كتبه لصحيفة (اتلانتيك كاونسل): حسام أبو زهر
منشور بتاريخ: 21/5/2018
ترجمة: أحمد الحسيني
مراجعة وتدقيق: آلاء عبد الأمير
تصميم: مينا خالد
تحذيرات كثيرة، تقول إن اللغة العربية الفصحى، أو اللغة العربية الفصحى المعاصرة، في حالة انحدار، بوجود سعادة من البعض الذي يراها تنحدر. ومع ذلك، من المهم ملاحظة العوامل التي تقود هذا الانحدار، وما يعنيه هذا بالنسبة للمنطقة.
غالباً ما يرى العرب انحطاط أو انحدار لغتهم العربية الفصحى المعاصرة باعتباره فشلٌ لدولهم في الحفاظ على تراث اللغة العربية، لغة القرآن والإسلام. وعلى الرغم من أن البعض يبتهج بتقوية اللغة العامية، أو ما يسمى باللهجات، كعلامة على الأهمية التي تكتسبها الهويات المحلية، فإن تقهقر اللغة العربية الفصحى، في الواقع، تحذير حول البنية التحتية الاجتماعية الضعيفة والنظام التعليمي المتراجع.
قبل المضي قدماً، من الجيد أن نتساءل ما إذا كانت اللغة العربية الفصحى المعاصرة تمر حقاً في الانخفاض. للأسف، لا توجد إحصاءات واضحة نستطيع توثيقها، وعموماً، ما ينظر إليه الناس هي مؤشرات فردية. تستخدم اللغة العربية الفصحى المعاصرة عادة في وسائل الإعلام العربية، والمواقف الرسمية مثل الخطب السياسية، والخطب والنصوص الدينية، والأدب. عندما يتحدث الناس عن انخفاض اللغة العربية الفصحى المعاصرة، فإنهم يشيرون بالعموم إلى انخفاض في الأدب، وإجادة القراءة والكتابة، وزيادة الميل لاستعمال اللهجات أو اللغات الأجنبية بدلاً منها.
ومن أهم العوامل الرئيسية التي أدت إلى تدهور اللغة العربية الفصحى هي ضعف الاقتصادات، والحروب، والرقابة على المطبوعات. فمعدلات القراءة والكتابة في الشرق الأوسط آخذة في الارتفاع، باستثناء العراق في السنوات الأخيرة (وربما سوريا كذلك، في حال جُمعت الإحصائيات من البلد الذي سحقته الحرب)، لكن المسوحات القياسية يمكن أن تكون مضللة. فغالبًا ما تبدو الإحصائيات موجّهة باتجاه معرفة “محو الأميّة الفعّالة” فقط، أو القدرة على فهم “توضيح قصير، وبسيط عن الحياة اليومية”. كما يتم الاستناد أيضاً في هذه المسوحات على الاستطلاعات التي تستخدم مقياساً ثنائياً للمتعلمين وغير المتعلمين، حيث يطلب من الخاضعين للمسح الإجابة عن أنفسهم وهكذا يقعون تحت تأثير انحياز اختيارهم الذاتي. ولا تتم معالجة الأسئلة المتعلقة بمستويات مختلفة من معرفة القراءة والكتابة، أو مجموعات المهارات المختلفة مثل القدرة على إنتاج (الكتابة)، أو صياغة نص فاعل، أو القراءة السلبية.
وهنا، نجد أنه ليس هناك تناقض في قول إن معرفة القراءة والكتابة الوظيفية آخذة في الارتفاع، ولكن استخدام اللغة العربية الفصحى المعاصرة، في الأدب المتطور والنصوص الأكاديمية، في تناقص. ينشر العالم العربي الآن ما بين 15،000 و18،000 كتاباً سنويًا فقط، وهذا يعادل بالضبط ما تنتجه شركة ”بينغوين راندوم هاوس“ وحدها. كانت مصر في يوم من الأيام أكبر منتج للكتب، والتي يتراوح إنتاجها بين 7000 و9000 في السنة. وعلى الرغم من ارتفاع ناتجها في السابق، إلا أنه انخفض بنسبة هائلة بلغت 70% بعد ثورة 2011، واعتباراً من عام 2016 بدأت “تظهر بوادر الانتعاش”.
