الرئيسية / فلك / الكونُ متجهٌ نحوَ الزوالِ ببطء

الكونُ متجهٌ نحوَ الزوالِ ببطء

جميعُنا يعلمُ بأنﱠ كونَنا قدْ مرﱠ خلالَ وجودهِ بعددٍ كبيرٍ من المراحلِ الرائعة. لكنﱠ بحثاً جديداً صدرَ بينَ ليلةٍ وضُحاها أظهرَ بأنﱠ الكون قدْ تجاوزَ مرحلةَ ذروته مُنْذُ وقتٍ طويل وهو الآنَ يحتضرُ بالتأكيد ولكن بشكلٍ بطيء.

عندما كانَ عُمر الكونِ أقلﱠ من ثانيةٍ واحدة وكانت درجةُ حرارته تُعادلُ أكثرَ من مليار درجةٍ سيليزية، كانت حرارتُه هذه كافيةً لجعلِ الأجسامِ الغريبةِ تدخلُ وتخرجُ فجأةً من الوجود. ومع توسع الكون، فقدْ إنخفضت حرارتُه إلى الحد الذي جعلهُ غيرَ قادرٍ على إنتاجِ جسيماتٍ ذاتِ طاقةٍ هائلة. وبعد عدة ثوانٍ، كان الكون عبارةَ عن بحرٍ من البروتونات والنيوترونات، وبعدَ عدة دقائق كان أغلبُهُ مكسواً بسحابةٍ ضبابيةٍ كثيقة من الهيدروجين والهيليوم. وكانت هذه هي نهاية العمل حيث توقف بعد400,000 سنة عن صناعة مركباتٍ أكثرَ تعقيداً.

وبعد ذلك، وبشكلٍ مفاجئٍ جداً، إنفصلت المادةُ والإشعاعُ عن بعضهُما وتمكنت فوتونات الضوءِ من أنْ تتدفقَ بشكلٍ حرٍ في الكون وكانت هذه المرةُ الأُولى من نوعها التي يحصلُ فيها شيءٌ كهذا. وقد كانت هذه التفاصيلُ مثيرةً جداً لعلم الكونيات، ولكنﱠ شيئاً مهماً ايضاً قد حصل للهيدروجين والهيليوم: إنها الأن تستطيعُ أنْ ترتبطَ بالألكترونات وتكون ذراتٍ متعادلة.

وفي خطوةٍ أخرى من أجل خلقنا أنا وأنت: نحنُ بحاجةٍ إلى الهيدروجين المتعادل لكي نكونَ الهيدروجين الجزيئي، وعندَ تكوﱢن الهيدروجين الجزيئي فإننا نحتاجُه لتبريد حُزم الغاز التي تنهارُ بسرعةٍ لتكوين النجومِ الأولى، ونحتاج النجوم لنكون العناصر الثقيلة كالكاربون والأوكسجين والتي تعتبر اللبنات الأولى للحياة.

في هذه المرحلةِ كانَ عُمر الكون لا يتجاوزُ بضعةَ مئات الملايين من السنين، وقد كان مشغولاً بإعادةِ تسخين نفسه بعدما أطلقت النجومُ الأولى أشعتها إلى المواد المحيطة بها. كانت هذه النجوم تُفجرُ نفسها محررةً كمياتٍ كبيرة من الأصناف الذرية الثقيلة في الفضاء، منتجةً العديدً من العناصر الأثقل والتي نراها اليوم في عالمنا. بعضُ هذه النجوم ربما إنهار أيضاً مكوناً ثقوباً سوداء، زارعةً البذور الأُولى لبعضٍ من المجرات الهائلة المتواجدة في كوننا الحالي.

بعدَ هذهِ المرحلة المبكرة من تكوين النجوم الأولى، ابتدأنا برؤية التراكيب الأولى والتي تُشابه المجرات الحديثة، لكن بصورةٍ فوضويةٍ وعنيفةٍ جداً. وبعد عدد من ملياراتِ السنين بدأت هذه المجراتُ بالتصادم مع بعضها البعض مكونةً أنظمةً ضخمةً وكان تكوينُ النجوم يتراوح بسرعةٍ بين التنشيط والتثبيط. إستمرَ هذا النشاطُ حتى أصبح عُمر الكون 3  مليارات سنة، وقد عُرفت هذه الفترةُ بفترة ذروة تكوين النُجوم الكونية. لذلك نجدُ بأنﱠ الكون قد أنجزَ مُعظم أشياءِه المثيرة في وقتٍ مبكرٍ حقاً.

إذنْ ماذا يفعلُ الكونُ منذُ ذلك الحين ؟ إنه يحتضر ببطء وثبات. إن الكون لا يزالُ يُنتج نجوماً جديدةً بين حينٍ وآخر، لكنﱠ مُعدل إختفاء النجوم القديمة يفوقُ معدل تكوين النجوم الجديدة اليافعة.

