الرئيسية / تأريخ وتراث / من النصوص البابلية القديمة: حوار التشاؤم

من النصوص البابلية القديمة: حوار التشاؤم

حوار التشاؤم

هو حوار قديم من بلاد ما بين النهرين (Mesopotamia) من حضارة بابل تحديداً، يجري بين سيد وخادمه ويُعبّر عن عبثية وعدم جدوى أفعال الإنسان، يُعتبر هذا النص لغز أدبي لأنه يشكك في معنى الحياة من خلال أفعالنا في هذا العالم.

 

النص والتأريخ

يُعتبر الحوار مركب شعري بشكل فضفاض مكتوب باللغة الأكادية (اللغة المحلية لبابل وأشور) وقد كُتب هذا الحوار في سنة 1000 قبل الميلاد في بلاد ما بين النهرين، وتم إكتشافه في خمس مخطوطات على شكل ألواح طينية مكتوبة بالخط المسماري، وقد وجد النص محفوظاً بشكل جيد ما عدا 15 سطراً من أصل 86 سطر كانت مجزأة ومتشرذمة، ويبدُ ان نسختين من هذا النص قد استطاعتا النجاة وهما النسخة البابلية و الأشورية ولكن النسخة البابلية تعتبر مختلفة إلى حد كبير عن النسخ الأشورية.

 

الحوار: المحتوى والأسلوب

يتخذ «حوار التشاؤم» شكل الحوار بين سيد وعبده الخادم، ينقسم الحوار إلى إحدى عشر مقطع شعري في كل مقطع يقوم السيد بإقتراح فعل ما ويجيبه العبد بأسباب جيدة للقيام بهذا الفعل، لكن السيد يغير رأيه فيجيبه الخادم بأسباب جيدة لعدم القيام بهذا الفعل مساوية للأسباب التي قدمها في البداية.

 

1- القيادة نحو القصر

– أيها الخادم، إستمع لي!

– أنا هنا، سيدي، أنا هنا!

– بسرعة! أجلب لي العربة وإربطها، أريد ان أذهب إلى القصر.

– إذهب، سيدي، إذهب! سيكون هذا الأمر في صالحك، عندما يراك الملك سوف يُكرِّمك.

– حسناً، أيها الخادم، لن أذهب الى القصر!

– لا تذهب، سيدي، لا تذهب! عندما يراك، قد يرسلك الملك الى مكان لا يعلمه إلا الله، قد يجعلك تتخذ طريقاً أنت لا تعرفه، سوف يجعلك تعاني من العذاب ليلاً ونهاراً.

 

2- الوليمة

– أيها الخادم، إستمع لي!

– أنا هنا، سيدي، أنا هنا!

– بسرعة! أحضر ليّ الماء لكي أغسل يديّ، أريد أن أتناول العشاء!

– تعشّى، سيدي، تعشّى! الوجبة الجيدة تُريح البال! [ ] وجبة من آلهته. غسل اليد يجعل الوقت يمر!

– حسناً، يا أيها الخادم، لن أتناول طعام العشاء!

– لا تتعشّى، سيدي، لا تتعشّى! أن يأكل المرء وهو جائع فقط، أن يشرب المرء وهو عطشان فقط هو أفضل للرجل!

 

3- الصيد

– أيها الخادم، إستمع لي!

– أنا هنا، سيدي، أنا هنا!

– بسرعة! أجلب لي العربة، أنا ذاهب إلى الصيد!

– إذهب، سيدي، إذهب! الصياد يملء بطنه! كلب الصيد سيُحطم عظام الفريسة! الغُراب الذي يجوب البلاد سيتمكن من إطعام صغاره في العش! الحمار الوحشي العابر سيجد المراعي الغنية!

– حسناً، أيها الخادم، لن أذهب إلى الصيد!

– لا تذهب، سيدي، لا تذهب! حظ الصيّاد يتغير! أسنان كلب الصيد سوف تتحطم! الغُراب الذي يجوب البلاد لديه حفرة في الجدار على شكل منزل! الحمار الوحشي العابر لديه الصحراء كمستقر له؟

 

4- الزوّاج

– أيها الخادم، إستمع لي!

– ها أنا هنا، سيدي، ها أنا هنا!

– أريد إنشاء عائلة والإستقرار في منزل، أريد أن يكون لي ولداً!

– أحصل عليهم، سيدي، أحصل عليهم!  الرجل الذي ينشئ عائلة ويستقر في منزل […] كيف يمكن لي أن استقر في منزل! لا تستقر في منزل؛ وإلا سوف تحطم منزل والدك!

 

5- التقاضي

هذا المقطع الشعري ليس كاملاً وهو عبارة عن اجزاء فقط يمكن أن يُفهم منها بأن السيد يريد الذهاب الى المحكمة فيقرر ان يجعل خصمه يبدأ بالمرافعة اولاً دون أي كلمة منه، ثم، يغير رأيه كالعادة، حيث لا يريد أن يبقى صامتاً.

