كتبه لصحيفة “نيويوركر”: لويس ميناند
منشور بتاريخ: 3/9/2018
ترجمة: مازن سفّان
تدقيق: نعمان البياتي
تصميم الصورة: أحمد الوائليّ
يقترح العالم السياسي أن مجموعات الهوية الساعية للاعتراف هي خطر رئيسي على الليبرالية.
في شباط/فبراير عام 1989 تحدث (فرانسيس فوكوياما) عن العلاقات الدولية في جامعة شيكاغو، كان عمر فوكوياما وقتها 36 سنة، وفي طريقه للانتقال من مؤسسة (راند) في سانتا مونيكا حيث عمل هناك خبيراً في السياسة السوفيتية الخارجية، إلى منصب نائب مدير تخطيط السياسة في وزارة الخارجيّة في العاصمة واشنطن.
كان ذلك الوقت جيداً للحديث عن العلاقات الدوليّة، خصوصاً بالنسبة للخبراء في الشأن السوفيتي، لأنه قبل شهرين في السابع من ديسمبر/ كانون الأول أعلن ميخائيل غورباتشوف في خطاب له في مقر الأمم المتحدة أن الاتحاد السوفيتي لن يتدخل في شؤون دوله الأوربيّة الشرقيّة، وبإمكان هذه الدول أن تصبح ديمقراطيّة وكانت هذه بداية نهاية الحرب الباردة.
في مؤسسة (راند) أنتج فوكوياما تحليلات مركزة للسياسة السوفيتيّة؛ في شيكاغو، حثّ فوكوياما نفسه على التفكير بشكل أوسع، جذب خطابه اهتمام (أوين هاريس)، وهو محرر في صحيفة الشأن الوطني (ذي ناشيونال إينتيريست)، وعرض هاريس نشر الخطاب في الصحيفة، كان عنوان المقال “نهاية التاريخ”، عندما صدر المقال في صيف عام 1989 أحدث ضجة كبيرة في أوساط السياسة العالميّة.
خطاب فوكوياما كان: مع السقوط الوشيك للاتحاد السوفيتي، فإن الأيديولوجية الأخيرة البديلة لليبرالية قد تم تصفيتها، تم القضاء على الفاشية في الحرب العالمية الثانيّة، والآن تنهار الشيوعيّة؛ في دول كالصين التي تدعو نفسها شيوعية فإن السياسة والاقتصاد يتجهان نحو النظام الليبرالي.
لذا، إذا تخيلت التاريخ كعملية تصبح من خلالها المؤسسات الليبرالية – حكومة ممثلة، أسواق حرة، و ثقافة استهلاكيّة – عالمية، عندها من الممكن أن يكون التاريخ قد وصل لغايته، من الممكن أن تحدث تغيرات، ومن الواضح أن بعض الدول يمكن أن تختبر توترات عرقيّة ودينيّة وتصبح مكاناً لأفكار مناهضة لليبرالية، لكن يبرر فوكوياما أنه “لا يهم سوى القليل مما يحدث من أفكار غريبة في ألبانيا أو بوركينا فاسو، لأننا مهتمون بما يمكن أن ندعوه تراثاً إيديولوجياً مشتركاً للجنس البشري”.
يقول فوكوياما، أن هيجل كتب أنه في اللحظة التي يصبح فيها المجتمع عقلانياً تماماً عندها ستصبح الدولة منتصرة، والآن مع هزيمة الشيوعيّة وتقارب الدول الكبرى على نموذج سياسي واقتصادي واحد فإن هذا يحقق نبوءة هيغل، سيكون هناك “تسويق مشترك” للعلاقات الدولية وسيحقق العالم التوازن.
حتى بين المجلات الصغيرة، كانت (ذي ناشيونال إينتيريست) صغيرة، فقد أطلقها عام 1985 القيادي في المحافظين الجدد (إيرفينغ كريستول)، وكانت توزع عام 1989 ستة آلاف نسخة، وكان فوكوياما نفسه غير معروفٍ إلا بين أوساط المختصين بالشأن السوفيتي؛ الناس لا تعطي بالاً للانعكاسات الأخرويّة.
لكن ادعاء “نهاية التاريخ” التقط في سيل الصحف العالميّة. تم التعريف بفوكوياما عن طريق (جيمس أتلاس) في مجلة التايمز النيويوركيّة، وتمت مناقشة مقالته في فرنسا وبريطانيا، وتمت ترجمتها إلى عدة لغات منها اليابانيّة وحتى الأيسلنديّة؛ بعض ردود الفعل حول المقال كانت رافضة، أغلب الرافضين كانوا مشككين، لكن بطريقة ما وجدت المقالة طريقها إلى فكر ما بعد الحرب الباردة، وبقيت عالقة فيه.
