بقلم: ديريك بيريس
في موقع: بيغ ثينك
بتاريخ: 25/6/2019
ترجمة: سيف محمود علي
تدقيق ومراجعة: نعمان البياتي
تصميم الصورة: اسماء عبد محمد
في عام ٢٠٠١ أعلن عالم الأعصاب الكولومبي رودولفو ليناس أن التنبؤ هو أسمى وظيفة يقوم بها الدماغ، وهذا الرأي يطابق أشكال الحياة البدائية التي ظهرت مبكراً، فالكائنات حقيقية النواة تستخدم “النية المضمرة” للنجاة، فتتحرك باتجاه الموارد، أو تهرب من السموم، وتتوقع أماكن الموارد الضرورية فتقتنصها، وكذلك تتجنب الأخطار، ويناقش الأساس الذي سيتطور إلى جهاز عصبي متكامل وكل من يتعلق به من حواس وأفكار وأفعال واعية.
وهذه هي العملية التي ولّدت العُقول او ما يمكن أن نُطلق عليه “العَقلَنة” وهذا المصطلح الذي يفضله ليناس والذي يدُل على عملية أكثر فعّالية من كونها تغير ستاتيكي “ثابت”، ويُضيف إن التفكير هو نتيجة حركة الاستيعاب الداخلي بواسطة هذه الكائنات التنبؤية، فقبل أن يكون هناك إدراك واعٍ، كانت الخلايا الحاثة على الحركة والعصبية في النبات وكذلك الأجسام المحيطية هي امتداد للتوقع ويُنفّذ بواسطة الحركة.
الأفكار لا تتجسد دائماً بالفعل الحركي، ففي كتابها الجديد” العقل المتحرك، كيف شكّلت الحركات الفعلية الأفكار” تتحدى أستاذة علم النفس من جامعة ستانفورد باربرا تفيريسكي الطرح القائم والذي يقول باستحالة وجود التفكير بلا لُغة، وأن اللُغة هي العامل الأبرز الذي يجسد الفكرة، وتناقش بأن التواصل اللفظي ليس هو جذر الفكرة، بالمقابل فإن التفكير المكاني، استنهض وجود أنظمة الكتابة العديدة، والتواصل الشفهي الذي نستخدمه اليوم.
تركز الاستاذة تفيرسكي على أنظمة التواصل المتنوعة بين البشر والتي تسمو على التواصل اللغوي اللساني، مثل الإشارات والعلامات والحساب والخرائط والموسيقى، حيث تحاول أدمغتنا تثبيت الأشياء المتحركة لكي تستطيع التعامل معها، لذلك فمن المستحيل إدراك العلاقات بين الأجزاء المعقدة للحركة، وبدلاً من ذلك فإننا نفهم أجزاءً محددة، والأجزاء المبهمة فنحاول فهمها بالتجربة والتوقع؛ أما اللغة فهي تشبه المَركبة التي نستخدمها للتعبير عن هذه العلاقات، وتحاول الأستاذة تفيرسكي أن توضح بأننا نستخدم هذه الأدوات طوال الوقت.
وأبرز الامثلة على هذه الادوات هو وضع الخرائط، والذي يعد وثبة إدراكية لرؤية الحياة من منظور فوقي مذهل، خصوصاً إذا أخذنا في الاعتبار إن البشر وضعوا الخرائط دهوراً قبل ظهور الطائرات المسيرة أو التصوير الفوتوغرافي، فالبشر بطبعهم متوجهون مكانياً، إذ أننا نفهم اتجاه (أعلى-أسفل) على أحسن وجه، ويتبعه اتجاه (أمام-خلف) والأسوأ تقديراً لدينا هو اتجاه (يمين-يسار)، وهذه حقيقة أستطيع أن أؤكدها، فقدت دربت اليوغا واللياقة البدنية لمدة ١٥ عاماً، فغالباً ما تصيب المتدربين الحيرة بين هذين الاتجاهين.
يعود تاريخ أقدم خريطة إلى قبل ١٥ ألف سنة، في كهف بإسبانيا، حيث تعطي هذه الخريطة مثالاً على فهم التعقيد الشديد للتوجه المكاني، حيث لا تُظهر اتجاهات لمواقع معالم مميزة (رؤية من الأعلى) فحسب، بل يُظَن إنها خطة للُعبة كمين، حيث تجمع بين الوعي بالمكان والتوقع؛ في الألفيات اللاحقة من الزمان طَوّر الرحالة الشجعان خرائط للمحيطات وكذلك وضعوا خرائط للسماء مستخدمين أدوات بدائية، كجهاز تحديد مواقع ذاتي تخيلي، لكن أعظم الإبداعات تكون ناتجة عن الخيالات المعقدة، فنحن البشر على عكس الحيوانات الأخرى يمكننا رؤية أنفسنا (تخيلياً) من زوايا متعددة.
حتى مع كل الابداع المتاح لنا فإن اللُغة اشتُقت من مهنة مبتذلة ألا وهي المحاسبة، أي وضع الخطوط والنقط على الحجر والبرديات، لفرز الحبوب والمؤن، إذ أثبتت هذه الوسيلة أهميتها كمهارة تجارية للمزارعين وأصحاب الحرف في الدول القومية المتحدة حديثاً، فالعلامات التي نسميها اليوم “لغة” هي بالأصل ظهرت للمحافظة على سلامة إجراء مقايضة (قطيعي من الماشية بِطنّ القمح الذي تملكه).