– لا تبقى صامتاً، سيدي، لا تبقى صامتاً! إذا لم تفتح فمك، سوف تكون لخصمك اليد العليا! المدّعون سوف يكونون همجيون معك، إذا تكلمت!

6- الثورة

– أيها الخادم، إستمع لي!

– أنا هنا، سيدي، أنا هنا!

– أريد ان أقود ثورة!

– قّدْ إذاً، سيدي، قُدْ! إذا لم تقُدْ ثورة، من أين ستأتي ملابسك؟ ومن الذي سوف يمكنك من ملء بطنك؟

– حسناً، أيها العبد، لا أريد أن أقود ثورة!

– لا تقُدْ، سيدي، لا تقُدْ ثورة! الرجل الذي يقود الثورة إما يُقتل أو يُسلخ، أو يتم إقتلاع عينيه، أو يُلقى القبض عليه ويرمى في السجن!

 

7- الحب

– أيها العبد، إستمع لي!

– أنا هنا، سيدي، أنا هنا!

– أريد أن أمارس الحب مع امرأة.

– مارس الحب، سيدي، مارس الحب! الرجل الذي يمارس الحب مع امرأة ينسى حزنه وخوفه!

– حسناً، أيها الخادم، لا أريد ان أمارس الحب مع امرأة

– لا تمارس الحب، سيدي، لا تمارس الحب! المرأة هي فخ حقيقي، حفرة، خندق، المرأة هي خنجر من الحديد الحاد الذي يقطع حنجرة الرجل!

 

8- التضحية

– أيها العبد، إستمع لي!

– أنا هنا، سيدي، أنا هنا!

– بسرعة! أجلب لي الماء لكي أغسل يديّ وأعطني ما تبقى، أريد ان أقدم تضحية لإلهي.

– ضحي، سيدي، ضحي! الرجل الذي يقدم تضحية لإلهه يشعر برضا في قلبه، وتتراكم الفوائد.

– حسناً، أيها العبد، لا أريد أن أضحي من أجل إلهي!

– لا تضحي، سيدي، لا تضحي! ستُعلّم إلهك أن يجري خلفك مثل الكلب سواء كان بسؤالك عن «الشعائر» او « هل أنت لا تستشير إلهك؟» أو أي شيء أخر!

 

9- الأعمال

– أيها الخادم، إستمع لي!

– أنا هنا، سيدي، أنا هنا!

– أريد أن أستثمر في الفضة.

– إستثمر، سيدي، إستثمر! الرجل الذي يستثمر يُبقي على رأس ماله بينما الفائدة تصبح هائلة!

– حسناً، أيها الخادم، لا أريد ان أستثمر!

– لا تستثمر، سيدي، لا تستثمر! تقديم القروض حلو مثل ممارسة الحب ولكن الحصول على تلك القروض مجدداً أشبه بإنجاب طفل! سيأخذون رأس مالك، وسيشتموك بدون توقف. سيجعلوك تفقد الفائدة من رأس مالك!

 

10- الصدقة

– أيها العبد، إستمع لي!

– أنا هنا، سيدي، أنا هنا

– أريد ان أقدم فائدة عامة من أجل وطني!

– إفعلها إذاً، سيدي، إفعلها! الرجل الذي يؤدي فائدة عامة لوطنه سوف تُعرض أفعاله إلى دائرة مردوخ!

– حسناً، أيها العبد، لا أريد أن أقدم فائدة عامة لوطني!

– لا تقدمها، سيدي، لا تقدمها! إصعد إلى أعلى التلال القديمة وتمشى، أنظر الى الجماجم المختلطة بين العوام والنبلاء، من هو فاعل الشر ومن هو فاعل الخير؟

 

11- الخلاصة

– أيها الخادم، إستمع لي!

– أنا هنا، سيدي، أنا هنا!

– ما هو الأفضل إذاً؟ أن تُكسر رقبتك ورقبتي، أو أن تُرمى في النهر، هل ذلك جيد؟

– من هو طويل القامة ليصعد إلى السماء؟ من هو الواسع الذي بإستطاعته أن يضم العالم كله؟

– حسناً، أيها الخادم، سوف أقتلك وأرسلك أولاً

– نعم، لكن ليس بإستطاعة سيدي أن ينجو ثلاثة أيام بدوني.

 

يُعتبر الحوار محدوداً بين شخصين (على خلاف حوارات أفلاطون على سبيل المثال) كما هو شائع بأدب الحكمة في الشرق الأوسط القديم، في التراث الطباعي لأدب بلاد ما بين النهرين، يتعلم المرء من خلال التعليمات اللفظية والقراءة التأملية وليس من خلال المناقشة. لقد تم إقتراح أن هذا النص كان درامياً ويؤدى على شكل مسرحية للعامة بدلاً من أن يكون عبارة عن مجموعة من المبادئ المجردة أو العالمية التي يمكن تطبيقها على كل موقف وحالة.