أحد أهم أسباب استمرار “نهاية التاريخ” هي أن فوكوياما كان محظوظاً، لقد ظهرت مقالته للعالم قبل بداية التغيير – قبل الثورة المخملية في تشيكوسلوفاكيا، وقبل سقوط جدار برلين في نوفمبر/تشرين الثاني 1989، كان فوكوياما يراهن على الاتجاهات الحاليّة، وهذا يمثل مخاطرة كبيرة في مجال العلاقات الدوليّة.
حدثت عدة أشياء لوعد غورباتشوف حتى لا ينفذ: مقاومة سياسيّة داخل الاتحاد السوفيتي، رفض لأنظمة شرق أوروبا لتسليم السلطة، وغياب دور الولايات المتحدة الأمريكية، لكن الأحداث في أوروبا كشفت بشكل كبير أو صغير عن صحة تنبؤ فوكوياما، وفي السادس والعشرين من ديسمبر/ كانون الأول صوت الاتحاد السوفيتي على حل نفسه وبهذا انتهت الحرب الباردة بشكل فعلي.
لم تكن الأحداث في آسيا مبشرة، غاب عن فوكوياما تماماً القمع للحركة المناصرة للديمقراطية في الصين، ولم يكن هناك ذكر لمذبحة (تيانانمين) في مقال “نهاية التاريخ”، ببساطة لأن المقال كان تحت الكتابة عندما حدثت المذبحة في حزيران/ يونيو عام 1989، لم يغير هذا من استقبال المقال، لأن أغلبية الردود المبدئية على المقال لم تأتي على ذكر (تيانانمين)، إلا أن العديد من الاشخاص يعتقدون أن على الديمقراطيات الليبرالية أن تحسب حساب الصين، وليس روسيا في المستقبل القريب. لقد غلب طابع المركزيّة الأوربيّة قليلاً على “نهاية التاريخ”.
كان في حجة فوكوياما تطور مغرٍ، فقد اقترح في نهاية المقالة أن الحياة بعد نهاية التاريخ ستكون حزينة، عندما تتضافر كل الجهود السياسيّة لـ “حل المشاكل التقنيّة، المخاوف البيئيّة، وتلبيّة متطلبات المستهلكين المتطورة” (يبدو هذا جيداً بالنسبة لي)، يمكن أن نشعر بالحنين لـ “الشجاعة، الخيال، والمثاليّة” التي حفزت من أجل ظهور الليبراليّة والديمقراطيّة.
يعيد ازدهار المضاربة هذا إلى السؤال الشهير الذي كان جون ستيوارت ميل يسأله لنفسه عندما كان شاباً: إذا اضمحلّت كل الأشكال السياسيّة والاجتماعيّة التي تؤمن بها، هل سيجعل منك هذا إنساناً سعيداً؟
وهذا بالتأكيد سؤال مثير جداً.
سبب آخر لملاحظة مقالِه هو منصبه الجديد، فقد تم إنشاء مكتب تخطيط السياسة في وزارة الخارجيّة عام 1947 عن طريق (جورج كينان)، والذي ترأسه في بدايته، في حزيران/يونيو من نفس العام، نشر كينان المقال “مصادر السلوك السوفيتي” في صحيفة الشؤون الخارجيّة (فورين أفيرز)، وظهرت المقالة موقعة بحرف (إكس)، ولكن ما إن علمت الصحافة هويته، تم استقبال المقال كبيان رسمي لسياسة أمريكا في الحرب الباردة.
عرّفت وثيقة “مصادر السلوك السوفيتي” عقيدة الاحتواء، وفقاً لذلك فقد كان هدف السياسة الأمريكيّة هي إبقاء الاتحاد السوفيتي محشوراً ضمن محيطه، كان كينان مؤمناً أن الولايات المتحدة لم يكن عليها أن تتدخل بشؤون الاتحاد السوفيتي، لأن الشيوعيّة كانت على وشك الانهيار بسبب عدم كفاءتها.
بعد أربعة عقود عند ظهور “نهاية التاريخ” كان هذا بالضبط ما يحدث، في أبريل من نفس العام ظهر كينان -وكان عمره حينها خمسة و ثمانين عاماً- أمام لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس ليعلن أن الحرب الباردة انتهت، تلقى ترحيباً حاراً، لهذا يمكن أن يُنظر لمقال فوكوياما على أنه تلخيص لما كتبه كينان.
