قبل ثلاثين الف سنة، كان هناك رجل قد دخل الى احدى الكهوف الضيّقة الموجودة جنوب فرنسا مستنداً بضوء خفقان مصباحه الزيتي الذي يساعده في الوصول إلى أبعد مخدع في الكهف. وعلى إحدى الصخور المعلقة، كان قد رسم بالفحم رسمة لثور البيسون وهو يعتلي جسم إمرأة عارية.
وفي عام (1933) قام بيكاسو برسم لوحة مُلفتة للنظر و مشابهة للوحة أعلاه تعرف بـ(رجل برأس ثور يعتدي على فتاة)
هذان الفنانان، يفصل بينهما اكثر من (30) الف سنة ومع ذلك، فقد انتجا لوحات متشابهة ومذهلة. لكن يبدو أن علينا ألا نبالغ كثيراً في دهشتنا تلك، حيث أن أدمغتنا لاتختلف تشريحياً إلا بمقدار قليل عن أولئك القوم الذين اعتادوا الرسم على جدران “كهف شوفيه” منذ سنين مضت. فَنّهم ذلك، كان جزءاً من الإنفجار الأبداعي الذي حصل في ذلك الوقت وهذا دليل آخر أن أدمغتهم لاتختلف كثيراً عن أدمغتنا.
كيف اكتسبنا أدمغتنا الخلابة هذه؟ كيف أن الصراع الوحشي من أجل البقاء ينتج لنا تلك الأشياء الإستثنائية بالغة الجمال؟ إنها أسئلة من الصعب الإجابة عليها ولكن وبفضل أحدث التقنيات، أصبحنا قادرين على تتبّع مسار تطور أدمغتنا وبتفاصيل غير مسبوقة من قبل، منذ زمن وجود الخلايا العصبية الأولى إلى زمن فنون الكهف وعصر الفنون التكعيبية.
حكاية أدمغتنا بدأت في المحيطات القديمة، حتى قبل ظهور أولى الحيوانات. تلك الخلية الحية الأولى التي كانت تسبح أو تزحف هناك ربما لم تكن تملك دماغاً خاصاً بها، إلا أنها إمتلكت وسائل متطورة للإستشعار والإستجابة للبيئة. حيث اعتمد تطور الحيوانات متعددة الخلايا على الإستشعار والإستجابة مع الخلايا الأخرى لكي تعمل معاً. الإسفنجيات على سبيل المثال، تقوم بتصفية الطعام من الماء الذي يمر من خلال القنوات الموجودة في أجسامها، وباستطاعة هذه القنوات أن تتضخم وتنقبض ببطء لكي تطرد الرواسب وتمنع الإنسداد. يتم تفعيل هذه الحركات عندما تستلم الخلايا للناقلات الكيميائية التي تُعرَف ب «الجلوتاميت» أو «GABA» التي يتم ضخها من قبل خلايا أخرى لنفس الكائن الإسفنجي، هذه الناقلات تلعب دوراً مشابهاً في أدمغتنا في الوقت الحالي.
إطلاق هذه الناقلات الكيميائية في الماء، هي طريقة بطيئة جداً للاتصال مع الخلايا البعيدة
حيث إنها تستغرق عدة دقائق من أجل تضخيم وغلق هذه القنوات.
الإسفنجيات الزجاجية تملك طريقة أسرع؛ إنها تطلق نبضات كهربائية من خلال أجسامها بطريقة تجعل سياطها تتوقف عن ضخ الماء خلال أجزاء من الثانية.
هذا أمر ممكن، حيث إن جميع الخلايا الحية تولد شرارات كهربائية بداخلها عن طريق الضخ الأيوني.
إن فتح القنوات التي تسمح بمرور الأيونات بصورة حرّة، يُنتج طاقة كهربائية. وإذا كانت القنوات الأيونية القريبة مفتوحة لتلقي الأستجابة، ستنتقل هذه الموجات الكهربائية على السطح بطريقة الموجات المكسيكية الشهيرة بسرعة تصل إلى عدة أمتار خلال الثانية. وبما أن خلايا الإسفنجيات الزجاجية مصهورة مع بعضها البعض، يمكن لهذه النبضات أن تنتقل إلى كافة أنحاء جسمها.
تُظهر آخر الدراسات أن العديد من العناصر اللازمة لنقل النبضات الكهربائية، وإطلاق الإشارات الكيميائية والإستجابة لها، موجودة في عضيات وحيدة الخلية تُعرف بـ السوطيات الكاونية (Choanoflagellates) وهذا شيء مهم لأنه يُعتقد أن السوطيات الكاونية القديمة هي أصل وجود الحيوانات منذ (850) مليون سنة.