ومما فاقمَ الأُمور أكثر من ذلك، قبل 3 مليارات سنة مضت بدأ كيانٌ غامضٌ يُدعى بالطاقة المظلمة بالهيمنة على محتوياتِ طاقة الكون وتعجيل تشتيت كل شيء (وقد حصل عددٌ من العلماء على جائزة نوبل لتمكُنهم من قياس هذا التعجيل). الكونُ كان قد بدأ فعلاً بالأفول في تلك المرحلة، لكنﱠ ظهور الطاقة المظلمة على مسرحِ الأحداث جعلَ الأمور تسيرُ بشكلٍ أسوء بكثير.

وقد يتساءل أحدُهم، كيف لنا أنْ نعرف كلﱠ هذا ؟ حسناً، لقد كنا نجمعُ الأدلة على هذا منذُ فترة وعددٌ من النماذج المتطورة للمجرات قد إقترحت مسبقاً بأنﱠ الكون في طريقه إلى الزوال، ولكننا أردنا أنْ نُلقي نظرة مباشرةً على هذا التأثير والذي تبلور خلال ملياراتٍ من السنين.

في السنين القليلة الماضية، إنطلقَ مشروعٌ استرالي ضخم يدعى  بجمعية الكون والأجرام السماوية Galaxy And Mass Assembly (GAMA) وكان يهدٌفُ لإنشاءِ دراسةٍ استقصائيةٍ بذلت جهوداً هائلة في حساب معظم الطاقة المنبعثة من النجوم. وتمﱠ في هذه التجربة ملاحظةُ العديدِ من المجرات والتي تُشع إشعاعاتٍ ذاتِ أطوالٍ موجيةٍ مختلفة وتمﱠ حساب جميع هذه الكمية من الإشعاعات لعددٍ من المجرات يصلُ عددُها إلى 200,000 مجرةٍ والتي انبعثت منها لحوالي 5 مليارات سنة مضت، وقد أشارت النتائجُ إلى خمولٍ كبير في الطاقة المنبعثة من النُجوم الكونية.

لكنْ لا تقلق فهنالك أخبارٌ جيدةٌ تشيرُ إلى أنﱠ النجوم قدْ صُنعت لتستمرَ لعددٍ من ملياراتِ السنين القادمة (وبما في ذلك الشمس). بعضُ النجوم الأصغر منها  من المفترض أنْ تستمر في إشعاعها لمدةٍ أطولَ منْ عُمر كوننا. هُنالك عددٌ من التساؤلاتِ حول ما يعنيه بالضبط سيطرةُ الطاقة المظلمة وما تأثيرُهُ على المدى البعيد، وتُحاول عددٌ من النظريات الغريبة والمتضاربة الإجابةَ على هذه التساؤلات بالقول أنﱠ هذه الطاقة ستُمزق كل شيء وتحوله إلى شقٍ كبير.

ولكنﱠ النظرية التي توافُق معرفتنا الحالية وأقل دراميةً من تلك النظريات الغريبة تقولُ بأنﱠ الكون سيستمرُ في الخمول إلى الأبد، وستتحركُ التراكيبُ العديمةُ الجاذبية بشكلٍ ثابت مبتعدةً عن بعضها البعض. بعد تريليونات السنين سيكون بمقدورنا مشاهدةُ كونِنا فقط حيثُ ستنتقلُ بقيةُ المجرات بعيداً جداً عنا. بعدَ مئات تريليونات السنين لنْ تُخلق أيﱡ نجمةٍ في أيﱢ مكانٍ على الإطلاق.

بعد ذلك، ستقومُ مجرتنا بقذف ما تبقى لديها من نجومٍ إلى الفراغ الكوني، وما سيتبقى سينهارُ إلى داخل ثقبنا المركزي الأسود. كل المواد التي نعرفها حالياً ستضمحلُ في النهاية، ستتبخرُ الثقوبُ السوداء وما يتبقى سيكونُ مجرد مكان خالٍ ومليءٍ بالوحدة.

سيكفﱡ الكونُ عن تحويل الكتلة إلى ضوء، وسيُترك في ظلامٍ دامس. ستلتقي الفوتونات، الألكترونات، البوزترونات والنيوترونات مع بعضها من وقتٍ لآخر، لكنه سيكون لقاءاً سريعاً جداً وليس له أيﱡ فائدة حيثُ أنهم سيُكملون مسيرتهُم منفردين مجدداً. وسيفنى الكونُ الذي نعرفُه اليوم بكلﱢ معانيه.

يُمكنُ إعتبارُ المرحلة التي نحن فيها الآن بمرحلة مخاض الموت البطيء للكون. ولكنْ هنالك ملاحظةٌ مبهجة يجب أن نذكرها، وهي أنﱠ الكون يعيشُ صيفهٌ الهندي الآن. أعتقدُ بأننا نتفقُ على أنه يستحقُ إستراحةً جيدة بعد كلﱢ تلك الأيام المبكرة المحمومة التي مرﱠ بها هذا الكون.

 

المصدر: هنا

عن

شاهد أيضاً

أرقام غريبة حيرت الفيزيائيون

بقلم بول راتنر 30/12/2018 ترجمة: أحمد طريف المدرس تدقيق: ريام عيسى تصميم الصورة: اسماء عبد محمد هل يعتمد عالمنا، بما في ذلك …

إمكانية السفر عبر الزمن

بقلم: جيم خليلي 11 تموز 2019 ترجمة: ريام عيسى إنه السؤال العلمي المفضل للجميع: هل …