اليونان تترجم خمسة أضعاف هذا العدد من الكتب إلى اللغة اليونانية. حيث مجموع ما تترجمه اليونان يعادل ما تنتجه 22 دولة عربية مجتمعة. يقول ”عبد الفتاح كيليتو“ وهو كاتب وناقد أدبي مغربي، إن “طلاب الماجستير لا يقرأون أي شيء على الإطلاق”.
المحور العربي الرئيسي، لا سيما مصر ولبنان وسوريا والعراق، كلها تعاني. كتب ”نجار عزمي“ رئيس المحررين في صحيفة ”بدون“ يقول: “تحت حكم مبارك، تعثر المشهد الأدبي المصري”. حيث المثقفون مقادون من الرقابة، مثل المفكر المصري ”نصر حامد أبو زيد“ الأستاذ في جامعة القاهرة الذي كتب عن الدين، فقد أعلنت المحكمة أن ”أبو زيد“ مرتد وطلقته من زوجته (حيث لا يمكن أن يتزوج رجل غير مسلم من امرأة مسلمة في مصر). وفي نهاية المطاف، دفعته التهديدات بالقتل إلى اللجوء إلى هولندا لاحقاً. حتى وإن لم يتم حظر الكتاب بشكل رسمي، فيمكن الوصول إليه بطرق أخرى. بعد أن سألنا في العديد من المتاجر في مصر عن رواية محمد يوسف قعيد “لبن العصفور”، وهو كتاب كُتِب باللهجة العامية المصرية، قيل لي إنه غير محظور لكن المكتبات لن تتاجر به لأنه مثير للجدل.
سوريا والعراق كلاهما يعانيان من الحروب. سوريا، التي عرفت في وقت سابق بأكاديميتها العربية لدراسة وتطوير اللغة، وكذلك لحقيقة أن نظامها التعليمي الجامعي بأكمله كان باللغة العربية، هي الآن مدمرة. يجد اللاجئون أنفسهم في بلدان لا تستخدم فيها العربية في التعليم. حتى لبنان المجاورة، تستخدم اللغة الإنجليزية والفرنسية في نظامها التعليمي.
تضافر هذه العوامل أدى إلى إضعاف الطبقات المتعلمة من أولئك الذين سيقرأون ويكتبون باللغة العربية الفصحى المعاصرة في البلدان العربية. فغالباً ما تتحدث الطبقات المتعلمة، أو من هي قادرة على التحدث عند الحاجة، بلغة عربية مثقفة، ما وصفه عالم اللغويات المصري ”سعيد بدوي“ بـ”العامية الفكرية” ليُبين أنها أقرب إلى اللغة العربية الفصحى من خطاب الأشخاص الأقل تعليماً والأميين. ما يحدث اثناء عملية هجرة العقول عادة هو انتقال الأفراد ممن يمتلكون المقدرة إلى الخارج، لتجنب الحروب، والعثور على عمل، وتأمين مستقبل أطفالهم. حتى أولئك الذين لا يغادرون في كثير من الأحيان يفضلون لغات أجنبية على اللغة العربية الفصحى المعاصرة، فهم يرون ان اللغات الأجنبية عملية أكثر، ومرموقة، ومن المرجح أن تضمن لهم وظيفة. غالباً ما يعمل الشباب في جميع أنحاء المنطقة بلغة أجنبية غير مستخدمين للغة العربية الفصحى المعاصرة. وأفاد حرم جامعة نورث وسترن في قطر مؤخراً أن معظم طلابها غير ماهرين بما فيه الكفاية في اللغة العربية الفصحى المعاصرة للعمل والظهور على قناة الجزيرة. وأفادت تقارير أن الشباب العربي الخليجي يستعملون اللغة الإنجليزية أكثر من العربية في المنزل.
تعاني العربية المعاصرة أيضاً بسبب كيفية إدراك العرب لها. فغالباً ما يُنظر إليها على أنها تستخدم في المواقف الرسمية (وفي الحقيقة تسمى أحياناً اللغة العربية الرسمية)، إلا أن السياق يكشف أن مع استنزاف الطبقات المتعلمة، تنحصر استخدامات اللغة العربية الفصحى أكثر فأكثر للسياقات السياسية والدينية، والتي غالباً ما ترتبط بالنُظم الظالمة والمحافظة. أما الأدب فهو مادة ثقيلة عموماً، فهناك عدد قليل من المؤلفات الخفيفة مثل “كتب الشاطئ” أو غيرها من الأشكال المسلية للأدب مثل الروايات المصورة، المنشورة باللغة العربية المعاصرة أو العامية. في المقابل، تُقدم العروض التلفزيونية والأفلام الأكثر شعبية باللغة العامية. أما على مواقع التواصل الاجتماعي فاللهجة هي المهيمنة، على الرغم من أن العربية الفصحى المعاصرة تستخدم أيضاً.