لذا ومنذ البدء، كان للخلايا الأولى قدرة كامنة على التواصل فيما بينها عن طريق النبضات الكهربائية والأشارات الكيميائية. وحتى الأن، لم يكن تخصص بعض الخلايا في نقل هذا الأشارات العصبية بالقفزة الكبيرة.
الخلايا العصبية المعروفة حالياً تطورت بشكل أسلاك طويلة-امتدادات- ومحاور، لكي تعمل على نقل الإشارات الكهربائية لمسافات طويلة. ومازال مرور الإشارات الكهربائية بين هذه الخلايا عن طريق إطلاق مواد كيميائية مثل الجلوتاميت، لكنها تُطلَق في مراكز التلاقي، والتي تعرف بنقاط التشابك العصبي (Synapses) هذا يعني أن دور المواد الكيميائية أصبح مقتصراً على تسريع الإتصال ونقل هذه الإشارات. وهكذا وفي وقت مبكر جداً، تطور الجهاز العصبي.
يُحتَمل أن الخلايا العصبية الأولى كانت تتصل مع بعضها البعض عن طريق شبكة منتشرة في جميع أنحاء الجسم. هذا النوع من التراكيب يعرف بالشبكة العصبية والذي باستطاعتنا رؤيته في بعض الحيوانات الرخوية كقناديل البحر.
لكن في بعض الحيونات الأخرى، بدأت تظهر مجاميع الخلايا العصبية على شكل جهاز عصبي مركزي، حيث يسمح بمعالجة المعلومات الواصلة اليه ولايقوم بترحيلها فقط، الأمر الذي جعل من هذه الحيوانات قادرة على الحركة والإستجابة للبيئة بصورة أكبر تعقيداً من أي وقت مضى. تركّزت معظم هذه المجاميع العصبية المتخصصة-والتي تشكّل الدماغ البدائي- في المناطق القريبة من الفم والعينين البدائيتين.
وجهة نظرنا لهذه الأحداث التاريخية ماتزال مُبهمة وضبابية، فطبقاً للعديد من علماء الأحياء، إن هذه الأحداث قد حدثت لكائن يشبه الدودة، تعرف بالثنائية الجوانب (Urbilaterian)، حيث تعتبر السلف الأكبر لمعظم الحيوانات الحية، بما فيها الرخويات والحشرات والفقاريات. الغريب في الأمر، ان ديدان مثل دودة البلوط، تفتقر لهذه الأعصاب.
لدينا تفسيران لذلك، فمن الممكن أن الدودة ثنائية الجوانب لم تكن تملك دماغاً، ثم تطورت عدة مرات فيما بعد بشكل مستقل. أو قد يكون سلف دودة البلوط ممتلكاً لدماغ بدائي ثم فقده، وهذا يشير إلى أنه في بعض الأحيان، تكون كلفة بناء الأدمغة أكبر من فوائدها.
وفي كلتا الحالتين، فإن الدماغ- كتركيب- كان حاضراً في أسلاف الفقاريات، والتي كانت تشبه في ما مضى حيوان الرميح. إن دماغ الرميح بالكاد نراه بارزاً عن بقية الحبل الشوكي، لكن المناطق المتخصصة كانت واضحة. مؤخرة الدماغ، على سبيل المثال، مسؤولة على حركة السباحة، في حين مقدمة الدماغ كانت مسؤولة على الرؤية. «هذه الأدمغة بالنسبة لأدمغة الفقاريات المتطورة، تشبه مقارنة كنيسة ريفية صغيرة بكاتردائية روتردام، حيث أن تركيبها البدائي يفتقر لكل أشكال التعقيد التي نراها في الأدمغة الحالية» تقول ليندا هولاند، من جامعة كاليفورنيا.
بعض هذه الأسماك تستقر بجانب الصخور، واليرقات الصغيرة السابحة في البحر تملك أدمغة بسيطة تساعدها في السباحة، وما أن تستقر هذه اليرقات على صخرة ما، حتى يضمحل هذا الدماغ ويُمتص من قبل الجسم تدريجياً.
