إن الإنسان أبعد ما يكون عن كونه النوع الوحيد من الكائنات الذي يستخدم التكنولوجيا، ففي عام 1871 كتب تشارلز داروين: “لقد كان غالبا ما يقال أنه ما من حيوان يستخدم الأدوات.”، وبعد ذلك قام فرحا بسرد قائمة طويلة من الأدلة على عكس ذلك، إحدى أمثلة داروين كانت تتعلق بالفيل الآسيوي، حيث أنه يطرد الذباب عنه عن طريق التلويح بغصن ممسكا إياه بخرطومه، وهو لا يلوح بأي غصن يجده، بل إنه يقوم بإجراء تعديلات عليه عن طريق إزالة الأفرع أو تقصير الساق، كما أنه أحيانا يزيل اللحاء عن إحدى الكروم ويستخدمها بدل الغصن.
هنا يكمن الفرق الأساسي بين الأدوات وجحور الأرانب أو شبكات العنكبوت مثلا، حيث أن الفيلة تصنع أدواتها عن طريق إعادة تشكيل (أو معالجة) أشياء محددة تبحث عنها، فهي لا تستخدم فقط الأشياء التي تجدها بالصدفة، ولا تحفر في الأرض من دون غاية، ولا تحصر وظيفتها في إفرازاتها الجسدية.
يعد تكسير الأغصان من قبل الفيلة أمرا بسيطا إذا ما قورن بالتكنولوجيا لدى الطيور، حيث أن الطيور لا تكسر الأغصان فحسب بل هي تأخذ الفروع الصغيرة مع العشب وأدوات أخرى وتصممها على شكل منازل، قد تكون هذه المنازل في غاية التعقيد، فهنالك نوع من طيور الشوك تبني أعشاشها بعلو قد يصل إلى مترين وعرض قد يصل إلى نصف متر، وتتكون من أربع غرف أو أكثر، ويكون هذا البناء في غاية القوة بحيث يمكنه هو والبيض الذي في داخله النجاة ومن دون إصابات في حال وقوعه من علو أمتار عدة، هذا بالإضافة إلى وجود العديد من الأشواك التي تعمل على صد الحيوانات المفترسة (ولذلك تسمى طيور الشوك) كما تعمل على إخفاء تجاويف المراقبة في العش التي تستطيع الطيور من خلالها مراقبة أي خطر داهم.
إلا أن التكنولوجيا التي يستخدمها القندس قد تكون أعظم تكنولوجيا غير البشرية على الإطلاق، فهو يبني منزلا يسمى “وجار”، كما يعيد تشكيل بيته عن طريق صنع سدود وإنشاء قنوات تساعد على نقل الطعام ومواد البناء.
هناك العديد من النماذج الأخرى على التكنولوجيا عند الحيوانات، والعديد مما يتم اكتشافه كل عام، فكلما نظرنا أكثر وجدنا المزيد، وكل هذه التكنولوجيا لديها نفس الهدف، وهو البقاء على قيد الحياة أو بشكل أدق التكيف للبقاء على قيد الحياة، فالكائنات الحية تستخدم الأدوات لتساعدها على التكيف مع البيئات الصعبة من دون أن تضطر لانتظار التطور ليغير أجسادها، فالتكنولوجيا أسرع من المورفولوجيا، فمثلا تنتمي طيور الشوك لمجموعة من الطيور تسمى الجواثم أو “الطيور الجاثمة”، وأعشاش الجواثم تعد أكثر تعقيدا من تلك التي تبنيها الطيور الأخرى كما يمكن أن تبنى في أي مكان تختاره الطيور، الأمر الذي يساعد الجواثم على التكاثر في بيئات متغيرة، وعلى نحو أدق في العالم الجديد الذي نشأ بعد انقراض الديناصورات ومعظم الكائنات الأخرى منذ 65 مليون سنة، وقد أسهمت الأعشاش في تفرع الجواثم إلى العديد من الأنواع الفرعية المختلفة بشكل سريع، ومع ذلك فقد ظهرت الجواثم بوقت متأخر بالمقارنة مع طيور أخرى، حيث أن ما يقارب نصف أنواع الطيور التي على قيد الحياة في يومنا هذا تنتمي للجواثم، وهنا قد تتساءل: لماذا لا تستطيع الطيور الأخرى بناء أعشاش مثل أعشاش الجواثم؟ والجواب يكمن في أن للجواثم في أقدامها إصبعا خلفيا متحركا يشبه إلى حد ما إبهام الإنسان القابل للتحرك في كافة الاتجاهات، وهو ما يمكّن الطير من الإمساك بالأغصان وبناء أعشاشه.