ومن المثير للاهتمام، أن كانت هناك بعض الجهود لإعادة تنشيط اللغة العربية الفصحى المعاصرة، ولكن في مواجهة تراجع الاقتصاد، والحروب، والرقابة، فإن هذه الجهود من غير المحتمل أن تكون كافية لإنقاذ اللغة. بعض أفلام ديزني تُطلق باللغة العربية الفصحى بدلاً من اللهجة المصرية، والأخيرة كانت تُستخدم في كثير من الأحيان، مما يجعلها تصل بشكل أكبر للأطفال في أفلام الكارتون. كما يتم نشر بعض الروايات المصورة باللغة العربية الفصحى، ومع ذلك، تعاني هذه المنتجات من نقص إمكانية الوصول، لذا من غير الواضح ما إذا كانت ستستمر بسبب الوضع الاقتصادي على المدى الطويل. على سبيل المثال ”همفري ديفيس“ المعروف بترجمته للأدب العربي، يقول أنه في الوقت الذي كانت فيه القصص المصورة والرسوم الهزلية ناجحة بشكل كبير منذ ثورة 2011 في مصر، إلا أنها كثيراً ما تخضع للرقابة بسبب كونها “مباشرة بتأثيرها البصري”. بشكل عام، تُظهر منطقة الخليج إدراكًا متناميًا بأن الاهتمام بـ اللغة العربية الفصحى المعاصرة، غير موجود، ولكنهم لم يقترحوا حلولًا واقعية. وعرضًا لسخرية الموقف، نرى أن الكثير من وسائل الإعلام (المقالات ومقاطع الفيديو) التي تتحدث عن التراجع، تكون باللغة الإنجليزية. كما وُجدت بعض الدراسات التي تبحث في كيفية تحسين التعليم العربي، لكنها تتطلب تغييرات اجتماعية وبيروقراطية هائلة لا يمكن تنفيذها بخفة وسهولة.
إن تدهور اللغة العربية الفصحى المعاصرة، يجب أن يُقلِق صانعي القرار. فهو يظهر انحدار الطبقات المتعلمة وفشل الحكومات العربية في إنشاء أنظمة تعليمية قادرة على تلبية احتياجات ناخبيهم. وعلى الرغم من أن البعض يحتفل بالاستخدام واسع النطاق للّغات العامية في وسائل التواصل الاجتماعي، كعلامة على الهويات المحلية التي تنتصر على الهويات “الأم”، فإن هذا الأمر يجب أن يُقابَل بحذر. فالهويات المحلية للّغة، ليست بالضرورة هويات وطنية، لكنها في الغالب أدنى من كونها وطنية، لأنها تُظهر فشل الدول العربية في توحيد شعوبها بدلاً من إظهار تماسك وطني قويّ.
وحتى إذا كانت اللهجات تنمو بشكل بارز وتصل إلى مرحلة تساوي فيها اللغات الرسمية للدولة -وهي نتيجة غير مرجحة بالنظر إلى المكانة المرموقة التي يمنحها العرب إلى اللغة العربية الفصحى المعاصرة- فإنها تُنشئ تحديات أخرى. إذ لم تطوِّر اللغة العامية أبداً مفردات تقنية بالطريقة التي تتبعها اللغة العربية المعاصرة، وهذا الأمر يوجب تنقيح نظم التعليم بالكامل لتدريس اللهجات.
الرواية حالكة، لكن هذا لا يعني أن الوضع ميؤوس منه. ففي الماضي، عندما كان الاقتصاد أقوى، كانت الدول العربية قادرة على بناء طبقة متعلمة تجيد استعمال اللغة العربية الفصحى المعاصرة، ومع ذلك، دون الاستثمار في شعوبها، ودون بذل جهود متضافرة لتغيير دفة الثقافة نحو العربية، ودون مراجعة نظمها التعليمية لبناء جسر أفضل بين اللغة العربية الفصحى المعاصرة واللهجات، فإننا سنستمر، على الأرجح، بمشاهدة انخفاض في اللغة العربية المعاصرة، مما يعكس تراجعاً أوسع لها في المنطقة.
المقال باللغة الإنجليزية: هنا