بقلم: جريس هوكينز
لموقع: WIRED
بتاريخ: 17. آب. 2020
ترجمة: هندية عبدالله
تدقيق: ريام عيسى
تصميم الصورة: حسن عبدالأمير
إِنَّ علم الأعصاب الشبكي ليس مجرد طريقة جديدة لدراسة الدماغ؛ بل طريقة للاقتراب من جوهره، وكيف يعمل حقًا.
الرسم التوضيحي لـ: SAM WHITNEY
احتدم النقاش بين علماء المخ والأعصاب الأوائل، في منتصف القرن التاسع عشر في أوروبا. الغريب في الأمر أن هذا الخلاف الأكاديمي تعود جذوره إلى العلوم الزائفة لعلم فراسة الدماغ phrenology، وهو علم يقوم على ممارسة قياس النتوءات على الجمجمة لتحديد شخصية الإنسان. لقي علم فراسة الدماغ رواجاً واسعاً لدى عامة الناس؛ حيث أقبلوا عليه في عمليات شراء في المعارض، ولكن معظم العلماء رفضوا هذا العلم رفضًا قاطعًا. بالنسبة للآخرين، كانت خدعة الكرنفال هذه بمثابة لؤلؤة من الإلهام. اعتمد علم فراسة الدماغ على الافتراض القائل بأن أجزاء مختلفة من الدماغ مرتبطة بِسمات وقدرات مختلفة، وهي نظرية تعرف بـ “التوطين” localizationism. كما أن عبثية قياس الجمجمة لا تبطل بالضرورة هذه الفكرة.
ولكن آخرين قَرِفُوا الرائحة النتنة التي تفوح من أعمال الشعوذة والدجل المتشبثة بأي أفكار ترتبط بعلم فراسة الدماغ. ادَّعَى هذا الفريق الثاني بأن القدرات موزعة بالتساوي في جميع أنحاء الدماغ، وبالتالي فإن الضرر الذي قد يلحق بأي منطقة في دماغ شخصٍ ما سيكون له نفس التأثير إن لحق بدماغ شخصٍ آخر. احتدم الجدل بين هذين الفريقين حتى عام 1861م، عندما أَعَّدَ الطبيب الفرنسي المختص بالأعصاب بول بروكا Paul Broca تقريرًا عن مريض يعاني من مجموعة غريبة من الأعراض. وعلى الرغم من عدم مقدرة هذا الرجل على الحديث، لكنه كان قادرًا تمامًا على فهم اللغة، وبدا أن ادراكه لم يتأثر بالإصابة. وعندما مات المريض شرَّحَ بروكا Broca دماغه، ليكتشف أن هنالك أذى، أو موضع تلفٍ شديدٍ، أسفل الجانب الأيسر من دماغه. إنَّ هذا الشخص أُصِيبَ بتلفٍ دماغي في منطقة معينة وفقد قدرة معينة بحد ذاتها- بينما ظلت بقية وظائفه سليمة! لقد برأت ساحة التوطين إذاً وستهيمن هذه النظرية على علم الدماغ خلال الـ 150 عامًا القادمة.
إن عمل علماء الأعصاب على افتراض أن أجزاء مختلفة من الدماغ لها وظائف منفصلة، جعلتهم يحرزون تقدمًا ملحوظًا نحو فهم كيفية عمل الدماغ. فقد اكتشفوا أن الرؤية تحدث في الجزء الخلفي من الرأس، وأن تاجًا من الأنسجة في الجزء العلوي من الدماغ يرسل أوامر إلى العضلات حتى يتمكن الجسم من التحرك، وأن بنية صغيرة تقع أسفل الأذن لها مسؤولية محددة في التعرف على الوجوه. تتكون كل هذه المناطق من المادة الرمادية gray matter، وهي عبارة عن نوع من الأنسجة التي تحتوي على أجسام خلايا عصبية neuron cell bodies تغطي سطح الدماغ. تحتها تكمن المادة البيضاء white matter، والتي تمتد في حُزَمٍ من الألياف بين مناطق المادة الرمادية وتحمل الرسائل في جميع أنحاء الدماغ. ولكن على الرغم من أن اكتشاف وظيفة جزء معين من المادة الرمادية يمكن أن يكون واضحًا بدرجة كافية- ابحث عن شخص مصاب بضرر في تلك المنطقة ولاحظ ما لا يستطيع فعله – فقد ثَبُتَ أن تحديد ماهية المادة البيضاء أمرٌ أكثر صعوبة. تقول دانيلا باسيت Danielle Bassett، أستاذة الهندسة الحيوية بجامعة بنسلفانيا، ” كنا نتجاهل هذا الترابط لمدة طويلة لأننا لم نكن نعرف كيف نُعَبِّرُ عنه.”
