كوينتوس كورتيوس
قال أحدهم ذات مرة أن حياتنا هي محصلة مجموع القرارات التي نتخذها. إذا كان هذا صحيحاً، وأعتقد أنه صحيح، إذن الخطوة المنطقية التالية بالنسبة لنا هي البحث عن سبل لمعرفة كيفية اتخاذ القرارات. ما هو الشيء الصحيح، وما هو الشيء الخطأ؟ هل هناك أي مقاييس أو معايير يمكننا من خلالها الحكم على ما هو خير أو شر، أو نفعي وغير نفعي؟
بيئاتنا الحديثة تقدم لنا القليل من المساعدة. نشعر غريزياً أن المجتمع نفسه لا يملك في الواقع الإجابات. بعد أن فُصلَ الأجيال الحديثة عن القواعد الأخلاقية القديمة التي حافظت على النظم الاجتماعية الغربية لعدة قرون، وسائل الإعلام الحديثة تقدم القليل من الماهية ليحل محل هذه القواعد. أو ربما تفعل: بمذهب المتعة العمياء والنسبية المنهكة، معاً ملفوفةً بهالة من العبث.
الإنسان المعاصر يستحق أفضل من هذا. الأصوات التي تم قمعها لفترة طويلة جداً يجب إعادة هيكلتها ونفض الغبار عنها وتوجيهها. واحدة من تلك الأصوات شيشرون (في الواجبات). لقد كان من دواعي سروري ترجمة هذا العمل، واعتقدت أنني قد أقدم بعض الأفكار لماذا يستحق هذا الكتاب القراءة والترجمة. وسوف أذكر أيضاً السبب في اعتقادي ان نسختي متفوقة على غيرها من الترجمات المتوفرة حالياً.
(في الواجبات) من المفترض أن يكون دليلاً عملياً للسلوك. وبصفة عامة، الكتاب مقسم إلى ثلاثة “كتب” التي تناقش المواضيع التالية:
1- ما هو الخير الاخلاقي، وكيف يمكن تحقيقه؟
2-ما هي النفعية، وكيف يمكننا الاستفادة منها؟
3-كيف يمكننا التعامل مع الحالات التي يكون فيها الخير الأخلاقي يتعارض مع النفعية؟
بكلمات أخرى، كون الكتاب عبارة عن منجم ذهب من التوجيهات العملية بشأن مجموعة كبيرة من الموضوعات. انه أحد تلك الكتب التي يمكنك أن تفتحها بشكل عشوائي وفي أي مكان وتجد نصيحة حياتية قابلة للتنفيذ في كل جملة. وهذا ليس بحث خَيَالِي في متاهات ميتافيزيقية. بل تأسيس راسخ على التطبيق العملي. هنا فقط سأشير إلى بعض المواضيع (من بين عدد هائل) التي يتحدث عنها شيشرون:
· قوانين الحرب
· كيفية اختيار مهنة
· التعامل مع الديون
· كيف تبحث عن معلم
· قواعد التجارة والمعاملات التجارية
· احتيال
· احتشام
· صداقة
· إعطاء النصيحة
· المعاملات العقارية
· شجاعة
· حب الوطن
· التعامل مع المعضلات الأخلاقية
· التعامل مع أشخاص صعبي المراس
· متى تكسر كلمة أحدهم
هذه ليست سوى عدد قليل من عشرات الموضوعات التي تمت مناقشتها في هذا الكتاب. الأهم من ذلك، يقدم الكتاب ما هو مفتقداً إلى حد بعيد في النظام التعليمي المعاصر: التَمْيِيز. يخبرنا ما هو الحق وما هو الباطل. لا يوجد من يخاف أن يتكلم بصراحة أو بشكل مباشر عن الصواب السياسي هنا. هناك فقط نصيحة خالصة من رجل عاشَ خلال الكثير، وتعلمَ الكثير.
