إعداد: كلكامش نبيل
تدقيق: آلاء عبد الأمير
تصميم: أحمد الوائليّ
في عام 2013، استوقفتني أغنية للمطرب اليوناني “مانولي متسياس” بعنوان “قصة كمال” نشرها الأستاذ “أدهم الغزالي” مترجمة إلى العربية على قناته الثرية على اليوتيوب. أثرت فيّ الأغنية بشكل كبير، لاسيما وأنها تحكي قصة أمير ما من البصرة أو الموصل وتذكر أسماء دجلة والفرات والنخيل ودمشق والسندباد. شاركتُ الأغنية عدة مرات منذ ذلك الحين وأنا أفكر في المعاني الكامنة وراءها. بحثتُ كثيرًا عن القصة الحقيقية وراء كتابة هذه الأغنية ولكنني لم أجد شيئا يساعدني على الوصول الى ذلك. مع ذلك، بدت لي وكأنها أغنية رمزية عن الظلم ومقارعته ومحاولة شاب ثائر لجعل العالم مكانًا أفضل.
كلمات الأغنية بالعربية كما يأتي:
في المناطق الشرقية، في وقتٍ مضى
كانت أكياس النقود فارغة، والمياه راكدة
في الموصل، في البصرة، عند النخلة القديمة
أطفال الصحراء بمرارة يتباكون
وفتى شاب من نسل النبلاء والملوك
سمع النواح وتوجّه صوب المكان
فرمقه البدويون بنظرة حزينة
وبقسم بالله، أعطاهم الفتى
وعدا بأن الحال سيتغير
وحالما سمع الملوك بجرأة الفتى
حتى قدموا بأسنان الذئاب وتربص الأسود
من دجلة إلى الفرات
ومن الأرض إلى السماوات
يختفون ويتربصون بالمرتد
لعلّهم حيا به يمسكون
ثم جحافل إنقضّت عليه
مثل كلابٍ مسعورة بدون قيود
وللخليفة أخذوه، كي يضع
حبل المشنقة حول عنقه
عسل أسود، حليب أسود
ذاك ما شرب الفتى المرتد
قبل أن يلفظ، والحبل في عنقه، آخر أنفاسه
مع جملين عجوزين وفرس أحمر
على ضفاف الجنة، ينتظر الرسول
طليقين الآن، يد في يد
تحت سماء مكفهرة
لكن نجوم دمشق، رافقتهم حتى النهاية
في شهر، في سنة
انكشف لهم نور الله
من عرشه العالي، ليخاطب
سندباد الأخرق
أيّها المستضعفون، يا ملائكتي
لن تتغيّر الأحوال
بالنار والسيف دوما
هكذا يتقدّم بنو البشر
قبل يومين، وتزامناً مع المظاهرات في العراق، قمت بمشاركة الأغنية من جديد، ومجدداً، أثارت الكثير من النقاشات واللغط بين الأصدقاء. سألني الصديق “أشرف الأطرقجي” والصديق والروائي “ناهض الرمضاني” والصحافي المصري “طارق عبد الجليل” عن مغزى القصة، فيما كتب الصديق “عمار التميمي” بأنه قد حاول تفسير معاني الأغنية من دون جدوى. دفعتني تلك الاستفسارات للبحث مجدداً وبشكل أكثر جدية هذه المرة لنفهم سرّ هذه الأغنية المؤثرة التي قالت الصديقة “ساندرا شمعون” عنها بأنها: “المقياس عندي في التفاعل مع الأغاني هو بصيلات الشعر … عندما أشعر بها وتسري القشعريرة في بدني، أعرف بأن الأغنية قد أدت هدفها”، وأنا أتفق معها، فلطالما أثارت فيّ هذه الأغنية القشعريرة والحزن. قال عنها الصديق “ريمان بولا”: “لقد سمعتها كثيراً من قبل، لكنني لم أنتبه بأنه يدمي قلبه لأهل الرافدين! شاب من الموصل والبصرة؟ النخيل؟ الصحراء؟ الفرات؟ “ما معنى كل هذا؟”