وما زلنا نتجه مكانياً، إذ إننا بيولوجياً لا نملك خياراً آخر، فتركيبنا الحيوي لايزال يشكّل ثقافتنا، فتقول تفريسكي بأن اللغة ليست “المركبة” الأفضل لتحقيق ذلك، فنحن لدينا العديد من الإشارات التي لا تحتاج إلى كلمات، فمثلاً البريق المرافق لشريك محتمل، أو ذراع تشير نحو الشرق، والضوء الأحمر الذي لا يقول (قف!)، وبينما كلمة (قف) مكتوبة على إحدى اللوحات مفيدة، فإن مثمناً أحمراً يفي بالغرض.
وكذلك بالنسبة للإرشادات؛ لقد أمضت تفريسكي عقوداً تقوم بدراسات كهذه، فوجدت أن تجميع الأثاث على وجه التحديد هو مهارة مهمة لتحديد التوجيه المكاني، وبذلك وعلى نحو مثير للاهتمام لاحظت تفريسكي أن الأشخاص الذين يملكون قدرة مكانية أفضل مرتبطة بتجميع الأثاث، يملكون قدرة أفضل في إيضاح إرشادات الاستعمال بواسطة الكلمات أو الرسوم والمخططات كوسائط للتواصل.
وفي ظاهرة مماثلة يتضمنها محتوى كتابها وهي “الانتباه إلى البيئة يجعلنا أكثر قدرة على التواصل، إذ إن بيئتنا المحيطة ترسل لنا الإرشادات على نحوٍ متواصل”.
وعلى الصعيد البشري فقد خصصت تفريسكي العديد من صفحات كتابها في شرح “الإيماءات” أو التعبير بلغة الجسد، حيث توضح بأن هذه الإيماءات وسيط ناقل للمعلومات، وهذا يذكرني بالرقصة الهندية المسماة بهاراتاناتايم، حيث كل حركة من حركات الأيدي والأعين لها معنى؛ نحن نقوم بهذه الايماءات على الدوام للتعبير عن شيء ما، مثل غمزة بالعين أو أن نشير إلى شيء ما بالإصبع أو بنظرة.
وبذلك فإن التفكير جاء قبل اللغة وهو متجذر في الحركة وكما يقول ليناس، أن التفكير هو الحركة؛ فبمجرد فهمنا لهذه الحقيقة يجعلنا ناقلين مثاليين للمعلومات، وتوضح تفريسكي هذا فتقول: “إذا كان التفكير حالة حركية كامنة، فإن التعبير عنه “للخارج” يكون على شكل إيماءات والتي هي نماذج مصغرة للأفعال، حيث تساعد في إيصال الفكرة”، وهذا يشبه الأشخاص ثنائيي اللغة الذين لهم القدرة في التواصل مع عدد أكبر من الأشخاص على عكس ذوي اللغة الواحدة.
وهذا له نتائج مهمة في عصر الإعلام القبلي المحطم، فعندما نضع خريطة ما فإننا نفترض وجهة نظر الآخرين لها، في ظاهرة تطلق تفريسكي عليها اسم “التصميم العاطفي” فقد لاحظت إن التعاطف لا يؤدي إلى خيارات لتصميم أفضل فحسب، بل إنه يحفز الإبداع، فالقدرة على وضع نفسك بمحل الآخرين، لا يجعلك كائن له قدرة تواصل أفضل فحسب، بل إنها من المحتمل أن تحسن التفكير النقدي وبالتالي إنساناً أفضل.
فما الذي نملكه نحن سوى أفكارنا؟ أو كما تصيغه د. تفريسكي “إننا نرتب العالم بالطريقة التي نرتب بها عقولنا وحياتنا”، وكما أشار مالكوم گلادويل قبل عشرين سنة في كتابه (The Tipping point): “إن البشر شديدو الحساسية نحو بيئتهم”، وكذلك ناقش تأثير الإيماءات والإشارات، وكيف أن من يُجيد هذين المجالين يصبح جيداً في التواصل وكذلك يمكن أن يكون تاجراً جيداً، إذ إن گلادويل تمكن من شرح هذا المجال قبل ظهوره، حيث عرّف مهارات المؤثرين في تفاصيل صغيرة، كتعقيد الحاجبين، والتنهيدة العميقة، لها تأثيرٌ ثاقب، ولكن عليك أن تكون شديد التركيز لتلاحظ هذه التفاصيل.
يعد كتابها (وبغض النظر عن موضوع الكتاب فإن تفريسكي كاتبةً استثنائية)، ضرورياً في هذا العصر، في وقت نرى معظم الناس ينحنون على أجهزة هواتفهم الجوالة بدلاً من مراقبة والنظر في محيطهم؛ بالطبع فإن رسامي الخرائط يعتمدون على تقنية الأقمار الصناعية بتحديد الإحداثيات بدقة متناهية، وهذا قادنا إلى استخدام تطبيقات مثل (Waze)، أي إننا المستفيدون من (التجربة والخطأ)، ولكننا يجب أن نتساءل عمّا سنخسره عندما نزيد من اعتمادنا على التقنية؛ إن أولى قوانين تفريسكي المعرفية “لا ربح بلا خسارة”.
حتى ومع كل التقدم التقني الذي حصلنا عليه فإن المفكر الأمثل يجب أن يكون جيد الملاحظة، وإن من سيكونون ناجحين فكرياً في المستقبل هم الذين يراقبون ويلاحظون محيطهم بشكلٍ جيد؛ فقانونها التاسع يقول “إننا ننظم الأشياء في عالمنا كما ننظم الأفكار في عقولنا”، وهنا لنا أن نتساءل عمّا إذا أفرغنا كل المعلومات التي في أدمغتنا، فما الذي سيبقى فيها؟
المصدر: هنا