تقديم: كلوديا هاموند
ترجمة: ياسين إدوحموش
تصميم الصورة: امير محمد
كل يوم يُباع أكثر من 1.8 مليون كتاب في الولايات المتحدة، ويباع نصف مليون كتاب آخر في المملكة المتحدة. على الرغم من كل مصادر الإلهاء المتوفرة لنا اليوم، إلا أنه لا شك في أن الكثير من الناس ما يزالون يحبون المطالعة؛ إذ يمكن أن تعلمنا الكتب الكثير عن العالم، بطبيعة الحال، وكذلك تنمي مفرداتنا ومهاراتنا في الكتابة. ولكن هل يمكن لقصص الخيال أيضًا جعلنا أشخاصا أفضل؟
إن الادعاءات المتعلقة بقصص الخيال كثيرة، حيث يرجع لها الفضل في كل شيء ابتداء من زيادة التطوع وتقديم الأعمال الخيرية إلى الميل إلى التصويت – وحتى الانخفاض التدريجي للعنف على مر القرون.
تجعلنا الشخصيات منخرطين في القصص. قال أرسطو أنه عندما نشاهد مأساة يسيطر شعوران اثنان: الشفقة ( على الشخصية) والخوف (على نفسك)، حيث إننا نتخيل، دون أن نلاحظ، الإحساس بأن أن نكون مكانهم ونقارن ردود أفعالهم على المواقف مع الكيفية التي استجبنا بها في الماضي، أو تخيل أننا قد نفعل ذلك في المستقبل.
هذا التمرين المتمثل في تبني وجهة النظر يشبه دورة تدريبية في فهم الآخرين. يطلق عالم النفس المعرفي الكندي كيث أوتلي على قصص الخيال لفظ “جهاز محاكاة الطيران الخاص بالعقل”. فمثلما يمكن للطيارين التدرب على الطيران دون مغادرة الأرض، فإن الأشخاص الذين يقرؤون الخيال يكمن أن ينموا مهاراتهم الاجتماعية في كل مرة يقومون فيها بفتح رواية. ففي بحثه، وجد أنه عندما نبدأ في الاندماج مع الشخصيات، نبدأ في التفكر في أهدافهم ورغباتهم بدلاً من أهدافنا. فعندما يتعرضون للخطر، تبدأ قلوبنا في الخفقان بسرعة وربما تجعلنا نلهث. غير أننا نقرأ ونحن على دراية أن هذا لا يحدث لنا؛ حيث لا نبلل أنفسنا من شدة الخوف أو نقفز من النوافذ هربًا.
أما وقد قلت ذلك، فإن بعض الآليات العصبية التي يستخدمها الدماغ لفهم السرد الوارد في القصص تشترك في أوجه التشابه مع تلك المستخدمة في مواقف الحياة الحقيقية. إذا قرأنا كلمة “ركلة”، على سبيل المثال، تُحفز المناطق المرتبطة بالركل البدني في الدماغ، وإذا قرأنا أن شخصية ما قد سحبت سلكا كهربائيا، يزداد النشاط في منطقة الدماغ المرتبطة بالمسك.
ولفهم الحبكة، نحتاج إلى معرفة من يعرف ماذا وكيف يشعرون حياله وما تعتقد كل شخصية أن الآخرين قد يفكرون فيه. وهذا يتطلب مهارة تُعرف باسم “نظرية العقل”. فعندما يقرأ الناس عن أفكار الشخصية، تُحفز مناطق في الدماغ مرتبطة بنظرية العقل.
مع كل هذه الممارسة في التعاطف مع الآخرين من خلال القراءة، قد يعتقد المرء أنه سيكون من الممكن إثبات أن أولئك الذين يقرؤون قصص الخيال يتمتعون بمهارات اجتماعية أفضل من أولئك الذين يقرأون في الغالب الكتب غير الخيالية أو الذين لا يقرأون على الإطلاق.