ومع ذلك، فقد استفاد باحثون مثل باسيت Bassett خلال العقود القليلة الماضية من تقنيات تصوير الدماغ الجديدة والأدوات الرياضية لبدء اكتشاف غموض هذه الروابط. لقد شكلوا معًا مجالاً جديدًا يعرف باسم علم الأعصاب الشبكي network neuroscience. أوضح بعض الباحثين أن الاضطرابات الناجمة عن الفصام والسكتة الدماغية بدت أنها لا تعتمد على مناطق الدماغ في الفرد، بل على الدوائر circuitry الكامنة بين تلك المناطق. بعيداً عن عَالَمِ الأمراض، استخدم علماء آخرون شبكات الدماغ brain networks لتحقيق فهمٍ أفضل حول كيفية اختلاف شخصياتنا وسماتنا الأخرى. ومع استمرار تقدم هذا المجال، قد يتمكن العلماء المتسلحين بعلم الأعصاب الشبكي من التنبؤ بمن سَيُطَوِّرُ مرضًا معينًا، ويفهم عمليات الدماغ الكامنة وراء أعراضه، ويصمم علاجات أفضل له. يقول مايكل فوكس Michael Fox، الأستاذ المساعد في علم الأعصاب في مدرسة طب هارفارد، ” إذا كنت تريد فهم وظائف المخ وأعراض وأمراض الدماغ، فإن الكم الهائل من الأدلة يقول بإن الوحدة الأساسية لكيفية عمل الدماغ ليست منطقة في الدماغ بل دائرة دماغية a brain circuit.”
حتى على مستوى الخلايا المنفردة، تُظْهِرُ الأدمغة أدلة وفيرة لطابعها الشبكي. تقول باسيت Bassett، “الخلايا العصبية ليست كروية، فالخلايا العصبية لها جسم خلية، ولها طرف طويل يسمح لها بالارتباط بالعديد من الخلايا الأخرى.” “يمكنك حتى أن تلقي نظرة على مورفولوجيا (علم التشكل) الخلية العصبية والقول، حسنًا، يجب أن نهتم بالترابط connectivity. عدا ذلك، لن يبدو الأمر على هذا النحو.” بالنسبة لباسيت Bassett، فإن علم الأعصاب الشبكي ليس مجرد طريقة جديدة لدراسة الدماغ، بل تقنية يمكنها أن تُقَدِّمَ رؤى من مجالات متنوعة لعلم الأعصاب. إنه، بالأحرى، طريقة نقترب بها من جوهر الدماغ، وكيف يعمل حقًا.
يتفق أولاف سبورنز Olaf Sporns، أستاذ العلوم النفسية والدماغ في جامعة إنديانا، على أن “الدماغ بالمعنى الحرفي للكلمة عبارة عن شبكة”. وأضاف ” ليس ذلك تعبيرٌ مجازي. كما أنني لا أقارن بين التفاح والبرتقال. أعتقد أن هذا ما هو عليه حرفيًا”. فإن تَمَكَّنَ علم الأعصاب الشبكي من أن ينتج صورة أكثر دقةً ووضوحًا للطريقة التي يعمل بها الدماغ حقًا، فقد يساعدنا ذلك في الإجابة عن أسئلة حول الإدراك والصحة التي لطالما أزعجت العلماء منذ زمن بروكا Broca. يقول سبورنز Sporns، “لقد أوسعنا الآن النطاق.” “فنحن ننظر إلى النظام بأكمله.”
لا تعد الفكرة القائلة بأنه يجب علينا فحص ترابطات الدماغ وليس فقط دراسته منطقة تلو الأخرى بالجديدة بأي حال من الأحوال. يقول فوكس Fox، “كان فيرنيك Wernicke، الذي عاصر بروكا Broca، في الواقع شديد التركيز على الدوائر.” وعلى غرار بروكا Broca، أجرى كارل فيرنيك Carl Wernicke– الطبيب الألماني- بحثًا عن مرضى يعانون من تلف في الدماغ تسبب في مشاكل معينة في الكلام. وعلى الرغم من أنه ربما كان يشتبه في أن النسيج الأبيض في مركز الدماغ ساهم في هذه الإعاقات، لكنه لم يكن لديه أي سبيل للعمل على فرضيته. ولكن في رائعته التي ألفها عام 1874م، الأعراض المعقدة للأفازيا (الحبسة الكلامية) The Symptom Complex of Aphasia، توقع فيرنيك Wernicke بشكل غريب علم الأعصاب الشبكي الحديث. وكتب، “إن أبسط الوظائف النفسية لمناطق محددة من القشرة الدماغية هي فقط ما يمكن تعيينه”. “كل ما يتجاوز هذه الوظائف البسيطة – كربط الانطباعات المختلفة بالمفهوم والتفكير والوعي- ليس إلا إنجازاً للسُبُلِ الليفية [أي المادة البيضاء] التي تربط المناطق المختلفة من القشرة ببعضها البعض.”
ومع ذلك، فشلت أفكاره في ذلك الوقت في كسب الكثير من التأثير. يقول سبورنز Sporns، “بدون بيانات، لا يمكنك فعل الكثير.” “يمكنك أن تصوغ النظريات، لكن ما من أحدٍ يود سماعها.”
وبعد انقضاء قرن واحد فقط على وفاة فيرنيك Wernicke، أحرزت التكنولوجيا تقدمًا كبيرًا بما يكفي بحيث تمكن العلماء من البدء في دراسة روابط الدماغ بجدية. يقول سبورنز Sporns، والذي كان حينها قد أكمل لتوه درجة الدكتوراه في علم الأعصاب، “أُتِيحَ لنا النوع الأول من بيانات الشبكة في مطلع التسعينيات.” “في تلك الأيام، كان جمع البيانات أمراً شاقًا: كان على العلماء حقن مواد تسمى “أجهزة تتبع” tracers في مواقع معينة في دماغ الحيوان والانتظار لأسابيع حتى تقفز أجهزة التتبع تلك في السُبُلِ الليفية fiber tracts وتصل إلى مناطق أخرى مترابطة. عندما شَرَّحُوا الحيوان ورأوا المناطق التي وصل إليها جهاز التتبع، استطاعوا استنتاج أن موقع الحقن الأساسي لابد أن يتصل بتلك المناطق.
