كتبه لمجلة فورين أفيرز: توم دونيلون
منشور بتاريخ: 25/6/2019
ترجمة: مازن سفّان
تدقيق: ريام عيسى
تصميم الصورة: مثنى حسين
يبدو أن العداء بين الولايات المتحدة والصين باقِ ويتمدد، ويبدو أن إدارة ترامب تستخدم الأدوات الخاطئة لمنافسة الصين مُطلِقةً تكتيكات الحرب التجارية الصريحة ما يُذكرنا بما جرى خلال القرن التاسع عشر بدلًا من اجتراح استراتيجيات جديدة لإبقاء الولايات المتحدة الأمريكية قائدًا للاقتصاد والتكنولوجيا في القرن الواحد والعشرين. لن تنفع الحمائية الدفاعية في مواجهة التحدي الصيني، ويبدو أن الحل الوحيد هو الانتعاش الداخلي. يتطلب استعادة مكانة الولايات المتحدة الأمريكية العالمية وانعاش اقتصادها استراتيجية طموحة لا تعتمد فقط على تغيير السلوك الصيني بل على تحضير الاقتصاد الأمريكي للمنافسة.
بعد توقف قصير في الحرب التجارية سابقًا في هذا العام، عادت دورة التصعيد إلى نشاطها، إذ فرض البيت الأبيض في الأشهر القليلة الماضية تعريفات جمركية على مليارات الدولارات من البضائع الصينية المستوردة وأعلن عن عقوبات على عملاق الاتصالات الصيني هاواوي، تجاوبت الصين بفرض تعريفات جمركية على البضائع الأمريكية وأعدت العدة لصراع اقتصادي طويل الأمد.
لعل إدارة ترامب محقة أن النزعة التجارية الصينية في قطاع التقنيات المتطورة يهدد القدرة التنافسية الأمريكية والأمن القومي، إذ تنوي الصين أن تحل محل الولايات المتحدة الأمريكية كقائد عالمي للاقتصاد في عدة قطاعات للتكنولوجيا المتطورة، ويبدو أيضًا أن إدارة ترامب محقة في وجوب الرد الأمريكي على ذلك، ولكن حتى الآن لم تستجب الولايات المتحدة الأمريكية بطريقة مناسبة البتة.
لطالما كانت الضرائب خيارًا ضعيفًا في تغيير السلوك الصيني، وفي أفضل الأحوال كانت الإجراءات التأديبية لإدارة ترامب تعيد تشكيل سياسات الصين على الهامش، ما يُكسب الشركات الأمريكية دخولًا أقل إلى السوق الصيني ويؤدي إلى انخفاض قليل في العجز التجاري، ومع ذلك، في الوقت الحالي، فإن الضرائب تؤذي الأعمال التجارية الأمريكية والمستهلكين والمزارعين الأمريكيين، وتؤدي إلى عزل حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية، إذ يحذر المحللون أن استمرار التوتر سيؤدي إلى ركود اقتصادي عالمي.
يوجد حل أفضل؛ إذ يوفر التاريخ حلقةً مضيئة بهذا الخصوص، لطالما كانت أفضل استجابة للولايات المتحدة لمن يتحداها في الميادين التكنولوجية والاقتصادية هي بالاستثمار بنفسها. عندما أطلق الاتحاد السوفيتي عام 1957 أول قمر صناعي في العالم سبوتنيك استجابت الولايات المتحدة الأمريكية بتمرير قانون التعليم القومي الدفاعي والذي حوّل كل مستويات التعليم العلمي والرياضي، ودفع بالتمويل الفيدرالي للأبحاث الأساسية والتطوير وأنشأ وكالة ناسا ووكالة داربا (وكالة المشاريع البحثية الدفاعية المتقدمة) واللتان دعمتا تطوير العديد من التقنيات التي تشغل المجتمع الحديث. يعد التقدم التكنولوجي الصيني الحالي خطرًا-وهو أكبر من أي شيء قد مثله الاتحاد السوفيتي- يجب أن يخضع لنفس الاستجابة.
خطوط المعركة
يكمن الخطأ في استراتيجية إدارة ترامب أنها ركزت بشكل كبير على الصين بدلًا من أن تركز على الولايات المتحدة ذاتها، ويبدو أن القطعة الناقصة من الاستراتيجية هي بإنعاش الاقتصاد الأمريكي ذاته بدلًا من فرض ضرائب على البضائع الصينية، ويجب على الولايات المتحدة الأمريكية الاستثمار في العلم والتكنولوجيا والتعليم والبنية التحتية الأمر الذي سيعيد لها كلمتها العليا في الكثير من القضايا الأساسية ما يقوّي حلفائها، ويجب عليها أيضًا إصلاح نظام الهجرة لجذب رواد الأعمال والأيدي العاملة الخبيرة.