نحن لم نكن لنتواجد هنا بالطبع، اذا لم يحتفظوا أسلافنا بخاصية السباحة. وفي حوالي (500) مليون سنة، بعض الأشياء أخذت تسير بمنحى مختلف حينما قام أحدهم بمضاعفة نفسه، منتجاً تضاعف في الجينوم الخاص به. وفي الحقيقة، هذا الأمر لم يحدث مرة واحدة، إنما حدث مرتين. هذه الأحداث مهدت الطريق لتطور أدمغتنا بصورة أكثر تعقيداً عن طريق توفّر العديد من الجينات التي يمكن أن تتطور في مسارات مختلفة وتقوم بأدوار جديدة. «انها مثل ان يشتري لك والديك المزيد من قطع الليگو، حيث توفر مكونات جديدة يسمح في استخدامها لتكوين أشكال جديدة.» كما يقول غرانت. ومن بين أشياء أخرى كثيرة، كان لمناطق مختلفة من الدماغ القدرة على إنشاء روابط عصبية جديدة والتي تسمح بابتكار وظهور سلوكيات جديدة.
وفي الوقت الذي كانت فيه الأسماك الأولى تُعاني من أجل الحصول على الطعام والرفقة وتفادي الحيوانات المفترسة، فإن العديد من الأجزاء الأساسية لأدمغتنا استمرت بالتطور؛ الجزء البصري قد تطور من اجل تتبع حركة الأشياء عن طريق العين. (اللوزة-Amygdala) قد تطورت لكي تساعدنا على الإستجابة لحالات الخوف التي نمر بها، أجزاء من الجهاز الحوفي (Limbic system) تساعدنا بالشعور بمشاعر العطاء وكبت الذكريات الأليمة، والعقد القاعدية (Basal ganglia) التي تساعدنا في السيطرة على أنماط الحركات.
الثدييات الذكية
قبل (360) مليون سنة، أسلافنا قد استعمروا الأرض، مما أدى في نهاية الأمر إلى تطور الثدييات قبل حوالي (200) مليون سنة. كان لهذه الكائنات قشرة مخية صغيرة الحجم وهي عبارة عن طبقات من الأنسجة العصبية على سطح الدماغ مسؤولة عن المرونة والتعقيد في سلوك الثدييات. كيف ومتى تطورت هذه المنطقة الحيوية؟ لازال هذا السؤال يعتبر لغزاً، إن أدمغة الزواحف والبرمائيات لا تملأ تجويف الجمجمة بالكامل والحفريات لاتُخبرنا سوى القليل عن أدمغة أسلافنا من الزواحف والبرمائيات.
ماهو واضح هو زيادة نسبة حجم الدماغ بالمقارنة مع حجم أجسامهم، وتظهر هذه المعاناة عند الديناصورات. هذه النقطة توضح أن الدماغ قد شَغل تجويف الجمجمة بالكامل، تاركاً بعض الانطباعات التي تخبرنا أن هناك مجموعة من العلامات التي تؤدي الى هذا التوسع العصبي.
«تيموثي رو»، من جامعة تكساس، قام باستخدام الأشعة المقطعية للنظر في تجاويف أدمغة حفريات لإثنين من الثدييات المبكرة، (مورغانيوكودون-Morganucodon) و(هادروكوديوم-Hadrocodium)، كليهما كائنات صغيرة تتغذى على الحشرات. هذا النوع من الدراسات، أصبح هو الوحيد الممكن في وقتنا هذا. يقول تيموثي رو «باستطاعتك ان تمسك هذه الاحافير بيديك لتعرف ان لديها الأجوبة على تطور الدماغ، لكنك من المستحيل ان نلج بداخلها بطريقة غير مدمرة. فقط ومن خلال هذا المسح المقطعي يمكننا ان نعرف مابداخل رؤوسهم.»
مسوحات رو كشفت أن اول زيادة في حجم الأدمغة حدثت في البصلة الشمّية (Olfactory bulb) مشيراً إلى أن الثدييات كانت قد اعتمدت بشكل كبير على أنوفها لشم الطعام. كان هناك ايضاً زيادة في حجم القشرة المخية التي تعيّن الأحاسيس عن طريق اللمس -ربما الإنزعاج من الشعر على وجه الخصوص-، مما يوحي أن حاسة اللمس كانت فعّالة ايضاً. النتائج كانت متوافقة بشكل رائع مع الفرضية القائلة بأن الثدييات كانت كائنات ليلية تختبئ في النهار وتتجول بين الأشجار ليلاً لكي تتفادى الديناصورات الجائعة.