تكمن صعوبة إجراء هذا النوع من الأبحاث في أن الكثير منا يميلون إلى المبالغة في عدد الكتب التي يقرؤونها. للتغلب على ذلك، أعطت أوتلي وزميلاتها الطلاب قائمة بالكتاب الخياليين وغير الخياليين وطلبوا منهم الإشارة إلى الكتاب الذين سمعوا عنهم، كما حذروهم من أنه تم طرح عدد من الأسماء المزيفة للتحقق من أنهم لم يكذبوا. تبين أن عدد الكتّاب الذين سمعهم الناس هو مؤشر بديل جيد لمدى قراءتهم فعليًا.
بعدها، قدم فريق أوتلي للناس اختبار “Mind in the Eyes”، حيث يتم إعطائهم سلسلة من صور لزوج من الأعين. وانطلاقا من العينين والبشرة المحيطة بهما، تكمن المهمة في تحديد المشاعر التي يشعر بها الشخص، حيث يُمنح المرء قائمة قصيرة من الخيارات مثل “خجول”، “مذنب”، “مستغرق في أحلام اليقظة” أو “قلق”. إن التعبيرات غير ملحوظة وقد تبدو للوهلة الأولى محايدة، لذا فهي أصعب مما تبدو عليه. لكن أولئك الذين يُعتبر أنهم قد قرأوا قصصًا خيالية أكثر من القصص غير الخيالية سجلوا درجات أعلى في هذا الاختبار – وكذلك على مقياس يقيس الحساسية بين الأشخاص.
في مختبر برينستون للعلوم العصبية الاجتماعية، أثبتت عالمة النفس ديانا تامير أن الأشخاص الذين يقرؤون قصص الخيال غالبا ما يكون لديهم إدراك اجتماعي أفضل. بمعنى آخر، فهم أكثر مهارة في تحديد ما يفكر فيه الآخرون وما يشعرون به. وباستخدام فحص الدماغ، وجدت أنه أثناء قراءة قصص الخيال، هناك نشاط أكبر في أجزاء من شبكة النمط الافتراضي في الدماغ التي تشارك في محاكاة ما يفكر فيه الآخرون.
يبدو أن الأشخاص الذين يقرؤون الروايات أفضل من المتوسط في قراءة مشاعر الآخرين، ولكن هل هذا يجعلهم بالضرورة أشخاصًا أفضل؟ لاختبار ذلك، استخدم الباحثون طريقة استخدمها كثير من طلاب علم النفس في مرحلة ما، بحيث يقوم المرء ” عن طريق الخطأ” بإسقاط مجموعة من الأقلام على الأرض ومن ثم معرفة من يعرض المساعدة في جمعها. وقبل إجراء هذا الاختبار، تم إعطاء المشاركين على استبيان لقياس الحالة المزاجية تتخلله أسئلة تقيس التعاطف. ثم قرأوا قصة قصيرة وأجابوا على سلسلة من الأسئلة حول درجة شعورهم بالتأثر أثناء قراءة القصة. هل تكونت لديهم صورة ذهنية حية عن الشخصيات؟ هل أرادوا معرفة المزيد عن الشخصيات بعد الانتهاء من القصة؟
بعدهها قال المجربون إنهم بحاجة إلى إحضار شيء من غرفة أخرى، وأسقطوا في طريقهم ستة أقلام : تبين أن الأشخاص الذين تأثروا بالقصة أكثر وتعاطفوا مع الشخصيات كانوا أكثر ميلا للمساعدة في استرداد الأقلام.
قد يتساءل المرء عما إذا كان الأشخاص الذين اهتموا أكثر بالشخصيات في القصة هم الأشخاص الأكثر لطفًا في المقام الأول – مثل، نوع الأشخاص الذين سيقدمون المساعدة للآخرين. لكن واضعي الدراسة أخذوا في الاعتبار الدرجات التي تحصل عليها الأشخاص في اختبار التعاطف ووجدوا أنه، بغض النظر عن ذلك، فإن أولئك الذين تأثروا بالقصة تصرفوا بطريقة أكثر إيثارًا.