تبدأ الاستراتيجية الحقيقية بإعادة العلم والتكنولوجيا إلى مركز صناعة القرار السياسي، عملت إدارة ترامب أكثر من أي إدارة في التاريخ الحديث على تقليص دور العلم في الحكومة، عندما أصدرت الحكومة الفيدرالية تقريرها المكلفة به عن التقييم الوطني لحالة المناخ، ألغى الرئيس التقرير. أهملت إدارة ترامب أو حلت جمعيات علمية حكومية قائمة منذ زمن طويل، بما في ذلك جمعية جاسون وهي أكبر وكالة خارجية تابعة لوزارة الدفاع في الأبحاث العلمية.
تُعد هذه الإجراءات محدودة الأفق، إذ لطالما لعبت الحكومة دورًا أساسيًا في تطوير التقنيات الجديدة من التقدم الطبي المذهل إلى الشرائح الدقيقة المستخدمة في هواتف آيفون، كما يُظهر عالما الاقتصاد جوناثان جروبر وسيمون جونسون في كتابهما الجديد «أمريكا الناهضة» فإن الاستثمار العام في العلم سجل تراجعًا كبيرًا فعلى سبيل المثال كل 10 مليون دولار في التمويل العام تذهب إلى المعهد الوطني للصحة يقابلها 30 مليون دولار قيمة زائدة للقطاع الخاص.
ولكن الإنجازات بهذا الشأن دخلت مرحلة النسيان، إذ تدهور معدل إنفاق الحكومة الأمريكية على البحث والتطوير بشكل مخيف كجزء من الناتج الإجمالي المحلي من حوالي 2% في ستينيات القرن الماضي إلى 0,7% في الوقت الحالي، تقترح أحدث موازنة قدمتها إدارة ترامب إلى اقتطاع مليارات الدولارات من تمويل الأبحاث العلمية والطبية، في الماضي كان الكونغرس يرفض بحكمة مثل هذه الاقتطاعات ووافق العام الماضي على أكبر زيادة في تمويل البحث والتطوير منذ عقد من الزمن، ولكن الولايات المتحدة الأمريكية تحتاج إلى قفزة أكبر وأعظم في دعم البحث والتطوير إذا ما كانت تريد مواكبة التقدم الصيني. زادت الصين إنفاقها بين عامي 1991 و 2015 على البحث والتطوير 30 ضعفًا، بمتوسط 18% لكل سنة منذ عام 2000، وكنتيجة لذلك قدّر المجلس العلمي الوطني أن الصين أخذت الريادة من الولايات المتحدة الأمريكية في الإنفاق على الأبحاث العام الماضي وإذا كان هذا التقدير خاطئ فهي ستحوز الريادة قريبًا.
وكما حصل مع السباق الفضائي الذي قادته الحكومة والذي كان الشرارة التي فجرت عصرًا ذهبيًا في تطوير التقنيات الأمريكية، فيمكن لبرنامج وطني جديد للأبحاث والتطوير الأساسية أن يعيد مكانة الولايات المتحدة الأمريكية الريادية في مجال التكنولوجيا، عندما يتصرف القطاع الخاص لوحده، فهو غير قادر على الابتكار بالسرعة والمقياس المطلوبين لمواجهة الصين، والتي تكرّس مصادر دخل عامة قوية لإطلاق مشاريع في الحوسبة الكمومية والذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الحيوية، ولا يمكن الاعتماد على الشركات الخاصة -التي عادةً ما تركز على أهداف تجارية ضيقة- للاستثمار طويل الأمد في الأبحاث والتطوير الأساسية والتي من غير المرجح أن تعطي نتائجًا مالية في العقد القادم، ولكن هذه الاستثمارات ستشكل الجيل القادم من التكنولوجيا. تستطيع أمريكا من خلال الدعم الفيدرالي الكبير والسعي لتطوير الشراكة بين القطاع العام والخاص في الأبحاث أن تستعيد الريادة في تطوير تقنيات جديدة.
