسماعيل بعد 900 سنة، الا أن روبنسون يضع مهاراتهم القتالية في المراتب المتأخرة ويُبرز فنونهم ”الجمالية“ حيث لا يُحتفى بـ ”محمد“ بإنتصاراته العسكرية بل بآياته، وكذلك ”عبد الملك بن مروان“ الذي أحتل قبرص حيث يشتهر أكثر ببناءه المذهل لقبة الصخرة المُذهبة في أورشليم، وأما ”مُحمد الغزنوي“ السئ السمعة، حيث أن سمعته تشبه رائحة الفم الكريهة جداً لدرجة أن لو مرت ذبابة فوقه لقتلها، وهو الجهادي الذي غزا الممالك الهندية شمال غربي الهند، ألا أنه مُثير للإعجاب كونه زيّن المُدن الإسلاميّة الشرقية بالحدائق الغنّاء، فيقول أحد شُعراء بلاطه:
ها قد زخرفت الورد البري بعُقدٍ من اللؤلؤ
أما تيمورلنك الملقّب بـ “مصارع الخرفان ، فاتح العالم“ الذي بنى جبلاً من الجماجم فقد بنى أيضا المساجد المُرتفعة في سمرقند، وكذلك محمد الثاني فاتح القُسطنطينية فقد كان يُعد ”رجلاً من رجال النهضة“.
وبما أن الشخصيات القتالية تكون ساحرة في القصور، فإن قائمة الشخصيات التي يتضمنها كتاب روبنسون تتضمن مُفكرون أحرار، وفيزيائيين وبايلوجيين وخطاطين ورسامي خرائط“. من ضمنهم محمد الإدريسي الشاعر والمؤرخ الذي يعتقد أن النبي محمد كان أُميّاً ألًا أن تُراثه قد دُوًن بالأحرف، فأحد سور القُرآن تسمى ”القلم“ فطبقاً للتقاليد الإسلامية فإن الرجل الأول ”آدم“ كان قد صنع أول قلم، وكذلك علي صهر النبي وخليفته كان قد صاغ أحرفاً عربية خاصةً به.
كذلك فالزعماء والإقتصاديين موجودين أيضاً ففي القرن التاسع كان الحرفيون يشتكون-كحال اليوم- من إغراق أسواقهم بالبضائع الصينية الهائلة الإنتاج، وكذلك النساء موجودات أيضا، كمتصوفات ومُحظيات وفقيهات أيضا، فتحت أقواس المساجد المكيّة كانت كريمة المروزية تلقي دروساً فقهية وقرآنية لطلاب من كلا الجنسين، فالعديد من الصحابيات وراويات الأحاديث عاصرن النبي محمد .
من مميزات الحضارة الإسلامية أنه كان يبرز فيها سوق للأفكار كوجود سوقاً للبضائع. حيث تقول روبنسون :“ كان يقال أن المدنية ومحوالأميّة كانتا ميزتان لظاهرة حضارية.. ألا أن هذا خاطئ“ ألا أن العالم الإسلامي قد تجسد بأنه عولمة في غير أوانها، وبأنه تنوع ثقافي كوني، وأنه عالم نتج من تلاقح عدة ثقافات، وكذلك تجذر الرأسمالية. فالغنى الناتج من التجارة، فمُدنه كانت الأفضل على مستوى العالم، ففي القرن التاسع سبقت بغداد بالتوسع مانهاتن بألف سنة، فقد إشتهرت بغداد بالدسائس والجنس والإستهتار، حيث أن هذه الميزات لا تكاد تتجزأ من صورتها النمطية، فقد كانت تبحر في دجلة بالقرب من بغداد 30 الف جندولاً بفترات محدودة. قرطبة عاصمة إسلامية أخرى كانت أعظم عاصمة في أوربا، حيث أنتجت أعظم العقول، فلولا –عقلانية القرن الثاني عشر المتمثلة بإبن رشد الذي دافع عن الفلسفة الأرسطية ضد اللاهوتية الأرثوذكسية والتي أثرت في عدة أشخاص مثل توماس الأكويني- لما حدث التنوير أبداً.
من خلال الصور الشخصية التي يرسمها للرموز الإسلامية تمكن روبنسون من تفنيد خرافتين يجري تناقلهما في الوقت الحاضر حول الإسلام، أولها ”السلفيون“ وهي المجاميع المتشددة التي شغلت الجدل الإسلامي خلال القرن21، حيث يعتبرون أن النبي محمد هو المؤسس للشكل الأصيل من العقيدة الإسلامية، حيث يطمح هؤلاء السلفيون الى أن يجعلوا كل مسلم يطبق ذلك النهج، أما روبنسون فيفسر ذلك بأن الإسلام الذي أورثه محمد لم يكن متبلوراً ولا متجانساً بل كان مضطرباً، وذلك بعد وفاته فقد ثُكل المجتمع الإسلامي بفقدانه، حيث إضطرب ذلك المجتمع ونشأت صراعات ليس على مستوى الشكليات الجمالية للحكم بل من يحكم وكيف يحكم، حيث نشبت معارك ضارية بين زوجة محمد المفضلة وصهره حول الخلافة. أما العقيدة فقد تأثرت بصورة عميقة، حيث توسعت بإكتساب عادات وتقاليد الشعوب التي خضعت للحكم الإسلامي، فالحُكام الأوائل للحضارة الإسلامية إرتأوا أن إستقامة الوجود الإسلامي لا يتعارض مع شُرب النبيذ، فغالباً ما كانت المصادر الرئيسية (امهات الكتب) شحيحة الإجابة بخصوص اسئلة أساسية، فمــثلاً المثقف والفقيه الأندلسي إبن حزم جادل ضد عقوبة الموت التي نص عليها الكتاب اللمقدس بخصوص المثليين قائلاً: ”أنه لا يوجد مكان في القرآن ينص على ذلك، بل ويقترح عشرة جلدات قد تكون أكثر من كافية“ حيث يتبين من هذا أن الإيمان قد تحجر بعد قرون لاحقة ليؤول الى ما عليه اليوم من عقيدة سلفية ”أرثوذكسية“ .