تساؤلات مشرقية
تثير هذه الأغنية تساؤلات حول زمن كتابتها، والقصة التي تجسدها، والرسالة التي تحاول إيصالها. وغالباً ما يكون فهم الشرقيين لها مختلفاً عن الطريقة التي يستقبلها بها اليونانيون. كتب لي الصديق “يوخنا دانيال”: “اكتشفت هذه الأغنية منذ سنوات. أعتقد أنه يتكلم بالفعل عن ظلم الخلفاء والقادة، وقسوة الحكم الإسلامي على أهل العراق، وثورة الناس التي يقودها كمال ويموت.” فيما أثارت كلمة “المرتد” انتباه الصديقة ساندرا شمعون، لتتساءل: “لربما هي قصة شاب ارتد عن الدين، ولذلك تربصوا به واقتادوه إلى الخليفة؟” وتضيف: “كما إن للأغنية اسم قصة كمال. فهل هي قصة حقيقية لشاب بهذا الاسم في زمن خليفة ما؟” أما الصديقة المهندسة المعمارية “دينا إميل قرمة” فقد كتبت لي: “متى غناها؟ إنها بديعة وقد أدمت قلبي! لا بد أنها حديثة وربما تتحدث عن تنظيم داعش؟” لكنني أخبرتها بأن الأغنية بصوت مانولي متسياس تعود للعام 2002 وهذا يستبعد كونها أغنية حديثة تتحدث عن داعش. بالنسبة لي، فكرت دوما إن كان كمال يرمز إلى مصطفى كمال أتاتورك، ولكنني لم أتمكن من تأكيد ذلك أو نفيه.
قصة أخرى تماماً
بعد كل هذه النقاشات المتكررة، قررت أن أبحث عن سر الأغنية فراسلت الصديقة العزيزة والباحثة اليونانية “مارينا بايروفولاكي” المحاضرة في كلية الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن. تجيد مارينا اللغة العربية، لكننا أجرينا الحوار بالإنجليزية بالطبع.
في البداية، قالت لي بأن الأغنية ليست قديمة جداً، بمعنى أنها ليست تراثية. قالت: “إنها تتحدث عن أمير نبيل من الموصل والبصرة، تبدو أسطورية في اليونانية وغريبة بعض الشيء. دعني أبحث قليلاً ولكنني متأكدة جداً من ذلك.” بعد بحثٍ سريع توصلت مارينا الى ان ملحن الأغنية مانوس هاتزيداكيس (المؤلف الموسيقي اليوناني المولود عام 1925 والمتوفي عام 1994) هو أيضاً كاتب القصيدة بصيغتها الأولى.
قالت مارينا: “كان هاتزيداكيس مثلياً بشكل علني بالكامل تقريباً في وقت كانت المثلية الجنسية أمراً أكثر صعوبة عمّا هو الحال عليه في اليونان اليوم لكنه نجح بفضل فنه وثقافته.”
لم يطل البحث حتى عثرنا على مقالٍ باليونانية، فعرفنا بأن هاتزيداكيس كان قد التقى بشاب عربي يُدعى “كمال” في الولايات المتحدة عندما كان هناك في نهاية الستينيات من القرن الماضي. ولا نعرف إن كان كمال من العراق أو لا. قالت: ” كان كمال شخصاً عادياً وليس أميراً بالطبع في الحقيقة، لكنه ترك انطباعاً أثر في هاتزيداكيس جعله يفكر فيه وفي كيفية كون المسلمين من كل الأجناس كانوا بمثابة “الآخر” بالنسبة لليونانيين في زمنه بعد أن غادر الأتراك المسلمين اليونان.” وبسبب ذلك الانطباع القوي، كتب هاتزيداكيس القصيدة باللغة الإنجليزية أولاً من أجل كمال.