لاحقاً، حَقَنَ عددٌ كافٍ من العلماء ما يكفي من أدوات التتبع في عدد كافٍ من القرود بحيث كان لدى سبورنز Sporns وزملائه خريطة لأجزاء الدماغ المرتبطة ببعضها البعض. مَثَّلَت الخريطة كل منطقة من مناطق الدماغ على أنها “عقدة” node، تُصَوَّر عادةً على شكل دائرة أو نقطة، وجعلت كل ترابط بين المناطق في “حافة” أو خط، بين العقد المماثلة. وكالخيط الممتد عبر لوحة البلاغات في مشهد من إجراءات الشرطة، كان من الصعب تحليل شبكة دماغ القرد الأولى هذه رابطًا برابط. يقول سبورنز Sporns، “مرت السنوات العشر الأولى على ذلك بطيئة جدًا لأن المجال كان صغيرًا جدًا”. “كما أننا لا نملك الكثير من البيانات للتعامل معها.” يمكن لخريطة واحدة فقط أن تكشف الكثير. ولجعل الأمور أكثر تعقيداً، لا يمكن تتبع الروابط في دماغ الإنسان بنفس الطريقة المستخدمة على القرود؛ والسبب في ذلك هو أن تقنية التتبع تستلزم في نهاية المطاف قتل الحيوان.
ولكن في الوقت الذي أجرى فيه سبورنز Sporns دراسته على الحيوانات، كان باحثون آخرون يبتكرون طرقًا جديدة غير باضعة للنظر في مكنونات ما يوجد تحت الجمجمة البشرية. ففَتَحَتْ تقنيتان من التقنيات التي طوروها الباب لمجال علم الأعصاب الشبكي على مصراعيه. ربما تكون قد شاهدت صورًا للدماغ من الداخل بواسطة الحاسوب والتي تبدو كحزمٍ من الأسلاك متعددة الألوان في مصف الخوادم. توضح هذه الصور الخريطة العصبية للدماغ – مجموعتها الكاملة من الارتباطات- وتُنْشَأ باستخدام تقنية تسمى التصوير مصفوف الانتشار diffusion tensor imaging (DTI). وبقياس الاتجاهات التي تتدفق فيها جزيئات الماء في الدماغ، سيتمكن العلماء من رسم مسارات المادة البيضاء التي تتقاطع تحت المادة الرمادية في الدماغ. وباستخدام البيانات التي حصلنا عليها عن طريق التصوير مصفوف الانتشار DTI، سيتمكن الباحثون من ترجمة مناطق المادة الرمادية إلى عُقد وسَتُتَرجَمُ سُبُل المادة البيضاء إلى حواف. غالباً ما يُشار إلى النتيجة باسم “رسم بياني لشبكة الأسلاك” wiring diagram للدماغ، مثل المخططات التي توضح كيف تتصل المكونات في الأجهزة الإلكترونية. يقول فوكس Fox، الذي درس الهندسة الكهربائية قبل أن يضع نصب عينيه دراسة الدماغ، “بالنسبة لي، هذا هو التقاطع الطبيعي بين الهندسة الكهربائية وعلم الأعصاب.”
ولكن بمجرد معرفة مواقع مسارات المادة البيضاء فلن يخبرك ذلك بالضرورة بوظيفتها. لذلك يتخذ العلماء نهجًا تكميليًا، يسمى التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي functional magnetic resonance imaging (fMRI)، وذلك للوصول إلى نوع آخر من شبكة الدماغ. يمكن لتصوير الرنين المغناطيسي الوظيفي أن يقيس بشكل غير مباشر مناطق الدماغ النشطة في نقاط زمنية معينة عن طريق تسجيل تدفق الدم- فكلما زادت مساحة الدماغ، زادت كمية الدم الذي يحتاجها. ومن خلال ملاحظة أي أزواج المناطق نشطة في آن واحد، يستنتج الباحثون علاقة تعرف بـ “الاتصال الوظيفي” functional connectivity بينهما. كما يعد تجميع كل روابط الاتصال الوظيفية هذه وترجمتها إلى حواف طريقة أخرى لتمثيل الدماغ كشبكة.
لا يعني بالضرورة نشاط منطقتين في الوقت ذاته أنهما متصلتان ماديًا ببعضهما البعض، كما لا يشير ذلك إلى أنهما يعملان معًا لإحداث سلوك ما. يقول سبورنز Sporns، “إنها ليست وظيفية فعلاً.” “إنه ليس اتصالًا حقيقيًا على الإطلاق.” وعلى عكس الشبكات المبنية على التصوير مصفوف الانتشار DTI، فإن شبكات الاتصال الوظيفي تستطيع أن تتغير بمرور الوقت، حيث تعمل مناطق الدماغ معًا على نحو مختلف في سياقات مختلفة. ومع ذلك، فإن الارتباط هو إشارة، لأي سبب من الأسباب، بأن منطقتين تتبادلان المعلومات بطريقة ما.