لم يكن هذا التلخيص الذي يكتبه كينان، لأن الاحتواء عقيدة عقلانية، يعتقد العقلانيون أن سياسة الدولة الخارجيّة يجب أن تُرشد باعتبارات غير عاطفية، إذا تعلق الأمر بمصالح الأمة، وليس بمبادئ أخلاقيّة أو بإيمان أن الدول تتشارك “تناغم في المصالح”؛ بالنسبة لكينان، فإن ما يهم هو ما يفعله الاتحاد السوفيتي داخل محيطه، الشيء الوحيد المهم هو ألا تتمدد الشيوعيّة.
كما يدل اسم الصحيفة، الشأن الوطني (ذي ناشيونال إينتيريست)، فهي صحيفة عقلانيّة للسياسة الخارجيّة، لكن فرضية فوكوياما كانت توحي أن الدول تتلاقى في مفهوم “تناغم المصالح”، وأن التقاء الدول حول النموذج السياسي والاقتصادي الليبرالي كان ذو منفعة متبادلة؛ يتخيل العقلانيون أن المنافسة دائمة بين الدول، لكن فوكوياما كان يقول إن الحالة لم تعد كذلك، فقد عرض على عقلانيي الحرب البادرة نوعٌ من الوداع بأن مهمتهم، على الرغم من سوء فهمها فلسفياً، قد تمت، يقول هاريس لاحقاً “اعتقد فوكوياما أن ما كان يحصل قد قضى على عالم الواقعيّة السياسيّة”، على الأغلب هذا ما دفع هاريس لنشر مقالة فوكوياما.
بعد تسعة وعشرين عاماً، يبدو أن عمل العقلانيين لم ينتهِ، وأن التاريخ ما زال لديه بعض ما يقدمه، اتضح أيضاً أن الديمقراطيّة الليبراليّة والتجارة الحرة أمست منجزات هشّة (يبدو أن سياسة الاستهلاك ما تزال آمنة حتى الوقت الحالي)، ويبدو أن هناك شيء لا يحب الليبراليّة ويسبب المتاعب لضمان سلامة مؤسساته.
يعتقد فوكوياما أنه يعرف ما هذا الشيء، وتتلخص إجابته في عنوان كتابه الجديد: “الهوية: مطلب الكرامة وسياسات الاستياء” الصادر عن منشورات (فرّار، شتراوس وجيرو).
يقول فوكوياما أن المطالبة بالاعتراف هي الفكرة الأساسيّة التي تشرح كل الاستياء الناجم عن النظام العالمي الليبرالي: فلاديمير بوتين، أسامة بن لادن، شي جين بينغ، حركة (بلاك لايفز ماتر)، حركة #MeToo، زواج المثليين، داعش، بريكسيت (خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي)، تجدد القوميات الأوروبية، الحركات السياسية المناهضة للمهاجرين، وانتخاب دونالد ترامب؛ وتشرح أيضاً الإصلاح البروتستانتي، الثورة الفرنسية، الثورة الروسية، الشيوعيّة الصينيّة، حركات الحقوق المدنيّة، الحركات النسائية، التعددية الثقافيّة، وفكر لوثر، كانط، نيتشه، فرويد وسيمون دو بوفوار، آه وأيضاً تبدأ كل الأفكار من جمهورية أفلاطون، يُحيط فوكوياما بكل هذا في أقل من مئتين صفحة، كيف فعل هذا؟
ليس بشكل جيد، إن بعض المشاكل تأتي من الفهم الخاطئ لأشخاص مثل دوبوفوار وفرويد، وبعضها تأتي من تخفيف تعقيد كتّاب مثل روسو ونيتشه إلى نقطة فلسفيّة صائبة، ومشاكل أخرى تأتي من الافتراض الحالم أن الفكر الغربي هو فكر كوني –وقعت جملة “نهاية التاريخ تحت نفس هذا الافتراض-.
لكن المشروع برمته، في محاولة لتوفيق فلاديمير بوتين في نفس النموذج التحليلي مثل (بلاك لايفز ماتر)، وتتبعهم إلى مارتن لوثر، بعيد المنال، إنها حالة من الاكتتاب الكبير: إن التاريخ عبارة عن سلسلة من الدمى الورقيّة المقتطعة من الكتب، حيث حفنة صغيرة من الناس سمعت بهم. فوكوياما رجل ذكي، لكن لا أحد قد تجرّأ على القيام بمثل هذه المجادلة الفكريّة.
لماذا قد تمثل الرغبة بالاعتراف -أو سياسات الهويّة كما يدعوها فوكوياما- خطراً على الليبراليّة؟ لأنه لا يمكن إرضاؤها بالاقتصاد أو بالإصلاحات الإجرائية؛ إن الحصول على نفس القدر من الثروة مثل أي شخص آخر أو امتلاك الفرصة للحصول على الثروة ليس بديلاً عن الاحترام.