ما الذي أتى أولا؟ الإصبع أم العش؟
كلاهما تطورا معا، فكل تغير طفيف في أحدهما كان يؤدي إلى تغير طفيف في الآخر كذلك، وبقي الأمر على هذه الوتيرة حتى أدت مجموعة التغيرات الطفيفة هذه إلى فروقات كبيرة في كل من أقدام الطيور وأعشاشها.
البشر الذين يعدون أكثر مستخدمي الأدوات تطرفا، كانوا عرضة لأكثر التغيرات الناتجة عن استخدام الأدوات تطرفا كذلك
ومن أهم الأمثلة على ذلك، الفأس اليدوي فهو قطعة من حجر الصوان يعاد تشكيلها على شكل قطرة في غاية التناسق، وقد كان البشر الأوائل، أي أسلاف الإنسان العاقل، يستخدمونها كأداة لعمل كل شي لخمس ملايين سنة أو أكثر، ويبدو الفأس اليدوي كناب كبير، وهو ناب ذو حجم محدد يستخدم بالقتال وتناول الطعام وصناعة المزيد من الفؤوس، وتظهر الهياكل العظمية للبشر الذين كانوا يستخدمون الفؤوس اليدوية أمرا مثيرا، فبمرور مدد زمنية تطورية طويلة طوروا أسنانا أصغر وأفكاكا أضعف مقارنة بأسنان وأفكاك الحيوانات الأخرى القريبة من النوع البشري مثل الغوريلا، وكذلك بالمقارنة مع أسلاف النوع الإنساني، فقد عملت الفأس اليدوية على إلغاء الحاجة للأسنان الكبيرة التي كانت مهمة من قبل، لقد كان يمكن استبدال تلك الفؤوس في حال ضياعها أو تحطمها، كما كان يمكن شحذها عند الحاجة، وكان يمكن استخدامها جيدا في القتال من دون أن تضطر إلى وضع رأسك ورقبتك في النطاق الذي يستطيع فيه خصمك أن يعضك، أما الأسنان الأصغر والأفكاك الأضعف فقد كان لها فوائد بيولوجية كبيرة، حيث أن ذلك تلك مجالا في الجمجمة للمزيد من خلايا الدماغ، كما غيرت وزن وتوازن الرأس بحيث أصبح من السهل الوقوف بشكل منتصب، لقد غيرت الفؤوس اليدوية أجسادنا وكذلك مسار تطور الإنسان، إنها السبب في جعلنا كائنات عاقلة تمشي على قدمين.
بعد ذلك حدث نمو سريع للتكنولوجيا أدى بنا إلى اكتشاف الكوكب بأكمله والسيطرة عليه، وفي المرة المقبلة إذا سمعت أحدهم يشتكي من أن “التكنولوجيا سيئة” فاطلب منه أن يجرب تخيل التالي:
تخيل أنك منبوذ وعارٍ ومجرد من أملاكك الخاصة في جزيرة برية، وأنت غير قادر على صنع أي أداة، فما لم تجد مأوى طبيعي ومياه طبيعية صالحة للشرب وطعام يمكنك مضغه وهضمه بأسنانك وفكك فقط ستكون في عداد الأموات خلال بضعة أيام، وبعد ذلك تخيل أنه لديك أطفال كذلك، فسيتوجب عليك أن تملك جميع ما ذكر سابقا بكمية كافية للجميع لإبقاء أطفالك على قيد الحياة منذ الولادة وحتى سن البلوغ، ومن ثم تخيل فعل جميع هذه الأمور مع منافسة البشر والكائنات الأخرى التي تحاول جميعها إيجاد مأوى طبيعي ومياه طبيعية صالحة للشرب وطعام قابل للمضغ والهضم ويحاولون المحافظة على حياة عائلاتهم، فكم من الوقت ستستطيع البقاء على قيد الحياة؟ وكم من الوقت سيستطيع البشر البقاء على قيد الحياة؟ إن الإجابة على ذلك بسيطة: فمعظمنا سيموت في غضون أيام قليلة، أما القلة الباقية فستصمد لأسابيع أو أشهر قليلة، فمن دون الأدوات سينقرض النوع البشري في غضون سنة واحدة.