بسبب هذه القدرة على التعاون، فإن الدماغ أكثر من مجموع أجزائه. وبشرح لماذا يمكن للشبكات أن تساعدنا في معرفة كيفية عمل الدماغ، توصلت باسيت Basset إلى تعبير مجازي فيما يخص الإلكترونيات، “إذا أعطيتني كل قطع الراديو، وسألتني،” ما هذا الشيء؟ “حتى لو كنت أعرف غرض كل قطعة، فلن أكون بالضرورة قادرة على إخبارك بأنه سيكون راديو.” في نقاط أخرى، تراها تنجذب إلى الفنون، فتصف الدماغ بأنه يعمل كالأوركسترا، “لدينا كل آلات النفخ، كما نملك آلات النفخ النحاسية والوترية والإيقاعية. ولكي نؤلف موسيقى حقًا، يجب أن نكون قادرين على جعل كل تلك التوليفة المختلفة تعمل معًا، بطريقة تخلق سيمفونية “.
تتمثل إحدى الميزات الخاصة لنهج الشبكة في أنه يسهل هذه المقارنات: لا لأجهزة الراديو والأوركسترا فقط بل أيضًا لشبكات الطاقة وخرائط الطرق- وبشكل خاص للشبكات الاجتماعية، النوع الذي على الأرجح أن معظم الناس أكثر دراية به هذه الأيام. انجذبت بيترا فيرت Petra Vértes، الزميلة في المعلوماتية الحيوية bioinformatics بجامعة كامبريدج، في بادئ الأمر إلى علم الأعصاب الشبكي لأنه وحَّدَ العديد من المشكلات المختلفة ظاهريًا في إطار مماثل. فتقول، “ما أدهشني حيال ذلك هو مدى قابلية تطبيق نفس اللغة الرياضية على نطاق واسع في العديد من المجالات المختلفة،” “يمكننا جميعًا أن نربط فكرة الشبكة، مثل شبكة المدن المتصلة بالطرق السريعة. ومع ذلك، فإن هذا الإطار النظري البسيط، والذي يفسح المجال أيضًا للتجسيد المرئي على نحو جيد، فد تُستَخدَمُ بطريقة ما لسبر أغوار أسئلة عميقة وغامضة حقًا.”
والآن وبالتسلح بأداتين منفصلتين لقياس شبكات الدماغ البشري بأمان في أقل من ساعة، فقد قطع مجتمع علم الأعصاب الشبكي شوطًا كبيرًا منذ أيامه الأولى. يقول سبورنز Sporn،” لقد حرَّرتنا القدرة على العمل أخيرًا ليس فقط بمجموعة واحدة أو مجموعتين من البيانات، ولكن المئات، والآن وفي الوقت الراهن، بالآلاف من المجموعات البيانية.” ” نحن الآن غارقون جدًا في البيانات لدرجة أنها تكاد أن تكون طوفانًا.” في نهاية المطاف، يستخدم الباحثون هذه الشبكات الوظيفية لتطويع الدماغ للكشف عن بعض أسراره.
تتمثل إحدى عيوب البحث التقليدي لعلماء نظرية التوطين في أنه يتضمن دائمًا جعل الشخص يقوم بمهمة معينة ومراقبة كيفية تغير نشاط دماغه استجابةً لذلك. في حين أن البحث الشبكي يمكن اجراءه عندما لا يقوم الناس بعمل أي شيءٍ على الإطلاق. وهذا مهم عندما تدرس الطرق التي يختلف بها الناس عن بعضهم البعض- بما في ذلك في الصحة والمرض. يقول فوكس Fox، “إذا كنت مصابًا بالفصام، فلا يزال لديك مرض انفصام الشخصية حتى عندما لا تقوم بمهمة الذاكرة العاملة a working memory “. ولأن بناء الشبكات ممكنٌ فقط من خلال مراقبة ما يفعله الدماغ عندما لا يُطلب منه أي شيء، فبإمكان علم الأعصاب الشبكي أن يقترب من الحالة الطبيعية للشخص.
ومما يثير الاهتمام، أنه عند دراسة العلماء للدماغ في هذه الحالة الطبيعية، فإن الفروق الفردية على ما يبدو تظهر بشكل بارز. أوضحت إميلي فين Emily Finn، الأستاذة المساعدة في علوم النفس والدماغ في كلية دارتموث Dartmouth، أن أشخاصًا مختلفين يميلون إلى أن يكون لهم أنماطهم الخاصة من الترابط الوظيفي. تقول فين Finn، “يوجد ذلك النوع من النبض الداخلي للدماغ، وتميل أدمغة أشخاصٍ مختلفين إلى نوع من النبض بأنماط مختلفة قليلاً”. “وبعد ذلك عندما تقوم بتطبيق مهمة ما، فأنت نوعًا ما تقوم بتغييرٍ طفيفٍ على كل ذلك.”
تقول باسيت Bassett إن أنماط الترابط المميزة هذه تُقَيِّد – لكنها لا تُحَدِّدُ تمامًا – الأنماط الحيوية لنشاط الدماغ. إنها تُشَبِّه ذلك بالطرق المختلفة التي قد يجتاز بها الناس مبنى ما. “يحتوي المبنى على هندسة معمارية واحدة، لكن قد يمشي البشر الذين يتجولون في هذا المبنى جميعًا بشكل مختلف تمامًا”، كما تقول. “وما يرونه وما يفعلونه وما يمكنهم فعله ومن يتواصلون معه يعتمد على مشيهم. صحيح، إنه مقيد بمكان وجود الجدران، ولكن هناك العديد والعديد من مسارات المشي الممكنة في مبنى واحد.”