يعتقد فوكوياما أن الحركات السياسيّة التي تبدو أنها تساهم في الحصول على المساواة القانونيّة والاقتصاديّة – على سبيل المثال زواج المثليين وحركة #MeToo- هي في الحقيقة تسعى للاعتراف والاحترام، تعتقد النساء اللاتي تم التحرش بهنّ في أماكن العمل أن كرامتهن انتهكت وأنهن لا يُعاملن كإنسان كامل.
يعطي فوكوياما للرغبة بالاعتراف اسماً يونانياً مأخوذاً من جمهورية أفلاطون وهو (ثايموس)، يقول فوكوياما أن الـثايموس “جانب عالمي من الطبيعة البشريّة لطالما كان موجوداً”.
في الجمهورية يختلف مفهوم الثايموس عن الجزأين الآخرين من الروح والذين سماهما سقراط العقل والشهيّة، الشهية التي نتشارك فيها مع الحيوانات والعقل الذي يجعلنا بشراً، ويقع الـثايموس بينهما.
تم تعريف هذا المصطلح بعدة طرق: فقد تم ترجمته إلى “عاطفة”، وإلى “روح”، وفي ترجمة أخرى إلى “الغيرة”، يعرف فوكوياما الثايموس على أنه “مقر الأحكام القيّمة”، ويبدو هذا كتجاوز دلالي؛ في كتاب الجمهوريّة، يربط سقراط الـثايموس بالأطفال والكلاب، بالكائنات التي يجب أن يحكم تصرفاتها العقل.
يراد بالمصطلح بشكل عام الإشارة إلى استجابتنا الغريزيّة عندما نشعر أنه تم التقليل من احترامنا، فعندما يُقلل من احترامنا ننتصب، ننتفخ باعتداد في النفس، نزمجر، ونبالغ في رد فعلنا.
قام أفلاطون بتقسيم النفسيّة لثلاثة أقسام من أجل إعطاء دور لكل مواطن من جمهوريته الخياليّة: الشهيّة هي السمة الرئيسيّة للتدبير، الحماس للمحاربين، والعقل للملوك الفلاسفة.
الجمهورية منظور فلسفي وليست علماً معرفيّاً، ومع هذا فإن فوكوياما يتبنى طريقة كشف أفلاطون ويطلق العنان لها، إذ يقول “نعلم اليوم أن مشاعر الاعتداد بالنفس واحترام الذات مرتبطة بمستويات الناقل العصبي السيروتونين الذي يفرز في الدماغ”، ويشير إلى تجارب تمت على الشمبانزي (مع أن سقراط صنّف الشمبانزي على أنهم حيوانات، لكن لا تهتم).
لكن ماذا في ذلك، الكثير من المشاعر ترتبط بمستويات السيروتونين، وفي الحقيقة، كل شعور نختبره – الشهوة، الغضب، الاكتئاب، السخط – له نتيجة طبيعية مرتبطة بكيمياء الدماغ، هكذا يعمل الوعي.
إن القول – كما يقول فوكوياما- “أن الرغبة في المكانة – الشهامة – متجذرة في البيولوجيا البشرية” هو المعادل الأكاديمي لقراءة الكف، فأنت تجمل المقولة ليس أكثر.
يلجأ فوكوياما إلى هذا التكتيك لأنه يريد أن يصنع مع الرغبة بالاعتراف ما صنعه مع الليبرالية في “نهاية التاريخ”، يريد أن يعولم هذه الرغبة، ويمنحه هذا أن يقترح، على سبيل المثال، أن المشاعر التي قادت إلى صعود فلاديمير بوتين (ولكن هذا على مقياس كبير) مثل المشاعر التي تدعو المرأة إلى التذمر أن قواها الكامنة يتم تحديدها بسبب التمييز الجندري (الجنسي)، فالمرأة غير قادرة على المساعدة حالها حال الروس.
يعتقد هيغل أن نهاية التاريخ ستصل عندما يتمكن البشر من الوصول إلى مرحلة من الكمال في المعرفة الذاتية والسيطرة النفسيّة، وذلك عندما تكون الحياة عقلانية وواضحة.
العقلانية والوضوح قيم الليبرالية الكلاسيكيّة، من المفترض أن العقلانية والوضوح هي التي تجعل الأسواق الحرة والانتخابات الديمقراطيّة تعمل؛ يفهم الناس كيفية عمل النظام وهذا يتيح لهم اتخاذ قرارات عقلانيّة.
المشكلة مع الـثايموس أنه ليس عقلانياً، إذ لا يضحي الناس بالسلع الدنيويّة ليتم الاعتراف بهم فقط؛ بل إنهم على استعداد أن يموتوا كي يتم الاعتراف بهم، خيار الموت ليس عقلانياً، ويخلُص فوكوياما إلى أن “سيكولوجيا الإنسان معقدة أكثر بكثير مما تطرحه النماذج الاقتصاديّة الساذجة”.