يجب على الولايات المتحدة الأمريكية الاستثمار طويل الأمد في التعليم أيضًا، بدلًا من زيادة العجز في خدمة الاقتطاعات الضريبية والتي تؤدي إلى مزيد من التفاوت، يجب على الحكومة الفيدرالية التركيز على الاستثمارات التي تحقق عوائد ملموسة، وكما كتب رئيس معهد ماساشوستس للتكنولوجيا رافايل ريف أنه لصد السيطرة التكنولوجية الصينية يتطلب الأمر من الولايات المتحدة الأمريكية استدامة أصولها الفريدة أي العدد الكبير من جامعاتها ذات التصنيف الأول لمتابعة الأبحاث المتقدمة مع دعم فيدرالي طويل الأمد، يقترح تقرير جديد لمجلس العلاقات الخارجية استثمار عشرة مليارات إضافية كل سنة خلال السنوات الخمس القادمة لدعم أبحاث التكنولوجيا في الجامعات.
تحتاج الولايات المتحدة الأمريكية بالإضافة إلى تطوير تقنيات متطورة إلى الحذر من آثارها التدميرية، إذ بدأت الروبوتات والذكاء الاصطناعي بالحلول محل العاملين وستحول في النهاية كل قطاع في الاقتصاد من الرعاية الصحية إلى المواصلات، وجدت دراسة حديثة من معهد بروكينغز أن ربع العمال الأمريكيين تقريبًا يواجهون خطرًا متزايدًا لخسارة أعمالهم للأنظمة المؤتمتة في العقود القادمة.
يجب على الحكومة التعاون مع القطاع الخاص والمعاهد لتحضير الأمريكيين لمواجهة آثار التقنيات الجديدة على سوق العمل، يجب على المدارس والجامعات تدريب الطلاب على الأعمال التي يصعب على التكنولوجيا أن تسيطر عليها، إذ تشمل هذه الأعمال، وفقًا لمعهد مكينزي، التفكير النقدي والتفاعل الاجتماعي والإدارة، ستخدم هذه التحولات إن نُفذت بالشكل الصحيح الاقتصاد والمجتمع الأمريكي بشكل أكبر بكثير مما ستفعله حروب ترامب التجارية.
ردم الهوة
إذا أرادت الولايات المتحدة الأمريكية أن تحتفظ بمكانتها كأول مكان في العالم للاستثمار والابتكار فعليها أن تعيد تنظيم بنيتها التحتية، شرعت الولايات المتحدة الأمريكية تحت قيادة الرئيس دوايت أيزنهاور بمشاريع وطنية لبناء أول شبكة طرق سريعة وطنية، أحدثت شبكة الطرق السريعة التي تربط الولايات أرباحًا اقتصادية والتي أمدت الولايات المتحدة الأمريكية بالقوة على المدى الطويل، في الوقت الحالي تُهدد الحالة المتدهورة للطرق والجسور والأنفاق والمطارات بقلب هذه المكتسبات، إذ قدَّرت الجمعية الأمريكية للمهندسين المدنيين في عام 2016 أن الفشل في إصلاح البنية التحتية سيكلّف الولايات المتحدة الأمريكية ما مقداره 3,9 تريليون دولار من الناتج المحلي الإجمالي و 2,5 مليون فرصة عمل بحلول عام 2025.
وعليه فإن الولايات المتحدة الأمريكية متأخرة للشروع في مشروع مماثل لمشروع أيزنهاور ولكن في القرن الواحد والعشرين بناء الطرق والذي سيرفع من سويّة البنية التحتية للبلد ويساعد في تحضيرها للعصر الجديد للنقل السريع والسيارات الكهربائية والسيارات ذاتية القيادة. بينما تصارع إدارة ترامب لجعل السيارات والشاحنات ذات نفع أقل تدعم الصين السيارات الكهربائية وتحث مواطنيها على شرائها وتبني شبكة طرق لدعم استخدامها، كما بدأت الصين في تصميم بنية تحتية لخدمة أفضل في مجال السيارات ذاتية القيادة ما يساعد في تطوريها المحتمل.
ستحاكم الاجيال القادمة من الأمريكيين قادة اليوم بقسوة لتبذيرهم هذه اللحظة، إذ تحتاج البلاد بشكل عاجل لبنية تحتية جديدة ولإصلاح القديمة بينما يدخل الاقتصاد آخر مراحل التعافي الطويلة وأسعار الفائدة منخفضة بصورة تاريخية ما يجعل الاقتراض رخيصًا. يحاجج عالما الاقتصاد لورانس سامرز وجاسون فورمان أن الانخفاض طويل الأمد في أسعار الفائدة يعني أن على صانعي القرار السياسي أن يعيدوا التفكير بالمقاربة المالية التقليدية والتي حدّت بشكل خاطئ استثمارات مجزية، ربما لن توجد فرصة أفضل لتنفيذ برنامج ضخم للبنية التحتية.