بعد أن قُضي على الديناصورات، قبل (65) مليون عام، أخذت بعض الثدييات الناجية للأشجار كمستقر لها -أسلاف الرئيسيات- ، ونظراً لامتلاكها لرؤية جيدة ساعدتها للإيقاع بالحشرات الموجودة على الأشجار، والذي أدى إلى توسع الجزء المسؤول عن الرؤية في القشرة المخية. وكان التحدي الذهني الأكبر لهم هو البقاء والحفاظ على حياتهم الأجتماعية.
اذا كان للرئيسيات الحديثة القدرة على أن تعيش بمفردها، فأن أسلافهم كانوا قد عاشوا في مجاميع. إن إتقان جماليات وأساليب المعيشة الحياتية الإجتماعية تتطلب الكثير من طاقة الدماغ. «روبن دنبار» من جامعة أكسفورد، يعتقد أن هذا هو السبب في التوسع الهائل للمنطقة الجبهية في القشرة المخية عند الرئيسيات، لاسيما في القرود. «تحتاج للكثير من القدرات الحاسوبية للتعامل مع مثل هكذا علاقات اجتماعية» يقول روبن. كاشفاً ايضاً أن هناك علاقة مابين حجم مجاميع الرئيسيات، تواتر تفاعلاتها مع بعضها البعض ومابين حجم القشرة المخية الأمامية في مختلف الأنواع.
بالإضافة إلى الزيادة في حجم الأجزاء الجبهية، فإنها أصبحت ذات كفائة أكبر في الإتصال مع بعضها البعض أو مع المُدخلات والمُخرجات الحسية، بعض هذه التغييرات باستطاعتنا رؤيتها في بعض العصبونات المفردة عند تلك المناطق التي تطورت لتصبح نقاط مداخل ومخارج حسيّة.
كل هذه الأمور جهزت الرئيسيات اللاحقة بقدرات غير عادية على دمج ومعالجة المعلومات التي تصل لأجسامهم، من ثم السيطرة على تصرفاتهم على أساس هذا النوع من التفكير التداولي. بالإضافة إلى زيادة ذكائهم العام، والذي يؤدي في النهاية إلى زيادة التفكير التجريدي نوعاً ما. وكلما زادت المعلومات الواردة لأدمغتنا، يزيد معها التعرف والبحث على انماط شاملة لمُعالجة الأشياء الملموسة التي نراها بأعيينا.
وهو مايقودنا بدقة نحو أحد انواع القرود التي عاشت قبل (14) مليون سنة في أدغال إفريقيا، كان هذا القرد ذكي جداً، لكن أدمغة معظم من كانوا من نسله -الغوريلا، الشامبانزي، إنسان الغاب-، لايبدو أنها كانت تحمل تغييرات عظيمة بالمقارنة مع فرع أحد أبنائه الذي يعتبر سلف عائلتنا. ما الذي جعلنا مختلفين إذن؟
كان يُعتقد أن الخروج من بيئة الغابة والمشي على القدمين، أدى إلى توسع أدمغتنا. الأكتشافات الأحفورية، أظهرت أن بعد ملايين السنين من ظهور كائنات شبيها بالإنسان تمشي على قدمين، مازال لديها أدمغة صغيرة.
باستطاعتنا التكهن فقط حول سبب نمو أدمغتهم بشكل أكبر قبل حوالي (2.5) مليون سنة مضت. لكن من الممكن أن تكون الصدفة قد لعبت دوراً ايضاً.
في بعض الرئيسيات، نرى أن عضلات «القضم» لديها قوة كبيرة على كافة أنحاء الجمجمة تقيّد نموّها. في أسلافنا، نرى ضعف هذه العضلات يتجلى عن طريق حدوث طفرة واحدة فقط، ربما أدت هذه الطفرة لفتح الطريق أمام توسع الجمجمة. حدثت هذه الطفرة في الوقت نفسه لكائنات شبيها بالبشر، أدت إلى نشوء فكوك ضعيفة، جماجم أكبر حجماً وظهور الأدمغة.
وعندما أصبحنا أذكياء بما فيه الكفاية لكي نبتكر ونتطبع على نمط من الحياة أكثر ذكائاً، المردود الإيجابي قد بدأ وأدى إلى مزيد من التوسع في أدمغتنا. «إذا أردت دماغاً أكبر، عليك أن تغذيه» ما أشار اليه تود بروس من جامعة إيموري-اتلانتا.
حيث يعتقد أن تطور أدوات القتل وجزر الحيوانات قبل حوالي 2 مليون سنة، كانت ضرورية لتوسع الدماغ البشري، حيث أصبحت اللحوم مصدر تغذية أكثر غنى، من ثم اتباع نظام غذائي أكثر دسومة، قد فتح الباب لمزيد من النمو في الدماغ.