ولكن كيف كان هذا النموذج من الممثل الاقتصادي العقلاني معقولاً؟ الأمر ليس فقط أن البشر كائنات عصابيّة، بل إن عصابيّة البشر تجاه المال تأتي في مقدمة كل شيء؛ يدخر البشر المال، يبذرونه، ويتزوجون من أجله، ويقتلون من أجله، ألم يقرأ الاقتصاديون روايات؟ بشكل خاص الروايات العقلانيّة، من (أوستن) و(بلزاك) حتى (جيمس) و(وارتون)، تلك الروايات التي تتحدث عن التصرفات السيئة التي يقوم بها الناس من أجل المال، لم تغيّر الأسواق الحرة من الواقع بشيء بل على العكس زادت من جشع الناس.
الفكرة القائلة إن لدينا شيء يُدعى العقل، يعمل بمعزل عن احتياجاتنا، ورغباتنا، وقلقنا، وخرافاتنا هي فكرة أفلاطونيّة، في هذه اللحظة، أنت أمام خيارين إما أن تكمل قراءة المقال أو تنتقل لصفحة أخرى، أي جهاز عقلي تستخدم عندما تصنع قرارك؟ من المسؤول عن رأيك في دونالد ترامب؟ كيف يمكنك قول ذلك؟
يمكن قراءة الهوية على أنها موقف تصحيحي للموقف الذي وضعه فوكوياما في نهاية التاريخ، فلا يمكن إعاقة الليبرالية العالمية بالإيديولوجية، كالفاشية والشيوعية، بل ما يعوقها هو العاطفة، وتبقى الليبرالية هي النموذج السياسي والاقتصادي المثالي، لكهنا تحتاج طرقاً جديدة لاستيعاب وتحييد هذه الرغبة المزعجة بالاعتراف، والغريب في معضلة فوكوياما هو أنه في المصدر الفلسفي لنظريته الأصلية حول نهاية التاريخ، لم يكن الاعتراف عائقاً بل كان في الحقيقة هو السبيل للوصول لتلك النظرية.
لم يكن هيجل هو المصدر الفلسفي للنظرية، فقد اعترف فوكوياما صراحةً في نهاية التاريخ، أنه اقتبس تفسيراً لأفكار هيجل كتبه مغامر فكري شبه مجهول يدعى (ألكسندر كوجيف) في ثلاثينيات القرن العشرين، وكيفية وصول أفكار كوجيف إلى مجلة سياسية في واشنطن يكشف لنا عن لعبة الكراسي الموسيقية الفكرية.
ولد كوجيف عام 1902 لعائلة ثرية من موسكو، وتربى في جو ثقافي، وكان عمه هو الرسام (فاسيلي كادينسكي)، كان كوجيف مثقفاً مذهلاً، عندما أصبح عمره ثمانية عشر عاماً، كان يتكلم الروسيّة، الألمانيّة، الفرنسيّة والإنجليزية بطلاقة، وكان يقرأ باللاتينيّة، وتعلم بعد ذلك السنسكريتيّة، والصينيّة والتيبتيّة ليتمكن من دراسة البوذيّة؛ في عام 1918 دخل السجن بسبب أعمال تجاريّة مرتبطة بالسوق السوداء، وبعد خروجه من السجن تعاون هو ورفيقه على تخطي الحدود السوفيتيّة المغلقة باتجاه بولندا، حيث تم القبض عليهما للاشتباه بضلوعهما بعمليات تجسس، وإثر تعاون مدبّر من السلطات البولندية غادر كوجيف بولندا متجهاً إلى ألمانيا.
درس الفلسفة برفقة (كارل ياسبرز) في (هيدلبرغ)، وعاش عيشةً مترفة في فيمار برلين، وانتقل عام 1926 إلى باريس حيث أكمل العيش المترف هناك وكتب أطروحة تتناول فيزياء الكم.
استثمر كوجيف ميراثه في الشركة التي أنتجت جبنة البقرة الضاحكة (La Vache Qui Rit)، لكنه خسر كل شيء بعد انهيار أسواق البورصة، وفي عام 1933 وعلى إثر حاجته للمال قبل كوجيف عرضاً من صديق لتدريس ندوة فكريّة عن هيغل في مدرسة الدراسات العليا، وانتهى به الأمر بتدريس الندوة لست سنوات.