بالطبع، فإن التجارب هي شيء واحد. وقبل أن نعمم على المجتمع الأوسع، لابد من توخي الحذر من مسار العلاقة السببية، إذ هناك دائمًا احتمال في أن يكون الأشخاص الأكثر تعاطفًا في المقام الأول هم أكثر من يبدون اهتمامًا بالحياة الداخلية لأشخاص آخرين وأن هذا الاهتمام هو ما يجذبهم نحو قراءة قصص الخيال. إن هذا ليس موضوعًا سهلاً للبحث: والدراسة المثالية ستشمل قياس مستويات التعاطف لدى الأفراد، وتخصيصها عشوائيًا إما لقراءة العديد من الروايات أو عدم قراءة أي منها على الإطلاق لسنوات عديدة، ثم قياس مستويات التعاطف مرة أخرى لمعرفة ما إذا كانت قراءة الروايات قد أحدثت أي فرق .
بدلاً من ذلك، تم إجراء دراسات قصيرة الأجل. على سبيل المثال، رتب باحثون هولنديون للطلاب قراءة مقالات في الصحف حول أعمال الشغب في اليونان ويوم التحرير في هولندا أو الفصل الأول من رواية Blindness الحائزة على جائزة نوبل لكاتبها خوسيه ساراماجو. في هذه القصة، ينتظر رجل في سيارته عند إشارات المرور عندما يصبح أعمى فجأة. يقوم ركابه بإحضاره إلى المنزل ويعد أحد المارة بقيادة سيارته إلى منزله، ولكنه يسرقها بدلاً من ذلك. عندما يقرأ الطلاب القصة، لم يرتفع مستوى التعاطف بعد ذلك مباشرة فحسب، وإنما شعروا بالتأثر من خلال القصة، وبعد ذلك بأسبوع سجلوا درجات أعلى في التعاطف أكثر مما فعلوا بعد القراءة.
بالطبع، يمكنك القول بأن قصص الخيال ليست وحده المسؤولة في هذا، حيث يمكننا أن نتعاطف مع الأشخاص الذين نراهم في القصص الإخبارية أيضًا، وغالبًا ما نفعل ذلك. لكن قصص الخيال لديه على الأقل ثلاثة امتيازات؛ إذ لدينا إمكانية الوصول إلى العالم الداخلي للشخصية بطريقة لا نفعل عادةً مع الصحافة، كما أننا على الأرجح ننفض عنا غبار عدم اليقين بإرادتنا دون التشكيك في صحة ما يقوله الناس. وأخيرًا، تتيح لنا الروايات القيام بشيء يصعب القيام به في حياتنا، وهو رؤية حياة شخصية ما على مدى سنوات عديدة.
لذلك يظهر البحث أن قراءة قصص الخيال ربما تجعل الناس يتصرفون بشكل أفضل. من المؤكد أن بعض المؤسسات تعتبر أن تأثيرات القراءة مهمة للغاية لدرجة أنها تضم الآن فصولا خاصة بالأدب. في جامعة كاليفورنيا إرفين، على سبيل المثال، تعتقد جوهانا شابيرو من قسم طب الأسرة اعتقادًا راسخًا بأن قراءة قصص الخيال تؤدي إلى أطباء أفضل وقادت إنشاء برنامج علوم إنسانية لتدريب طلاب الطب.
يبدو أن الوقت قد حان للتخلي عن الصورة النمطية للشغوف بالقراءة الخجول الذي يضع أنفه دائمًا في كتاب لأنه تجد التعامل مع أناس حقيقيين صعبا. في الواقع، قد تكون هؤلاء الشغوفين بالقراءة أفضل من أي شخص آخر في فهم البشر.
المصدر: هنا