«ريتشارد رانغهام»، المُتخصص في دراسة القردة العليا في جامعة هارفرد، يعتقد أن النار قد لعبت دوراً مشابهاً عن طريق سماحها لنا بالحصول على فائدة غذائية أكبر من الطعام، حيث أن الطعام المطبوخ، أدى إلى تقلص أحشائنا. حيث أن الأنسجة المكونة لها مُكلفة في نموها والحفاظ عليها، هذه الخسارة حررت بدورها موارد ثمينة أخرى ساعدت على زيادة في نمو الدماغ.
النماذج الرياضية التي قام بها لوك روندل وزملاؤه في جامعة القديس اندرو في المملكة المتحدة لاتؤكد فقط أن التطور على المستوى الثقافي والجيني يمكن أن يغذيان بعضهما البعض، حيث اقترحوا أن هذا الأمر من الممكن أن يولد ضغطاً انتقائياً شديد القوة يؤدي إلى “هرب” تطور الصفات غير المرغوب فيها. هذا النوع من ردود الأفعال قد لعب دوراً كبيراً في تطور مهاراتنا اللغوية. حيث أن أول مرة استطاع فيها الانسان أن يتكلم، كانت هناك قوة إنتقائية للطفرات التي تُحَسّن من هذه المهارات، كالجين «FOXP2» الشهير الذي مكّن العقد القاعدية والمخيخ لكي تحضّر الذكريات المعقدة اللازمة من أجل التكلم.
الحلقة القوية المتضمنة نظامنا الغذائي، الثقافة، التكنولوجيا، العلاقات الإجتماعية والجينات، أدت إلى ظهور الأدمغة البشرية الحديثة قبل (200000) سنة في أدغال إفريقيا. إن التطور لم يتوقف أبداً، وطبقاً لأخر الدراسات، فإن أولئك الذين هاجروا من حياة الأدغال وتوجهوا نحو المناطق الشمالية، قد تطورت لديهم أجزاء الرؤية في أدمغتهم وأصبحت أكثر كفائة لتعويض النقص الحاصل في الضوء هناك.
ربما قد يسأل سائل، لماذا لم تنمو أدمغتنا وتصبح اكبر في الوقت الحالي؟ والجواب هو أننا قد وصلنا الى النقطة التي تكون فيها مزايا الأدمغة الكبيرة تفوق مخاطر ولادة أطفال ذوي رؤوس اكبر.
أدمغتنا شرهة جداً، تصرف ما نسبته (20%) من غذائنا، منتجة مايعادل (15) واط، وأية تحسينات أخرى قد تُزيد من صعوبة هذا الأمر. «سيمون لافلين» من جامعة كامبريدج، «تقارن دماغ الانسان بالسيارات الرياضية، حيث انها تصرف وقوداً اكبر لكي تصبح سريعة اكثر.»
طريقة واحدة لتسريع عمل أدمغتنا، على سبيل المثال، ألا وهي تطوير خلايا عصبية بامكانها نقل الإشارات مرات أكثر خلال ثانية من الزمن. وحتى ندعم الزيادة في عمل خلايانا العصبية، أدمغتنا بحاجة إلى حرق طاقة بنفس مُعدل طاقة ساقي العداء يوسين بولت في سباق الـ(100) متر.
ولم يكتف التوقف في النمو في حجم أدمغتنا منذ حوالي (200000) سنة، حيث أن في الـ(10000-15000) سنة الماضية، إنكمش حجم الدماغ البشري مقارنة مع حجم الجسم بنسبة (3-4%)، البعض يرى أن ما من داع للقلق، فالحجم ليس كل شيء، ومن المُمكن تماماً أن أدمغتنا قد تطورت للإستخدام بشكل أفضل لقلة المادة البيضاء والرمادية، ويبدو أن هذا الأمر يتناسب مع بعض الدراسات الجينية التي تُشير إلى أن أسلاكنا الدماغية أصبحت أكثر كفاءة من ذي قبل.
البعض الآخر يرى أن هذا الانكماش هو انخفاض طفيف بقدراتنا الذهنية العامة. «ديفيد غيري» من جامعة ميزوري يعتقد أن تطور المجتمعات المعقدة هذه، كان الأقل ذكاء فيها هو الناجي على أكتاف رفاقه الأكثر ذكاءاً الذين ماتوا في الماضي، أو لم يجدوا رفيقاً.