صنفه الناس المحيطين به على أنه شخص ساحر، وفي حلقة الدراسة عن هيغل كان كوجيف يدرِّس كتاباً واحداً فقط وهو “فينومينولوجيا الروح (علم ظواهر الروح)” والذي نُشر للمرة الأولى عام 1807، حيث كان يقرأ مقطعاً بصوت عالٍ بالألماني (لم يكن الكتاب حينها قد ترجم إلى الفرنسيّة)، ثم يعلِّق عليه بشكل ارتجالي وبفرنسية متقنة (تشوبها لكنة سلافيّة ساحرة)؛ وجده الناس بليغاً، رائعاً وساحراً، وكان التسجيل على الحلقة الدراسية صغيراً، حوالي عشرين شخص، لكن عدداً من الشخصيات الفكريّة المستقبليّة مثل (حنة أرندت) و(جاك لاكان) حضروا الندوة أو درسوها فيما بعد.
بالنسبة لكوجيف، كانت الفكرة الأساسيّة في فينومينولوجيا هيغل هي الاعتراف، يريد البشر الاعتراف بهم من قبل بشر آخرين حتى يكون باستطاعتهم الشعور بأنفسهم – حتى يُعرفوا أنفسهم كأفراد مستقلين، ووضع كوجيف مفهوم رغبات البشر، وهو أن ما يرغب به البشر هو إما رغبة لبشر آخرين أو شيء يرغب به بشر آخرون، يقول كوجيف أن “التاريخ البشري هو تاريخ الرغبات المشتهاة”؛ إن ما يجعل هذا معقداً هو أنه في الكفاح من أجل الاعتراف يوجد رابحون وخاسرون، والتعبير الذي استخدمه هيغل لوصف هذا المصطلح يمكن ترجمته إلى أسياد وخدم، أو أسياد وعبيد، وهو المصطلح الذي استخدمه كوجيف؛ يربح السيد اعتراف العبد، لكن رضاءه عن ذلك يكون فارغاً، وذلك لعدم اعترافه بالعبد ككائن بشري مثله، والعبد الذي يسعى لاعتراف السيد يجب أن يحصل على الاعتراف بطرق أخرى.
يعتقد كوجيف أن الطرق الأخرى هي العمل، إذ يصل العبد إلى إحساسه بنفسه عن طريق العمل الذي يحول العالم الطبيعي إلى عالم إنساني، لكن العبد يُقاد إلى العمل بسبب رفض السيد الاعتراف به، وهذا الجدل القائم على ثنائية “السيد – العبد” هو المحرك للتاريخ البشري، ويصل التاريخ إلى مرحلة النهاية عندما لا يعود وجود لثنائية “الأسياد- العبيد”، وعندما يتم الاعتراف بهم على أساس متساوٍ.
هذه هي الفكرة التي تبناها ماركس لوصف التاريخ على أنه تاريخ للصراع الطبقي، إن لهذا الصراع رابحين وخاسرين ومرحلته ما قبل الأخيرة هي الصراع بين ملّاك الأراضي (البرجوازيين) والعمال (البروليتاريا)؛ ينتهي الصراع عند القضاء على الرأسمالية والوصول إلى مجتمع غير طبقي أي الوصول إلى الشيوعيّة، وأطلق كوجيف على نفسه –سواء أكان ذلك عن خبث أم لا- لقب شيوعي، والناس الذين يستمعون إليه في ثلاثينيات القرن العشرين سيفهمون ذلك على أنه شرح لتعليقه حول المسألة. كان هدف التاريخ هو المساواة في الاعتراف، سواء أكانت تلك المساواة شيوعيّة أم ليبراليّة، وسيتوقف الناس عن قتل بعضهم باسم الكرامة واحترام الذات وستصبح الحياة عندها مملة.
بعد الحرب تم نشر محاضرات كوجيف تحت عنوان “مقدمة لقراءة أفكار هيغل”، والذي طُبع عدة مرات في فرنسا، عند هذا الحد، توقف كوجيف عن التدريس وأصبح مسؤولاً في وزارة الشؤون الاقتصادية الفرنسيّة، حيث لعب –من خلف الكواليس- دوراً هاماً في تأسيس الاتفاقيّة العامة للتعريف الجمركي والتجارة (GATT)، وتأسيس المجتمع الاقتصادي الأوروبي، النواة الأساسيّة للاتحاد الأوروبي، بمعنى آخر التسويق المشترك؛ أحب كوجيف القول أنه يُشرف بذلك على نهاية التاريخ.
عام 1953، التقى طالب متخرج من جامعة شيكاغو يدعى (آلان بلوم) بكوجيف في باريس بمكتبه في الوزارة (كان الاثنان على اتصال أولي عن طريق منظر سياسات الهجرة (ليو شتراوس)، والذي كان يدرِّس في جامعة شيكاغو وعلى اتصال قديم بكوجيف) قال بعدها بلوم أنه كان مفتوناً بالعمل، وبدأ بلوم بالدراسة مع كوجيف، واستمرت لقاءاتهما حتى موت كوجيف عام 1968.