قد يشكل ذلك صدمة لهؤلاء الناس الذين على الأغلب سيكونون أغنياء ومتعلمين وفي وضع مريح، بالرغم من أنهم يرون أنفسهم “طبيعيين بالكامل” أو “ضد التكنولوجيا”، وعادة ما يكون اعتراضهم الأول على هذه التجربة المتخيلة أنه إذا كان أي من ذلك صحيحا فلن نكون موجودين لأن أسلافنا سيكونون قد ماتوا، فإذا استطاعوا هم البقاء على قيد الحياة من دون أدوات فلماذا لا نستطيع نحن؟ والجواب على ذلك بسيط ومفاجئ: فأسلافنا الذين عاشوا ما قبل التكنولوجيا كانوا من أنواع مختلفة عنا، حيث أنهم كانوا يملكون أسنانا كبيرة وأفكاكا قوية وأدمغة صغيرة، وكانوا يتنقلون باستخدام أطرافهم الأربعة معظم الوقت، كما كانوا مغطين بالفرو، وبعدهم أتى أسلاف أحدث، حيث كانوا بشرا ولكن ليسوا إنسانا عاقلا ، فاستخدموا أدوات بدائية غيرت أجسادهم، وهؤلاء الأسلاف تطوروا تدريجيا إلى أن أصبحنا على حالنا هذا.
أجسادنا ليست مصممة للبقاء على قيد الحياة من دون مساعدة التكنولوجيا، فمن دون التكنولوجيا نكون كالطيور من دون أعشاش وكالقنادس من دون سدود، لم ولن نستطيع العيش من دون أدوات.
بمجرد أن أصبحنا إنسانا عاقلا عاقلا، أصبحنا بشرا لا يستخدمون الأدوات فحسب بل بشرا مبدعين، بدأنا بتطوير وتبادل الأدوات والأفكار وكذلك الجينات، كما ازداد تلاحم كل من البقاء على قيد الحياة والابتكار بشكل سريع، لقد قفزنا قفزة نوعية في التطور وتوقفنا عن التطور على الصعيد الفسيولوجي، وبدلا من ذلك فقد كيفنا التكنولوجيا في حياتنا بدلا من انتظار أن تتكيف أجسادنا على مدى المدة الزمنية للتطور، لقد أصبحنا ذلك النوع الذي يستجيب للضغوطات البيئية بأدوات جديدة وليس بأجساد جديدة، فعلى سبيل المثال، عندما اكتظت المناطق المجاورة للمياه الصالحة للشرب بالسكان اخترعنا أوعية الشرب من أجل نقل المياه من الينابيع البعيدة، ومن ثم اخترعنا المضخات والسدود و تحلية مياه البحر، وبعد ذلك تعلمنا كيف نعالج مياه الصرف الصحي ونستصلح الأراضي الصحراوية ، لم ننتج مياه أقل ولم نغير أجسادنا لتصبح في حاجة إلى مياه أقل، ولذلك لم تتطور لنا أسنمة.
إن أدواتنا وأجسادنا هي شيء واحد، فنحن لا نتطور وإنما نبتكر، ولأنه لا يمكننا التكيف من دون ابتكار، فإذا ماتوقفنا عن الإبتكار سوف نتوقف عن الوجود.
المصدر: هنا