هذا الانخفاض قد يكون مستمراً، حيث هناك العديد من الدراسات التي تؤكد أن الأشخاص الأذكياء، يميلون إلى إنجاب أطفال أقل. وأكثر من أي وقت سبق، فإن النجاح المالي والثقافي حالياً لايرتبط بتكوين عائلة كبيرة كما كان في السابق. يقول راندل: «لو كان كذلك، فأن بيل جيتس من المفترض ان يكون لديه (500) طفل.»
هذا الأثر التطوري من شأنه أن يخفض معدل الذكاء بمقدار (0.8) درجة في الجيل الواحد لدى أميركا، إذا ما استثنينا آثار الهجرة. على أية حال، حتى لو كانت تلك التأثيرات الجينية حقيقية، فإنها كانت كافية لتحسين الرعاية الصحية والتعليم، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع مطّرد في الذكاء خلال معظم القرن العشرين.
يبقى هذا الأمر محفوف بالمخاطر دائماً، وليس لدينا أي وسيلة لمعرفة التحديات التي قد تواجه الإنسانية في قادم السنين. ولكن إذا حدث وتغير كل شيء، فإن من المرجّح أن تسير أدمغتنا نحو الإنحدار، في ذلك الوقت، بالطبع سوف نتدخل ونتحمل المسؤولية.
هل كان بأمكان الديناصورات الذكية أن تحكم العالم فيما لو لم يضرب الأرض ذلك النيزك الذي أدى إلى انقراضهم؟
ليس بمقدورنا الإجابة على هذه السؤال، لكن بالطبع ودون أدنى شك، أن أنواع من الديناصورات قد تطورت إلى حيوانات صغيرة جداً تجلس على شجرة بالقرب منك.
الطيور الحالية، وعلى وجه الخصوص عائلة الغربان، قد طوّرت سلوكيات معقدة تتناسب مع براعة الكثير من الرئيسيات. إستخدام الأدوات، مهارات الخداع، التعرف على الأوجه- أو سمها ماشئت، باستطاعتهم فعلها!
لماذا بعض الطيور ذكية جداً؟
«ستيك والاش» من المتحف الوطني الإسكتلندي يعتقد أن تلك الأسس تم وضعها من قبل أسلافهم الديناصورات والتي من المحتمل أنها كانت تقفز حول الأشجار قبل أن يأخذها الهواء في نهاية المطاف، حيث أن هذا السلوك تم تفضيله بشكل مشابه لما فضّلته الرئيسيات في تسلقها للأشجار.
رؤية ممتازة، تنسيق حركي وتوازن، كل هذه الأمور قد حدثت عن طريق توسع أجزاء دماغية تعرف بالمخيخ والسقف البصري.
ولكي تتنافس مع باقي الحيوانات، بدأت الديناصورات متسلقة الاشجار هذه في تطوير إستراتيجيات جديدة تحتاج جهداً عقلياً، مما أدى إلى توسع أجزاء الدماغ الأمامية لديها. هناك الكثير من الحفريات العائدة للديناصورات، كما يقول، والذين يملكون بالفعل لهياكل واسعة كانت تحتوي عقولاً من قبل.
لذا فأن أسلاف الطيور تمتلك أدمغة كبيرة نسبياً بالمقارنة مع حجوم أجسامها، ونمت وتطورت بشكل مناسب وأكثر تقدماً ساعدها على الطيران. هذه القدرات قد مكنتها من النجاة من الإنقراض الكبير الذي إنقرضت فيه بقية الديناصورات. يقول والش، «إن هذه القدرات ساعدتهم في البحث عن الطعام مابعد الكارثة.» إن أدمغة الطيور مبنية بشكل مختلف عن أدمغة الثدييات. الثدييات قامت بتطوير طبقة خارجية تعرف بـ(القشرة المخية الجديدة) والتي نراها مفقودة عند الطيور.
على الرغم من ذلك، فأن توسع القشرة الأمامية لدى الثدييات وتوسع الدماغ الأمامي لدى الطيور قد نفذ وظائف مماثلة.
كيف للطيور أن تكتسب الذكاء؟
مع كل مواهب صنع الأدوات لدى الغربان، ييدو أن المنقار ليس جيداً بما يكفي للتلاعب بالأشياء كما تفعل الرئيسيات بأيديهم، وهذا قد يحد من تنمية عقول الطيور. على الرغم من تكهّن البعض في أن أجنحة الطيور الأرضية قد تم اعادة تطويرها لاستيعاب الأطراف الأمامية.
المصدر: هنا