ربط العلماء شبكات الدماغ بسمات مثل الشخصية وتشخيص الأمراض النفسية والأداء على مجموعة متنوعة من الاختبارات النفسية. استخدمت فين Finn الأنماط المميزة لترابط الدماغ التي وجدتها في كل فرد لتخمين مدى نجاحهم في اختبار الذكاء. فقد تمكن في الآونة الأخيرة مجموعة من الباحثين في معهد كاليفورنيا للتقنية من استخدام شبكات الدماغ الفردية للأفراد للتنبؤ بمدى انفتاحهم على التجارب الجديدة. فيوفر تحليل الشبكة في بعض الحالات ميزات واضحة مقارنة بالطرق التقليدية. تقول فيرت Vértes، التي استخدمت علم الأعصاب الشبكي لدراسة الاضطرابات التي تشمل الاكتئاب إلى الاضطرابات النفسية اللاحقة للإصابة post-traumatic stress disorder، “قد يكون التنبؤ بالأنماط الظاهرية للشبكة أكثر قوة، إذا كان من المحتمل إصابة شخص ما باضطراب ما.” في الآونة الأخيرة، عملت فيرت Vértes في مشاريع اُستُخدِمَ فيها الشبكات لتحديد مرضى الاضطرابات النفسية اللاحقة للإصابة post-traumatic stress disorder PTSD الذين من المستبعد أن يستجيبوا للعلاج النفسي وكذلك لربط العيوب في أدمغة الأفراد المصابين بالفصام بجينات معينة.
وعلى الرغم من أن نهج الشبكة قد طُبِّقَ على كل فئة من فئات الأمراض العقلية، لكنه أثبت أنه مناسبٌ بشكل خاص لفهم مرض انفصام الشخصية. يعتبر مرض الفصام أكثر شيوعًا مما يدركه كثير من الناس- فهو يؤثر على حوالي 1 بالمائة من سكان الولايات المتحدة – كما أن أعراضه معقدة. ولا يعاني الأشخاص المصابون بالفصام غالبًا من الأعراض المعروفة على نطاق واسع من هلاوس سمعية وأوهام فقط، والتي يطلق عليها “الأعراض الإيجابية”، بل أيضًا يعانون من “الأعراض السلبية” التي قد تشبه الاكتئاب. لكن العلماء بذلوا جهدهم لشرح كيفية ظهور هذه الأعراض باستخدام الأساليب التقليدية. تقول باسيت Bassett، “ليس الأمر كما لو أن هنالك منطقة واحدة تأثرت بالفصام”. “بل هنالك العديد والعديد من المناطق، حيث تتأثر تفاعلاتهم مع بعضهم البعض.”
وحيثما تكون التفاعلات مهمة، فإن لعلم الأعصاب الشبكي ما يساهم به. غالبًا ما تبدو الشبكات المبنية من أدمغة سليمة وأدمغة مصابة بانفصام الشخصية مختلفة تمامًا: فقد وجد الباحثون باستمرار أنماطًا من الترابط المرتفع أو المنخفض بشكل غير طبيعي في أدمغة مرضى الفصام. لذا فإن الأوهام والهلوسة والأعراض الشبيهة بالاكتئاب قد لا تكون نتيجة تصرف منطقة واحدة بشكل غريب- فقد تنشأ عوضًا عن ذلك بسبب خلل في التواصل بين المناطق.
وعند النظر إليها ككل، يبدو أن شبكات الدماغ المصابة بالفصام تفتقر أيضًا إلى ميزة أخرى مهمة للشبكات السليمة. وفي وقت مبكر من تاريخ علم الأعصاب الشبكي، اكتشف الباحثون أن للدماغ خاصية في الشبكة تسمى “العالم الصغير” small-worldness. شبكة العالم الصغير هي شبكة تقوم فيها معظم العقد بعمل اتصالات قصيرة المدى مع بعضها البعض وتميل إلى التجمع في وحدات متصلة شديدة الكثافة. ومع ذلك، فإن عقدة واحدة على الأقل في كل وحدة تعد محورًا، مما يعني أنها تقوم بإجراء اتصالات طويلة المدى في جميع أنحاء الشبكة. إن هذا النوع من الشبكات مفيد بشكل خاص في معالجة المعلومات- لعل الدماغ البشري تطور ليكون على هذه البنية لكي يعمل بفعالية قدر الإمكان.
ولكن في حين أن الدماغ السليم عبارة عن شبكةِ عالمٍ صغير، فإن الدماغ المصاب بالفصام أقل من ذلك بشكل ملموس – لا يزال من الممكن تنظيمه في وحدات، لكن هذه الوحدات ليست متصلة بكثافة. إذا ساعد العالم الصغير الدماغ على إجراء مجموعة متنوعة من العمليات بفعالية وكفاءة، فإن افتقاره في الدماغ المصاب بالفصام يمكن أن يساعد يومًا ما في تفسير أعراض المرض. تقول فيرت Vértes إن المرض العقلي “قد لا يتعلق بفعل هذه المنطقة أو تلك المنطقة لأمر ما، بل ربما يتعلق فقط بالميزات الكلية للشبكة”. مع ذلك تظل هذه الفكرة مجرد احتمال.