لماذا الكتاب مهم؟
(في الواجبات) قد يكون العمل الأكثر شهرة من بين العديد من أعمال شيشرون الفلسفية. بعد الكتاب المقدس لغوتنبرغ (١)، وكان أول كتاب مطبوع نُشر في أوروبا بعد مجيء المطبعة. بصفة عامة، الكتاب يتحدث عن الأخلاق والسلوك. يسعى لتقديم التوجيه للرجال على الكيفية التي ينبغي أن يتصرفوا بها، وكيف ينبغي لهم اتخاذ القرارات.
ليس من الصعب أن نرى لماذا تمتع الكتاب بمثل هذا التأثير. في الواجبات يعتبر دليل عملي جداً للسلوك والمسؤوليات والخيارات. وأليست الأخلاق أسْمَى أشكال المعرفة؟ انها تتعامل مع الكيفية التي ينبغي لنا أن نعيش حياتنا. ومع أيّ المسارات علينا اتخاذها وأيّ الطرق نتبع وأيّ المبادئ ينبغي أن نبني عليها حياتنا.
نحن لم نُقدْ لِلحظة من البرية القاحلة من ميتافيزيقا أو تكهنات لا مبرر لها. كُتبت هذه الكتابات في وقت كرب شخصي عظيم لِشيشرون، الكتاب يحتوي على إخلاص الذي يشدنا من الفصول الأولى.
يشعر القارئ أن شيشرون هو الرجل الذي تعلمَ الكثير من ساحات القتال السياسية وقاعة المحكمة والعلاقات الشخصية. نشعر أن هذا هو الرجل الذي تمكن من الحفاظ على بوصلتهُ الأخلاقية، والذي يرغب الآن بتمرير بعض الحكمة لنا.
ربما ما عَلى منزلة (في الواجبات) إلى العظمة الحقيقية هو رؤية ملهمة محلقةً في الهواء لِإنسان. هذا ليس جمع الجاف لتحذيرات المسكين ريتشارد-إسقيو لفعل الخير وتجنب الشر. هذا رؤية معيارية للسلوك البشري الذي يسعى لإخراج أفضل ما فينا. كتبَ هذا العمل لابنه ماركوس، الذي كان يدرس في أثينا في ذلك الوقت.
ربما كان أروع مفاهيمهِ – مفهوم الذي ما زال باقي في ذهن القارئ حتى بعد فترة طويلة من أغلاقه غلاف الكتاب- هو فكرة “عظمة الروح”. (magnitudo animi). يعطينا شيشرون فكرة عما يعنيه بعظمة الروح في (I.20) عندما يقول لنا:
“تتميز الروح القوية والكبيرة باثنين من الميزات. الميزة الاولى هي احتقار للأشياء الخارجية من هذا العالم. الروح العظيمة مقتنعة بـإّلا إنسان يَجِبُ عَلَيْهِ أن يتساءل أو يأمل أو يسعى خلف أي شيء ما عدا تلك الأشياء التي تتعلق بالخير والفضيلة، ويجب عليهِ ألا يخضع لِرجل ولا اضطراب روح ولا بَلِيّة ثروة. الميزة الثانية هي، عندما تكون قد صَبُت روحك مع هذا النوع من السلوك الذي ذُكر آنفاً، يمكنك تحقيق انجازات كبيرة ذات منفعة عظيمة وهي شاقة للغاية ومجهدة ومليئة بالمخاطر على الحياة وأشياء أخرى كثيرة متعلقة بلقمة عيشك”.
بمفهومهُ الروح العظيمة، يأخذ شيشرون النقاش إلى مستوى مختلف تماماً. ما لدينا هنا هو رؤية ملهمة لِإنسان، وهو الشيء الذي يخترق قلب القارئ مثل السهم. وهذا، على ما أعتقد، هو موضوع أساسي يستمر عِبرَ الكتاب. هذا هو الذي يجعل (في الواجبات) كنز دائم. رؤيتهُ الجادة والخالصة تعتبر خالدة، وهذا هو السبب في أننا ما زلنا نقرأ له اليوم. مثل أي خطيب عظيم (وهل كان هناك أي شخص أعظم؟) يشير بالأعالِ، لمزيد من المبادئ العالمية المثيرة. ونجح ببراعة.