 

التفسير

يقع هذا الحوار في منطقة الثيوديسيا (فرع من الثيولوجيا والفلسفة يهتم بحل مشكلة الشر). وتنقسم تفاسير هذا الحوار إلى عدة تفاسير، حيث يراه البعض على انه تصريح عن عبثية الحياة وسخافتها بسبب أنه لا يوجد خيارات خاطئة او محقة بشكل نهائي وقاطع أو أسباب للأفعال. المقطع الشعري النهائي هو النتيجة المنطقية لهذه المعضلة وهو تفضيل وإختيار عدم الوجود على عبثية الوجود وعدم جدواه.

التفسير الأخر يأخذ الإشارة من الرد النهائي والحاسم للعبد، عن طريق رؤية الحوار على انه ساخر إجتماعياً، حيث يعرض العبد المستضعف تذبذب ولافائدة سيده الأرستقراطي من خلال إجاباته المتضاربة والمبتذلة. وتوجد في الحوار سخرية دينية أيضاً من خلال تعليقات العبد على سلوك الآلهة.

هناك تشابه وتوازي مع نص ظهر في الألفية الثانية في بلاد ما بين النهرين وهو مونولوج المُعاني المستقيم بإسم «سوف أُثني على رب الحكمة» والكتاب التوراتي «سفر الجامعة» تُشير إلى تفسير ثالث وهو إن الكون غامض فعلاً ويبدو أن أفعال البشر لا معنى لها، لكن الآلهة تحمل أسرار هذا الكون (نكتشف هذا الأمر في تعليق الخادم حول الجنة والأرض في المقطع الحادي عشر) فبدلاً من الإشارة إلى الموت من اليأس، يريد السيد من عبده ان يموت قبله لكي يتسنى له سؤال الآلهة لكن الجواب النهائي الساخر من العبد يراوغ إقتراح سيده.

الغاية من الحوار هي ساخرة جزئياً وجادة جزئياً، والنهاية هي لتذكير القرّاء بأن الآلهة تتحكم في المصائر التي تعتبر في علم الغيب بالنسبة لنا. الرجل الحكيم، مثل الخادم، يرجئ الحكم ويقيم الإحتمالات في مواجهة غموض الحياة مع إحتفاظه بنفس الوقت بحس الفكاهة والدعابة.

 

التشابه مع العهد القديم

هناك تشابه موضوعي بين حوار التشاؤم وكتاب سفر الجامعة في العهد القديم. حيث أن التأكيدات ونفيها التي قدمها العبد في الحوار تعتبر مماثلة لقائمة من الأفعال وأضدادها قد ذُكرت في سفر الجامعة 3: 1-9 («وقتاً لتولد ووقتاً لتموت..»)

كان سفر الجامعة مثل الحوار، موضوع مطروح للتفسيرات المتشائمة والمتفائلة، ويعتبر الكتاب أيضاً قابل للتفسير على أنه يشير إلى غموض الكون وحياة الإنسان والقيود المفروضة عليه والمعرفة السامية لله.

هناك أيضاً بعض من التشابهات والتباينات مع كتاب أيوب (واحد من الكتابات في الكتاب العبري المقدس).

مثل الحوار، يعتبر «كتاب أيوب» الموت على أنه خيار في مواجهة تناقضات الحياة (أيوب 3:2 – 13) على الرغم من أنه لا يشير إلى الإنتحار.

علاوة على ذلك، لا يختتم كتاب أيوب مذكرة الموت: بدلاً من ذلك، هذا الموضوع يعتبر أكثر حضوراً في البداية.

إستخدام السخرية والتهكم في سبر أسرار الحياة يعتبر أيضاً ميزة في كل من الحوار و كتاب أيوب (مثل أيوب 9:39-31).

المثل الذي يظهر في نهاية الحوار، «من هو طويل القامة ليصعد إلى السماء؟ من هو الواسع الذي بإستطاعته أن يضم العالم كله؟» لديه تشابه مع عديد من الأمور المذكورة في الكتاب المقدس ومنها ما هو مذكور في إفتتاحية أمثال “Agur” (أمثال 30:1)؛ سفر الثنية 30:11-14؛ أيوب 11:7-9 وأيوب 28:12-18.

المصدر: هنا و هناو هنا و هنا

عن

شاهد أيضاً

كيف بدأ تقليد أشجار عيد الميلاد؟

كتبه لموقع انسايكلوبيديا بريتانيكا: آمي تيكانين نشر بتاريخ: 14/ 12/ 2018 ترجمة: سارة الأعرجي تدقيق: …

هل النبي محمد شخصية حقيقية؟ خلاف بين الباحثين في الدين الإسلامي

كتبه لموقع شبيغل أونلاين: ياسين موشربش نشر بتاريخ: 18/ 9/ 2018 ترجمة: إبراهيم العيسى تدقيق: …