لم يثبت علم الأعصاب الشبكي فائدته في الطب النفسي فحسب: فقد استطاع فوكس Fox أن يستخدم هذا النهج لإجراء روابط دقيقة بين الضرر الذي يصيب الدماغ والأعراض التي يسببها. وينسب فوكس Fox الفضل إلى آرون بوز Aaron Boes، زميل باحث سابق له، لإطلاقِ شرارةِ فكرةٍ أنتجت في النهاية إحدى أقوى الرسوم التوضيحية للفائدة الطبية للدوائر. كان بوز Boes يعمل مع مريض يعاني من اضطراب نادر يسمى الهلاس السويقي peduncular hallucinosis، حيث يتسبب تلف المِهاد، وهو بنية في مركز الدماغ، في حدوث هلاوس بصرية. لكن علماء نظرية التوطين أثبتوا منذ وقت طويل أن الرؤية تحدث في الفَصِّ القَذالِّي، الذي يقع في الجزء الخلفي من الدماغ. ولكن لماذا يتسبب تلف المِهاد في ظهور أعراض بصرية؟
كان لدى بوز Boes حدس بأن الشبكات قد تكون مساهمة في ذلك، لذلك تواصل مع فوكس Fox، وتحَقَّقَا معًا ليس فقط من مواقع الضرر في المرضى الذين يعانون من الهلاس السويقي، بل أيضًا في أي دوائر للدماغ كانت تلك المواقع المتضررة جزءًا منها. يقول فوكس Fox، “ما زلت أتذكر اليوم الذي بدأنا فيه البحث في ترابط مواقع الضرر المختلفة.” ” لقد استمرت القشرة البصرية الخارجية في الظهور، آفة بعد آفة بعد آفة. وأدركنا أننا بصدد معرفة شيء يُحْتَمَل أن يكون في غاية الأهمية.”
تلعب القشرة البصرية الخارجية extrastriate visual cortex، التي تقع في الجزء الخلفي من الدماغ، دورًا أساسيًا في الإدراك البصري. فعندما تتصرف على نحو غير طبيعي، قد يسبب ذلك هلاوس بصرية. وعلى الرغم من أن جميع المرضى يعانون من آفات في مواقع مختلفة، لكن كلاً منها كانت في نفس الشبكة – ومرتبطة بشدة- بالقشرة البصرية الخارجية. وبهذه الطريقة، استطاع كلٌ من بوز Boes وفوكس Fox تبيين أن الأعراض ترتبط بتلف دائرة معينة، وليس موقعًا معينًا. وفي عام 2015م نشرا النتائج التي توصلا إليها في دورية Brain.
قد يبدو من المفارقات أن الآفات، التي أقنعت المجتمع الطبي ذات مرة أن مناطق مختلفة من الدماغ لها مسؤوليات متباينة، يمكنها في الواقع أن تقدم الدعم لمنظور الشبكة. لكن فوكس Fox وزملاؤه أثبتوا منذ ذلك الحين أنه في حين أن عددًا من الحالات المختلفة، مثل الاكتئاب المباغت وعمى الوجوه، يمكن أن يكون سببها تلف في أجزاء مختلفة جدًا من الدماغ، فإن كل اضطراب يرتبط بآفات في شبكة معينة.
بصفته طبيبًا وعالمًا، يهتم فوكس Fox بشكل خاص باستخدام نهج الشبكة لا لفهم أمراض معينة بشكل أفضل فقط، بل أيضًا لعلاجها. لقد قضى سنوات في العمل على تحسين علاجات تحفيز الدماغ لأمراض مثل مرض باركنسون الشلل الرعاشي والاكتئاب. توجد طريقتان أساسيتان لتحفيز الدماغ – التحفيز العميق للدماغ (DBS) deep brain stimulation، والذي يتضمن زرع الأسلاك جراحيًا مباشرة في الدماغ، والتحفيز المغناطيسي عبر الجمجمة (TMS) transcranial magnetic stimulation، وهي طريقة غير باضعة تتضمن تمرير مغناطيس على مواقع محددة في الجمجمة- كلا الطريقتين كانتا متاحتين عندما بدأ فوكس Fox عمله في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، لكنهما كانتا أبعد من أن تصلا للكمال.
تقوم كلتا التقنيتين على فكرة أن بعض الأمراض العصبية والنفسية ناتجة عن نشاط غير طبيعي للدماغ، وقد يكون التحفيز قادرًا على إصلاحها. في مرض باركنسون الشلل الرعاشي، يؤدي تحفيز منطقة تسمى العقد القاعدية basal ganglia إلى تخفيف الأعراض مثل الرُعاش، ويمكن لتقنية ذي صلة وثيقة تسمى التحفيز العصبي المتجاوب responsive neurostimulation أن تهدئ من نوبات الصرع وذلك عبر استهداف مكان نشوئها. “كمهندس كهربائي، فإن فكرة أنه يمكنك وضع أقطاب كهربائية في دماغ شخص ما، وتشغيلها، وأن تَحْدُثَ تأثيرات تشبه المعجزة تقريبًا على أعراض مرض باركنسون الشلل الرعاشي- أو وضع مغناطيس كهربائي فوق دماغ شخص ما وتعالج اكتئابه- بدت تقريبًا ضربًا من الخيال العلمي” كما يقول.