في عام 1969 رتَّب بلوم لنشر أول طبعة لمحاضرات هيجل مترجمة للغة الإنجليزيّة، وكتب لها مقدمة، بعدها أصبح بروفيسوراً في جامعة (كورنيل).
في عام 1970، دخل فوكوياما جامعة كورينل كطالب جامعي مبتدئ، وأقام في نُزُل تيلورايد؛ مجتمع ذو طبيعة مخصصة يقيم فيه الطلاب وأعضاء الهيئة التدريسيّة، حيث كان يقيم بلوم؛ سَجل فوكوياما في صف الفلسفة اليونانيّة الذي كان يدرّسه بلوم، وبحسب أتلاس “فقد تشارك الاثنان الخبز والملح وتحدثا في الفلسفة لساعات طوال”.
حين التقى الاثنان، كانت هذه السنة الأخيرة لبلوم في جامعة كورنيل، حيث استقال بسبب اشمئزازه من إدارة الجامعة لتعاملها الفظ مع طلاب أمريكيين من أصل أفريقي مسلحين احتلوا مبنى في الجامعة.
تخرج فوكوياما من الجامعة عام 1974 بشهادة في الكلاسيكيات، وأتبع ذلك باستطراد في النظرية ما بعد البنيوية من جامعة يال، وفي باريس، غير فوكوياما حقل دراسته واتجه نحو العلوم السياسيّة ونال درجة الدكتوراه من القسم الحكومي في هارفرد، وتخرّج في عام 1979 واتجه للعمل مع (راند).
في ذلك الوقت، عاد بلوم إلى جامعة شيكاغو كبروفيسور في لجنة الفكر الاجتماعي، وفي عام 1982، نشر بلوم مقالة حول وضع التعليم العالي في مجلة (ناشيونال ريفيو)، والتي أسسها المؤلف ويليام باكلي.
لم يعتقد بلوم أن حالة التعليم العالي جيدة، وبتشجيع من صديقه (سول بيلو) حوّل المقالة إلى كتاب بعنوان “انغلاق العقل الأمريكي”، الكتاب الذي نشرته دار (سيمون وشوستر) في شباط/ فبراير عام 1987، حيث أطلق الكتاب حملة قوية من النقد تجاه التعليم العالي في أمريكا والذي كان غافياً لفترة من الوقت حينها.
انغلاق العقل الأمريكي كتاب عظيم يحاول أن يحصي صعود النسبيّة الثقافيّة، والذي يعتقد بلوم أنها مصدر الأذى الذي يعاني منه التعليم العالي الأمريكي، ولم يأمل أي أحد في دار نشر (سيمون وشوستر) بمبيعات كبيرة للكتاب، لكن الكتاب أصبح في قائمة صحيفة (التايمز) للكتب الأكثر مبيعاً وبقي متصدراً للائحة لشهرين ونصف؛ وحتى آذار/ مارس 1988 باع الكتاب حوالي مليون نسخة في الولايات المتحدة وحدها، جعل هذا الرقم بلوم رجلاً ثريّاً.
إن من دعا فوكوياما لتقديم محاضرته حول العلاقات الدوليّة هو بلوم وبروفيسور آخر في جامعة شيكاغو يدعى (ناثان تاركوف)، إذا لم يكن فوكوياما يفكر في الأمر قبل ذلك، فإنه وتحت هذا الظرف لا بد من التحدث بشيء ينسب لكوجيف.
عندما أبصرت “نهاية التاريخ” النور كان بلوم نجماً في واجهة المحافظين الجدد، وكانت مقالته هي الأولى من ست ردود انتشرت في المجلات لتصاحب انتشار “نهاية التاريخ”، أطلق بلوم وصف “جريئة ورائعة” على مقالة فوكوياما، وبنظرة عارفة، عرض (جليكس) على فوكوياما ستمئة ألف دولار لتحويل مقالته إلى كتاب، وفي عام 1992 نُشر كتاب “نهاية التاريخ والرجل الأخير” عن طريق دار نشر (فري بريس).
كان الكتاب من بين الأكثر مبيعاً، لكن لم يدم طويلاً، ويعزى ذلك إلى البهجة بانتهاء الحرب الباردة؛ أخذ فوكوياما وقته في الكتابة، ولم يكن “نهاية التاريخ والرجل الأخير” مقال في مجلة منشطات، بل كان امتحاناً فكرياً للأسئلة التي أثارها المقال الذي نُشر في مجلة (ذي ناشيونال إنتيريست)، وإحدى هذه الأسئلة هي مشكلة الثايموس، والتي احتلت معظم صفحات الكتاب، الكثير من الحديث عن “الهوية” في الكتاب كان خلاصة ما كتبه في المقال.