عندما ننتهي من (في الواجبات) ونضعهُ على جنب، نشعر وكأننا مشبعين بنفس عظمة الروح ومستعدين لتجديد سباق الحياة بالتفاؤل والسلوان.
كيف تكون رؤيتي مختلفة عن الآخرين؟
على الرغم من شعبية الكتاب وتأثيرهُ، كانت هناك حاجة منذ زمن طويل لترجمة مشروحة جديدة لهذا العمل الكلاسيكي. ما قد يكون كافياً لقرن واحد أو جيل ويمكن أن يكون مرغوب من قبل قراء القرن الحادي والعشرين. وبالتالي ترجمتي هذهِ تختلف عن سابقاتها في ثلاثة جوانب مهمة: أولاً: معظم الترجمات الإنجليزية الحالية تُرجمت منذ سنوات عديدة. هذه الجهود، والتي قد تكون كافية لعصرها، وتبدأ حتماً تظهر روح عصرها بعد مرحلة معينة. القارئ العصري يريد شيئاً دقيق وسهل القراءة وفي نفس الوقت يحافظ على المظهر الكلاسيكي للأصل.
للأسف، بعض ترجمات القرن التاسع عشر الموجودة تواجه القارئ بكتلة يائسة من الفوارز المنقوطة والفقرات المكدسة قديمة الاسلوب، والجمل المحبوكة التي تحس عند قراءتها كأنها عمل روتيني وليس متعة. كان شيشرون صاحب أسلوب بليغ، عارفٌ دائماً بجمهوره، وهذا النوع من الترجمة يعطي للنص الأصلي حقهُ.
علينا أن نتذكر أن شيشرون كان محامي دائماً، جادل وجهات نظره بكل قوة وإيمان والوضوح. عندما يكرر نفسه، فأنه يفعل ذلك عمداً. عندما ينتقد المعارضين السياسيين، فأنه يفعل ذلك لسبب وجيه. عندما يقول لنا عدة مرات أن لا شيء يمكن أن يكون ذو نفع ولا جيد أخلاقياً، فأنه يفعل ذلك عمداً. هذه ليست حوادث. أنه يعلم أن هيئة المحلفين، مثل قراء الكتاب، يحتاجون لِرباط عاطفي وملخص وتكرار. بعض المترجمين، لأنهم ليسوا محامي محكمة بالمهنة، تغيب هذه النقطة عن بالهم تماماً.
ولكن هناك من منا من هم محامين وقد قدموا حالات إمام المحلفين – وأنا لست على علم بأي مترجم آخر كان محامي في محكمة قد ترجمَ (في الواجبات) – لِيرى الطريقة والغرض في بلاغة شيشرون. وأيضاً يجب على المترجم إلا ينجرف إلى أقصى الطرف الآخر: فشيشرون لم يكتب مثل روائي فيكتوري أو إدواردي، ولا مثل هيمنغواي أيضاً. لذا عندما نقوم بترجمة حديثة لـِ (في الواجبات) يجب أن تكون مناسبة لروح العصر الحديث، يجب أن نترجم بعناية فائقة، بإبقاء هذه النقاط في نظر الاعتبار.
كما أرى أنا، أهم عقبة أمام المترجم هي ايجاد التوازن بين الإخلاص للنص الأصلي والإيقاعات الأسلوبية للغة الإنجليزية المكتوبة الحديثة. كل لغة لها قلبها النابض. ما قد يجعل الجملة اللاتينية كاملة ذات معنى قد لا يكون واضح في اللغة الإنجليزية الحرفية.