أما الخرافة الثانية التي دحضها روبنسون والتي روّج لها المستشرقون بأن: قبضة التشدد من قبل السلفية أدت الى تراجع الإسلام بصورة حتمية، ففي القرن التاسع كتب الطبيب والكيميائي الفارسي أبو بكر الرازي مقالة تنص على ”إحتيال المتنبؤون“ مؤكداً على أولوية العقل على الإلهام، ويسخر من أولئك المتنبئون بأنهم محتالون وقصاصون، ولم يشفع له من تهمة الكُفر سوى أنه كان يردد ”بأن العقل هدية من الله“. وفي القرن اللاحق نشر البيروني أعظم عمل في مقارنة الأديان نقلاً عن الإغريقية والفارسية والسنسكريتية، يماثل تلك الآثار بأحاديث النبي، وقبل خمس قرون من دانيال بيفو كتب إبن طُفيل قصة حول طفل يترعرع بجزيرة صحراوية، فبلا إلهام ومن المجاز الذي يستخدمه يتبين انه يدعو البشر الى العيش ككائنات عقلانية.
بحلول القرن الرابع عشر تحول مركز الثقل الإسلامي إلى إسطنبول، ألا أن مجالسها لازالت تجتذب العُلماء الرواد والفنانين من كل حدب وصوب، حيث لازال العصر على حافة التقدم الطبي والتطور التقني، فبعد موجة الدمار الهائلة التي خلفها الحكم المغولي، أعلن عن إستثمارٍ جديدٍ في مجال العلوم والذي تمثل في القرن الثالث عشر ببناء مرصد فلكي في مراكش، والتي إرتكز عليها كوبرنيكوس في بناء تصوره عن الكون.
التعددية الثقافية، والتفكير العابر للمذهبية بقى معضلة معتادة في الحكم الإسلامي، حيث أنها تتعاقب على شكل طقوس بين السُنّة والشِيعة، أما المغول فيظهر تأثيرهم بوضوح على العقيدة، ويتجلى ذلك بالوزير الأعظم رشيد الدين الذي كان يهودياً إعتنق الإسلام والذ إستطاع في العصر الإليخاني أن يؤسس ورشة تتكون من باحثين عالميين بالقرب من تبريز في القرن الرابع عشر وحثهم للعمل في ”مؤسسة صناعية“ ، وعلى مستوى التاريخ العالمي فقد عمل على ”خلاصة اللُفافات“ وهو مزيج موسوعي من نصوص خطها فقهاء يهود بالعبرية ”ربما ترجمها رشيد الدين نفسه“ و رهباناً من كشمير، على إعتبار أن هناك بعثات من الصين فيتلخص هنا أكبر نص يُبجل بوذا في كتاب غير-بوذي، وعلى بعد أكثر من 2000 ميل في تونس، صاغ إبن خلدون تاريخاً إجتماعياً يهمل لأول مرة الاعتماد على النصوص الثابتة لتمحيص مسببات الحوادث التاريخية.
وبالتأكيد توجد شخصيات أشبه بالشخصيات الكاريكاتورية اليوم، فمثلاً الأصولي الإسلامي تقي الدين إبن تيمية، والذي كان قاضياً وفقيهاً في القرن الرابع عشر في دمشق والإسكندرية الذي ثار ضد الحكم المغولي لكون المغول كانوا قد فضلوا التشيّع ولأنهم يحكمون بدستورهم الخاص الذي وضعه جنكيزخان المسمى بـ“قانون الياسا“ ولا يحكمون بالشريعة، حيث وصمهم بالإرتداد، في حين أن ابن تيمية يفضل حكم السُلطات المملوكية السُنيّة التي كانت تتغاضى عن شتائم المسيحيين للنبي مُحمد، وهكذا إستمر أبن تيمية في تصرفاته الى أن اهتاجت العامة ضده مُطالبين بقطع رأسه، أما السلفيون الذين لم يكن لهم دورٌ يُذكر في أيامه، يرفعون اليوم منزلة إبن تيمية في مركز الفكر الإسلامي، وجعلوا من تعاليمه بمرتبة تعاليم النبي، ففي السعودية تُدرّس كُتب إبن تيمية في المدارس والكُليات على أنها مناهج أساسية.
المصدر: هنا