قصة حب؟
تساءلت إن كان كمال حبيب هاتزيداكيس، فقالت بايروفولاكي: “هل هو حبيبه؟ لم يقل ذلك بصراحة ولا أعتقد أنه كان نموذج الحبيب الذي يفضله لكن بالطبع، هناك شاب عربي اسمه كمال كان قد ترك فيه هذا الانطباع بحسب قصته ولم يلتقيا سوى لفترة قصيرة جداً. يبدو الأمر تقريباً كما لو أن كمال قد أصبح رمزاً لإنسان نبيل، نوع من المثالية من جانب هاتزيداكيس، الرجل الذي قال بأنه عرض عليه اصطحابه لرؤية وزيارة الكثير من الأماكن لكن الأخير رفض. ولذلك قام بعمل أغنية عنه. لكنه لم يحصل منه على الكثير (الكثير لا يعني بالضرورة علاقة حب بشكل صريح).”
ثم قالت بأن الأغنية تشير الى السندباد – من قصة ألف ليلة وليلة: “إنه عنصر غريب، ولاحظ أيضاً البيت الأخير: طفلي الموهوب والذكي، الزمن لا يتغير، العالم دوماً يمضي بالنار والسيوف. ليلة سعيدة كمال، هذا العالم لن يتغير أبداً”. ثم أضافت: “لقد أصبحت هذه العبارة في اليونانية مشهورة لدرجة أن الناس يستخدمونها أحياناً بحد ذاتها للتعبير عن الحزن والإحباط من حال العالم.”
جدل في اليونان
لم تمر هذه الأغنية بسهولة في اليونان، فقد أثارت الكثير من الجدل واللغط. قالت بايروفولاكي: “اتهم الجهلة هاتزيداكيس بتسويق بروباغاندا إسلامية من خلال هذه الأغنية وفكر بعض الناس حتى بأن كمال قد يشير إلى كمال أتاتورك.” وتفاجأت لأنني كنت قد فكرت في ذلك أنا أيضاً.
وأضافت: “بذلك يمكن ان تكوّن فكرة عن نوع الهياج الذي تسببت فيه هذه الأغنية في بلادنا”. ووضحت الإنقسام بقولها: “فمن جانب، كان هناك اليونانيين المنفتحين الذين رأوا في هاتزيداكس مثال المثقف المتنور والإنساني، وعلى الجانب الآخر، كان هناك المتعصبين اليونانيين الذين لم يفهموا حتى معنى أو مغزى هذه الأغنية الغريبة نوعاً ما وغير المألوفة، بل ولم يفهموا أيضاً كيف يمكن لرجل أن يلهم رجلاً آخر ليكتب أغنية عنه ويمزج نية شهوانية كامنة بمثالية وإنسانية من أجل عالم أفضل.” وتكمل قائلة: “بعض هذه العناصر موجودة بالتأكيد حتى لو لم يكن في إمكاننا أن نتأكد بشكل قاطع.”
إعادة انتاج الأغنية باليونانية
في مطلع التسعينيات، أي في أواخر عمر هاتزيداكيس، تعاون مع الشاعر “نيكوس غاستوس” (شاعر ومترجم ومؤلف أغاني يوناني 1911-1992) ليكتب كلمات الأغنية باليونانية هذه المرة. قالت بايروفولاكي: “في هذه المرة، أصبح كمال أميراً من العراق وبقي المعنى الكامن للأغنية يتمثل في الحلم بعالم أفضل، وهو ما يرغب به الكثير من اليونانيين أيضاً لكنهم لا يتمكنون من تحقيقه.”
أعتقد أن الإنطباع – أو الحب السري والقصير – والذي تركه كمال في قلب هاتزيداكيس كان قوياً لدرجة كبيرة جعلته يواصل التفكير في هذه القصيدة ويصرّ على إعادة إنتاجها باليونانية بعد أكثر من ثلاثين عاماً وفي أواخر أيامه. ربما لا يدرك الإنسان قيمة لقاءات قصيرة وعابرة في حياته وكيف لبعضها أن يترك عميق الأثر في شخصية المرء وأفكاره وحياته.