لكن عقودًا من البحث أثبتت أنه بالنسبة لمعظم الأمراض الأخرى، فإن مثل هذه المناطق غير موجودة. وحتى وإن وجدت، فإن التنبيه إلى نقطة معينة لن يظل محصوراً في تلك البقعة، لأن منطقة الدماغ النشطة سترسل إشارات على طول مسارات المادة البيضاء، وهذه الإشارات بدورها قد تنشط مناطق أخرى. تقول باسيت Bassett، “إذا كنت ترغب في تحفيز [منطقة] معينة من الدماغ لتهدئة نوبة ما، فإن تحفيزك لتلك المنطقة لا يبقى هناك- بل ينتقل لأي مكان آخر.”
إلى جانب ما يمنحه علم الأعصاب الشبكي للأطباء من فهمٍ أفضل للنتائج المترتبة على تحفيز الدماغ، فإنه قد يساعد العلماء أيضًا على تصميم تقنيات أفضل. فإن تمكن العلماء على وجه الخصوص، من تحديد الدوائر التي تُجرى وفقًا لتقنية جراحية لحد بعيد مثل التحفيز العميق للدماغ DBS، فقد يتمكنون من تحقيق نتائج مماثلة من خلال طريقة غير جراحية مثل التحفيز المغناطيسي عبر الجمجمة TMS. يقول فوكس Fox، “بمجرد أن يصبح هدفك دائرة، ستستطيع حينها أن تستهدف تلك الدائرة بطرق مختلفة.” “يمكنك البدء في اختبار التأثير العلاجي للدائرة بشكل غير جراحي قبل أن تقوم بذلك جراحيًا.” يمكن أن تسمح هذه الطريقة على وجه الخصوص، للأطباء بالوصول إلى المناطق المدفونة في الدماغ، كتلك المستهدفة في معالجات التحفيز العميق للدماغ DBS لمرض باركنسون الشلل الرعاشي، وذلك من خلال مناطق أقرب إلى السطح. تقول فيرت Vértes، “إذا كانت هذه المناطق متصلة بمناطق أكثر سطحية، فربما، من خلال فهم هذه الشبكة، ستتمكن من معرفة المنطقة المتصلة بأمثل طريقة بالمنطقة المستهدفة حتى يكون نظام التحفيز المغناطيسي عبر الجمجمة TMS فعالاً”.
وعندما يبدأ العلماء في التفكير في الأمراض التي تصيب الدماغ كنتائج لمناطق متعددة تعمل بانسجام، على عكس المناطق المنفردة، سيمكنهم البدء في محاولة استهداف الدائرة بأكملها في وقت واحد. يقول فوكس Fox، “قد تكون أفضل طريقة لمساعدة الأعراض المتموضعة على الدائرة هي في الواقع أقطاب كهربائية متعددة، أو مواقع تحفيز متعددة.”
لا تؤثر العلاجات بالعقاقير، والتي تهيمن على ممارسة الطب النفسي، فقط على مناطق معينة من الدماغ. تمامًا مثل المسكنات التي تخفف من الألم في جميع أنحاء الجسم، تنتشر عقاقير الأمراض النفسية أيضًا في جميع أنحاء الدماغ. ومع ذلك، لا يزال بإمكان علم الأعصاب الشبكي أن يثبت مدى فائدته في تحسين أنظمة الأدوية: فقد يساعد ذلك الأطباء على توجيه اختيارهم للعقار للفرد، وليس للمرض. إذا فهم العلماء بشكل أفضل ما الذي يجعل كل دماغ مختلفًا، فقد يكونون قادرين على الاستفادة من هذه الاختلافات للتنبؤ بمن سيستجيب بشكل أفضل لأي دواء.
تقول باسيت Bassett، “بالنسبة لبعض الأشخاص، قد يكون العقار X فعالًا، وبالنسبة لآخرين، فإن العقار Yهو العقار الفعال، ولن تعرف حتى تجربهما معًا.” “كما إنني أشعر بأنه علم من علوم العصور الوسطى. ولكننا نأمل، بأنه مع فهم الاختلافات الفردية في الدماغ، أن يكون لدينا وسيلة أفضل للتنبؤ باستجابات الإنسان لتدخل معين- حينها لن يتعين على الأشخاص تناول أنواع مختلفة من الأدوية خلال عام، قبل أن نجد علاجًا يناسبهم.”
تتفق فيرت Vértes على أن الباحثين بحاجة إلى معرفة كيفية وصف أدوية معينة لأشخاص معينين، حتى لو كان لديهم التشخيص ذاته. ” فلا يعد الاكتئاب أمرًا واحدًا. ربما يكون على الأقل عدد قليل من الفئات الرئيسية من الاضطرابات أو الاختلافات”، كما تقول. “وبعد ذلك، إن أردت دواءً لذلك، فكلما كان عدد المرضى مقسمًا إلى طبقات، زادت احتمالية تطوير دواء يعمل لتلك الطبقة.”
إنها تعتقد في نهاية المطاف بأن العلاج النفسي الفَعَّال سيعتمد على تكييف العلاج لكل مريض على حده. تقول، “لن يناسب الجميع عقارٌ واحدٌ.”
