اعداد: حسين البياتي
تدقيق: آلاء عبد الأمير
تصميم: مينا خالد
يقول علماء النفس بأن الانسان يميل إلى تقييم أهمية الأمور حسب سهولة استرجاعها من الذاكرة، وحسب مقدار استثارتها للعاطفة. أي أن المواضيع التي يتم تغطيتها بشكل أكبر وبدراما أقوى في وسائل الإعلام وتترسخ في ذاكرة المشاهد والمتابع تكون أهميتها أكبر عند الناس مقارنة بمواضيع أخرى لم تتم تغطيتها بنفس القدر اعلامياً، رغم أنها قد تكون في الحقيقة أهم لحياة الناس، وتأثيرها عليهم أكبر. غالبية الناس يحكمون على المواضيع بشكل عاطفي بدلاً من الحكم العقلاني المنطقي، وهذا هو الحال في كل دول العالم ولكل الشعوب.
لكن المشكلة تظهر في المجتمعات الديمقراطية عندما تصبح المواضيع الأقل أهمية حديث الشارع، ويبدأ السياسيون بالمبالغة في الاهتمام بها سواءً لأنهم جزء من المجتمع وطريقة تفكيرهم معرضة لنفس الأخطاء المنطقية، أو لأسباب سياسية وانتخابية. وكثيراً ما تتحول المشكلة إلى حلقة متسلسلة من الأحداث تغذي نفسها ذاتياً، وتؤدي إلى هلع شعبي وتدخل حكومي واسع النطاق. وهذا ما يسميه العالمان ”كاس سنستاين“ و“تيمور كوران“ ب“التوافر المتتابع“. حيث يبدأ الأمر بتغطية اعلامية لقضية معينة وتجذب انتباه شريحة من الناس وتتم استثارتهم عاطفياً، ويصبح رد الفعل العاطفي قصة بحد ذاتها قد تكون أكثر تأثيراً من الموضوع الرئيسي، وتجذب مزيداً من التغطية الإعلامية من قنوات أخرى متعطشة لزيادة متابعيها، وبالتالي زيادة عوائد الإعلانات، وهذه التغطية بدورها تنتج المزيد من القلق والمزيد من ردات الفعل العاطفية. وأحياناً تقوم بعض الجهات والمؤسسات بمحاولة الحفاظ على هذا الزخم وضمان استمراريته لتحقيق أهداف معينة. بالتالي فإن تأثيرات هذه القضية يتم تضخيمها بشكل مبالغ به وتتحول إلى قضية وطنية.
تكمن الخطورة في أن أي شخص أو جهة تعترض أو تحاول الإدلاء برأي موضوعي قد يقلل من ضخامة المشكلة، قد يتم اعتبار تلك الجهة أو ذلك الشخص “متواطئا مع الأعداء”. هذا الزخم والضغط الشعبي يجعل القضية مهمة سياسياً، وتؤدي إلى إعادة ترتيب الأولويات الحكومية من ناحية تخصيص الأموال والجهود، وتؤدي إلى دفع القضايا الأهم والأكثر تأثيراً إلى نهاية سلم الأولويات.
إن الانجراف نحو الضغط الشعبي والإعلامي في القضايا التي تم تضخيم تأثيرها يؤدي إلى خسائر في الأموال والجهود والأرواح وإلى تعطيل قضايا أهم لصالح قضايا أقل أهمية وتأثيراً. بالتأكيد ليس الحل في إهمال القضايا المثارة من الناس وعدم الالتفات إليها، لأنها قد تكون فعلاً مهمة وعلى الدولة أن تتدخل لإيجاد الحلول، لكن الحل كما يقترحه ”سنستاين“ و“كوران“ هو الرجوع إلى الإحصائيات وآراء الخبراء لتقييم القضايا التي تتطلب التدخل الحكومي وتشريع القوانين. حيث أن المعيار في تحديد أهمية وأولوية القضايا يجب أن يكون عدد الأرواح التي يمكن إنقاذها أو مقدار الأموال التي يمكن توفيرها. ففي العراق كمثال (وأغلب دول العالم أيضاً)، عدد الأشخاص الذين يموتون بسبب حوادث الطرق يفوق عدد الوفيات بسبب الحوادث الإرهابية (حسب إحصائية وزارة الصحة لسنة 2017) إذ تأتي العمليات الإرهابية بالمرتبة الثانية يعقبها حوادث الصعق ثم حوادث الغرق (ناهيك عن أسباب أخرى لم أجد لها إحصائيات في العراق مثل التدخين والأمراض المزمنة.. الخ). كل تلك الوفيات تخلف أيتاماً وأرامل وعوائل مشتتة ومنكسرة، لكن التركيز الأكبر من الأفراد والمؤسسات الإعلامية والحكومة هو على العمليات الإرهابية، على الرغم من أن الأيتام الذين تخلفهم حوادث الطرق والصعق والغرق أكثر عدداً بكثير وأكبر خطورة على المجتمع والبلد!
الاحتكام إلى الأرقام والخبراء والدراسات يعطي حلولاًأكثر كفاءة وبنتائج قد تكون مضمونة أكثر على المدى البعيد.
المصدر: هنا