في مثل هذه الحالات، يجب علينا أن نستخدم الأدوات النحوية المتاحة لإعطاء بلاغة شيشرون حقها. قد تحتاج الجمل المتشعبة لتقسيمها إلى أجزاء في بعض الأحيان. الضمائر اللاتينية بالتحديد تحتاج إلى توضيح. يجب أحياناً أن نعدل نغمة الكلام باستخدام صوت نشط للحفاظ على حب شيشرون للصوت المبني للمجهول. يجب علينا أن نعرف متى يعني شيشرون “أنا” عندما يكتب “نحن”. بإمكانه أن يكون مراوغاً لعوباً في لحظة، وصريح قح في لحظة آخرى.
في بعض الأحيان، يكمن معناهُ الذي يقصده في مؤهلاته وطريقته الملتوية. يجب أن يكون موقف للمترجم الافتراضي، معاصر وواضح الالقاء ما لم يوحي السياق على خلاف ذلك بوضوح.
ثانياً: أصبح من الواضح أن هناك حاجة إلى طريقة أفضل بكثير لتنظيم كتاباتهُ. (في الواجبات) يتعامل مع عدد كبير من المواضيع والمصطلحات. مثل كل الكتابات الكلاسيكية، مر النص منذ فترة طويلة بتقسيمات إلى كتب وفصول وأقسام الفرعية من قِبلْ الكَتبةَ والمحررين.
وكذلك شيشرون لم يعطِ فصولهُ عناوين وصفية أو أسماء. تحديد موضوع أو مصطلح بسهولة يمكن أن يمثل مشكلة. بعض المحررين استخدم ملاحظات هامشية، وهذه الملاحظات تميل إلى تشويش النص، والتي تجعل القارئ يتصفح عبر صفحات كثيرة جداً. ولذلك فقد اخترت إنشاء جدول وصفي بالمحتويات في بداية الكتاب الذي يسرد الموضوعات الرئيسية لكل فصل (المشار إليها بالأرقام رومانية). هذه الميزة، جنباً إلى جنب مع الفهرست، تحل مشكلة تحديد العناوين والموضوعات بكفاءة. هذا هو الكتاب الذي أُفترض أن يُستخدم ويُدرس ويُناقش.
ثالثاً: القارئ المعاصر يحتاج حواشي وصفية تفترض أن القارئ لا يملك معرفة سابقة بالتاريخ الروماني. لم يعد بإمكان المترجم التسليم بأن القارئ عام 2016 سيعرف على سبيل المثال، أسماء مثل ريغولوس أو تيتوس مانليوس توركواتوس.
وكما ذكرت أعلاه، معظم إصدارات (في الواجبات) كانت مُترجمة لجمهور القرن الماضي والذين أُفترض أن لديهم معرفة بالتاريخ الروماني أو اللاتيني، وعلى الأرجح كلاهما. هذه الترجمة لا تفترض هذه المعرفة. ويمكن الحصول عليه من قبل الجميع ليس فقط دارسي الكلاسيكيات. عدة مئات من الحواشي تُبين كل اسم تاريخي ومرجع، وكذلك مصطلحات غامضة، فروق لغوية، أماكن، موضوعات، أو مشكلات نصية. قسم التعليقات في نهاية كل كتاب يسلط الضوء على القضايا الهامة المطروحة في النص.
ما يعطينا (في الواجبات) هو الإطار المرجعي لاتخاذ القرارات. في نهاية المطاف لدينا دليل يقدم لنا وجهة نظر ايجابية من رجل يمكنهُ أن يساعدنا على اتخاذ قرارات إيجابية صائبة محددة.
(١) بيبل غوتنبرغ نسخة مطبوعة لترجمة الفولجات (الدارجة) اللاتينية للكتاب المقدس طبعها يوهانس غوتنبرغ في ماينتس الألمانية في القرن الخامس عشر. ويعتبر الكتاب العمل الأهم له وله أهمية كبيرة في بدء ثورة غوتنبرغ وعصر الكتاب المطبوع. [ويكيبيديا]
(٢) شيشرون
المصدر: هنا