تفشل الولايات المتحدة الأمريكية أيضًا في الاستفادة من وضعها كدولة مكونة من المهاجرين، إذ يجب عليها أن تبقى المكان الأول الذي يتوق إليه المهاجرون الموهوبين والذين يرغبون أن يدعونها وطنهم، لطالما تمتعت الولايات المتحدة الأمريكية بتفوق ديموغرافي على الصين، بسبب سياسة الطفل الواحد التي انتهجتها الصين فإن عدد سكان الصين يتقلص ويتجه نحو الشيخوخة بينما العدد في أمريكا ينمو، لكن الحالة الديموغرافية تتآكل، وفقًا لتقديرات مكتب سينسيوس فإن متوسط الأعمار في أمريكا أقل من ثمانين سنة، يقدم ويليام فري العالم السكاني تصورًا أن عدد أطفال الأمريكيين المولودين في أمريكا يتناقص تدريجيًا وعليه فإن الهجرة ستوفر المصدر الأساسي للنمو السكاني في العقود القادمة، تدفع الهجرة عجلة النمو الاقتصادي إذ يكون المهاجرين عادةً أصغر عمرًا من السكان الأصليين وأكثر قدرةً على العمل وأكثر نجاحًا عند ممارسة العمل. وجدت المستثمرة في التكنولوجيا ماري ميكر أن أكثر من نصف شركات التكنولوجيا الخمسة والعشرين الرائدة أسسها مهاجرون أو أبناء مهاجرين او أحفاد مهاجرين.
يهدد عداء إدارة ترامب للمهاجرين بتقليل أحد أهم مصادر التفوق الأمريكي، وعليه فإن الإدارة المستقبلية للولايات المتحدة الأمريكية يجب أن تعكس هذه السياسة وتطلق حزمة إصلاحات تجلب مهاجرين موهوبين وتستعيد صورة الولايات المتحدة الأمريكية كمكان يستقبل الزوار الجدد بحفاوة كما كانت من قبل.
إشكالية الصورة
يجب على الولايات المتحدة الأمريكية إعادة ترتيب البيت الأمريكي، وحتى بعد هذا الترتيب لا يمكن أن تواجه الولايات المتحدة الأمريكية الصين في نزاع اقتصادي وتكنولوجي وعسكري بمفردها، إذ أبعدت حروب ترامب التجارية أقرب شركاء الولايات المتحدة الأمريكية عنها. يُظهر استطلاع رأي حديث في ألمانيا أن الشعب الألماني يرى أمريكا شريكًا أقل ثقةً من الصين. إن استعادة منزلة الولايات المتحدة الأمريكية أمر مُلح، ومنه تشكيل جبهة موحدة للضغط على الصين ومنعها من سرقة الملكية الفكرية والبدء بإعطاء الشركات الأجنبية حرية دخول أكبر للسوق الصينية.
لعل أفضل مكان يبدأ به الرئيس الجديد للولايات المتحدة الأمريكية هو إعادة الانخراط في الشراكة العابرة للمحيط الهادئ، إذ تُعد تقوية هذه الشراكة وانخراط الولايات المتحدة فيها بقوة الأداة الأقوى للتصدي لممارسات الصين التجارية غير العادلة، وسيرسل ذلك إشارة للصينيين أنهم لن يقدروا على إعادة تشكيل مستقبل الاقتصاد الآسيوي إلا باحترام الملكية الفكرية وتفكيك الشركات الضخمة المملوكة من الدولة والممارسة الاقتصادية بعدل مع بقية الدول، ولعل قرار ترامب بتجاهل الشراكة العابرة للمحيط الهادئ أعطى صورةً معاكسة ما أعطى الفرصة لقادة الصين لمضاعفة ممارساتهم التجارية بالطرق القديمة دون النظر إلى العواقب.
تعكس سياسة إدارة ترامب بالتعامل مع الصين إيمان ترامب أن الصين أخذت الأسبقية على الولايات المتحدة خصوصاً فيما يتعلق بالتجارة، وأياً كانت مزايا هذا الموقف فإن التركيز على تغيير السلوك الصيني هو إجراء غير كافٍ بشكل مريع. إن التفوق الأمريكي وُلد ليس من خلال الحمائية الدفاعية بل عن طريق إنشاء أكبر محرك اقتصادي في التاريخ، إن التقدم على الصينيين يتعلق بالولايات المتحدة ذاتها وليس بالصينيين.
المصدر: هنا