ويظل وصف الأدوية بناءً على شبكات معينة لأدمغة الناس أمرًا بعيد المنال في الوقت الراهن، كما أن علم الأعصاب الشبكي ليس بأي حال من الأحوال حلاً سحريًا للتقدم البطيء لبحوث الطب النفسي. ويعتبر اكتشاف أن أدمغة المصابين بالفصام تظهر أقل من عالمٍ صغيرٍ نتيجة لافتة. لكن فين Finn تتساءل ما المقدار الذي ستزودنا به هذه الحقيقة من معلومات فعلاً، على الأقل في الوقت الحالي. “حسنًا، إن أخبرتك، بأن الأشخاص المصابين بالفصام لديهم أقل من عالمٍ صغير في أدمغتهم، فهذا نوعاً ما مثير للاهتمام. إنه اكتشاف مثير.” “ولكن الأمر الأصعب بكثير برأيي، هو ترجمة ذلك إلى نوع من الإجراءات التي يمكن أن نتخذها.”
وبالمثل، تعتقد فيرت Vértes أن إحدى المزايا الخاصة لعلم الأعصاب الشبكي- أنه ينظر إلى الدماغ كوحدة متكاملة – كما يمكنه أن يعيق أيضًا تطوير علاجات جديدة. “العقدة هي كتلة لنسيج الدماغ. كيف ننتقل من ذلك إلى أي شيء يتعلق بالعلاج؟ ” وتتساءل. “الأدوية تعمل على المستوى الجزيئي. وها نحن نتحدث عن سنتيمترات. إذن، كيف نمد الجسور بين الاثنين؟”
يرى بعض الباحثين اتجاهًا نحو مزيد من التجريد في تصميم مقاييس شبكية جديدة في المجال. في حين أن بعض المقاييس الموحدة، مثل درجة التمركزية- عدد الحواف المرتبطة بعقدة معينة – لها تفسيرات مباشرة، تقول فيرت Vértes “يبدو الآن أن هنالك مقياسًا مركزيًا جديدًا في كل أسبوع، حَدَّدَهُ شخص ما وأظهروا أنه مفيد في بعض الظروف. ” إنني أقوم دائمًا بدفع الطلاب فقط لقياس أبسط أربعة أشياء موجودة في الصفحة الأولى من أي كتاب مدرسي.” وتعني بها التجميع modularity والتمركزية centrality والتكتل clustering وطول المسار path length. (لمزيد من التفاصيل حول كل من هذه المقاييس انظر الرسم البياني في نهاية هذه القصة).
تشاطر فين Finn تلك المخاوف فتقول، “أشعر بالقلق أيضًا لأنه لا توجد دائمًا محاولات مضنية لضمان أنه من خلال إضافة طبقات التعقيد هذه، أن تحصل بالمقابل على نتيجة مرضية في الواقع.” يمكن أن تكون هذه الأدوات الجديدة أكثر من مجرد كونها أدواتٍ غير ضرورية؛ فقد تجعل من الصعب تحقيق بعض أهداف علم الأعصاب الشبكي. ونظرًا لأن المقاييس المعقدة التي يخترعها الباحثون غالبًا ما تكون مستخرجة إلى أبعد حد من البيانات الأولية، فقد يكون من الصعب بمكان ربطهما بما يحدث بالفعل في الدماغ. وبدون نظرة ثاقبة لما يجري في الدماغ، سيصبح تصميم التدخلات كعلاجات فوكس Fox لتحفيز الدماغ تحديًا جسيمًا.
لا يتمثل هدف علم الأعصاب الشبكي في تجاهل الظواهر الأكثر دقة ذات أدنى مستوى والتي كانت بمثابة الأساس لعلماء نظرية التوطين وعلم الأعصاب. فمن بعض النواحي، لا يزال علماء اعصاب الشبكة يدرسون مناطق من الدماغ، تمامًا مثل علماء نظرية التوطين – فهم ببساطة يهتمون بالاتصالات بين تلك المناطق أكثر مما تقوم به بشكل مستقل. في الشهر الماضي، نشرت باسيت Bassett ورقة بحثية في مجلة نيتشر نيروساينس Nature Neuroscience حددت فيها نهجًا للربط بين كلا النوعين من الأبحاث. ولفهم ما يحدث في الدماغ حقًا، تقترح باسيت Bassett، بأننا نحتاج إلى فهم كيفية تمثيل مناطق دماغ الفرد للمعلومات والطريقة التي تتحول بها هذه المعلومات أثناء نقلها من منطقة إلى أخرى. “أنا شخصياً أعتقد أن ما يجب أن يحدث هو زواج صادق حقًا لكليهما حتى نفهم كيفية تدفق الحسابات المحددة التي تحدث في منطقة واحدة على طول امتداد الشبكة”، وفقًا لما تقول. وتضيف ” إن نمط الاتصال غير كافٍ أيضًا.”
بالنسبة لسبورنز Sporns، الزواج هو زواج طبيعي. ويقول، “لا تعد الشبكات بهذا القدر ترياقًا لنظرية التوطين” إنهما يشبهان إلى حد كبير طريقة تجميع لإطار تبحث فيه عن الاختلافات المحلية، بآخر تنظر من خلاله إلى النظام ككل.” ربما، إذاً، سيظل إرث بروكا Broca خالدًا، حتى مع تزايد شعبية علم الأعصاب الشبكي.
الرسم التوضيحي لـ: SAM WHITNEY
المصدر: هنا