لقد تم التأكيد على أهمية الاعتراف من قبل كثير من الكتّاب غير كوجيف، فعلى سبيل المثال، يجادل الفيلسوف الكندي (تشارلز تايلور)، والذي نُشر كتابه “أصول النفس” في 1989، في نفس عام نشر “نهاية التاريخ”، عن الفكرة العصرية عن إقحام النفس بالتحول الثقافي، من فكرة الشرف والذي يعد شيئاً ما بالنسبة للبعض، إلى الكرامة والتي يطمح إليها الجميع، وفي عام 1992 في مقالته المعنونة بـ “سياسات التمييز” يحلل تايلور ظهور التعددية الثقافيّة بمصطلحات شبيهة لتلك التي يستخدمها فوكوياما لتحليل ظهور “الهوية” (تايلور خبير أيضاً بفكر هيغل).
يقر فوكوياما بأن سياسيات “الهوية” قد فعلت بعض الأشياء الجيّدة، يقول فوكوياما أن اليمينيين يبالغون في مدى انتشار الصواب السياسي والإجراءات الإيجابيّة، ويعتقد أيضاً أن اليساريين أصبحوا مهووسين بالسياسات الثقافية والتوسعيّة مهملين السياسات الاجتماعيّة، لكن لدى فوكوياما اقتراحات سياسيّة مفاجئة.
ليس لديه أي اهتمام بالحل الذي يتبناه الليبراليون لاستيعاب التنوع والذي يتمثل بالتعددية والتعددية الثقافيّة، فعلى سبيل المثال، فقد دافع تايلور عن حق سكان مقاطعة (كيبيك) في إقرار قوانين تساعد في الحفاظ على ثقافتهم الفرنسيّة في مقاطعتهم، ويقر فوكوياما أن الناس يحتاجون إلى الإحساس بالهويّة الوطنيّة، سواء أكانت هذه الهوية إثنيّة أم عقائدية، ولكن فيما عدا ذلك يبقى فوكوياما داعياً للاندماج والعالميّة؛ يريد فوكوياما تسوية الخلافات لا حمايتها، ويقترح فوكوياما تدابير مثل متطلبات الخدمة الإلزاميّة وطرق أكثر وضوحاً للحق في المواطنة بالنسبة للمهاجرين.
من المؤسف أن يهجر فوكوياما مهمته الصحفية بناءً على ادعاءات ما بعد تاريخيّة، إذ يلاحظ ذلك في كتب أخرى، مثل “الاختلال العظيم” الذي نُشر عام 1999، وكتاب تاريخ عالمي من جزأين عنوانه “تاريخ النظام السياسي” نُشر عام 2011، وكتاب “النظام السياسي والاضمحلال السياسي” الذي نُشر عام 2014، يميّز الاختلافات الحضارية ويستخدم بيانات تجريبيّة لشرح الاتجاهات الاجتماعيّة، لكن يبقى الـثايموس أداة غير ملائمة نهائياً للمساعدة في فهم السياسة المعاصرة.
أليس من المهم التمييز بين الناس الذين لا يديرون بالاً للاختلافات، مثل المنضوين في حركة #MeToo وحركة (بلاك لايفز ماتر)، من الناس الذين يركزون على الاختلافات؛ مثل مليشيات داعش، والمصوتين على بريكسيت (خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي) والانفصاليين القوميين.
وماذا عن الناس الذين ليسوا مكسيكيين أو مهاجرين ويشعرون بالسخط من معاملة المهاجرين المكسيكيين؟ أو الأمريكيين السود الذين يخاطرون بحياتهم من أجل الحقوق المدنيّة، وكذلك يفعل الأمريكيون البيض؟ كيف سيصنف سقراط هذا التصرف؟ على أنه ثايموس مستعار؟
قد يبدو من الأفضل تغيير المفهوم الخطي –إذا استمرت الاتجاهات الحالية- عن التاريخ على أنه تقدم مطرد نحو حالة استقرار، وذلك بالنسبة للمفهوم الديالكتيكي الذي استخدمه هيغل و كوجيف، لن تدوم الاتجاهات الحاليّة، فهي تنتج ردات فعل وإصلاحات للسطح الاجتماعي؛ إن الهويات التي يتبناها الناس اليوم هي الهويات التي سيهرب منها أبناؤهم غداً، والتاريخ هو التقلبات على طول الطريق نحو النهاية، وهنا تكمن صعوبة الكتابة فيه، وصعوبة التنبؤ به، هذا إن لم تكن محظوظاً.
المقال باللغة الإنجليزية: هنا