كتبه لمجلة (ذي أتلانتك): دوغلاس ماين
منشور بتاريخ: 2018/4/7
ترجمة: مصطفى ماجد
تدقيق: نعمان البياتي
تصميم: عطاالله البلوي
لقد غير الزجاج العالم كما لم تفعل أية مادة أخرى، ولكن الناس عادة ما يغفلون عنها.
من أجل إيصال هذه المقالة إليك، تم تحويل هذه الكلمات إلى إشارات ضوئية تتحرك بسرعة تبلغ نحو 125,000 ميل في الثانية (200,000 كليو متر في الثانية) عبر كابلات الألياف البصرية؛ هذه الكابلات، التي تمتد عبر الجبال والمحيطات، مصنوعة من زجاج رقيق بسمك الشعرة أكثر شفافية 30 مرة من أنقى المياه؛ هذه التقنية أصبحت ممكنة جزئياً بواسطة فريق من شركة كورنينج (Corning Incorporated). في عام 1970 سجلت هذه الشركة براءة اختراع نوع من الكابلات التي يمكن أن تنقل كميات كبيرة من المعلومات لمسافات طويلة، اعتماداً على عقود من العمل من قبل باحثين آخرين.
إذا افترضنا أنك تقرأ هذا المقال على هاتفك الذكي، فأنت مدين أيضاً لستيف جوبز، الذي طلب من شركة كورنينج في عام 2006 صنع شاشة نحيفة وقوية جداً لمنتجه الجديد، (الآيفون)؛ وبالنتيجة، شاشات غوريلا غلاس (Gorilla Glass)، تهيمن الآن على سوق الأجهزة المحمولة: الهواتف التي تعتمد الجيل الخامس من هذه الشاشات يمكن إسقاطها على سطح خشن من ارتفاع خمسة أقدام (ارتفاع التقاط صورة سيلفي) واحتمالية نجاتها 80٪.
هذه مجرد البداية؛ بدون الزجاج، لا يمكن تمييز العالم، فهي في النظارات التي ترتديها، والمصابيح في غرفتك، والنوافذ التي تسمح لك برؤية ما في الخارج، ولكن على الرغم من انتشار الزجاج، لا يزال هناك بعض النقاش داخل المجتمع العلمي حول كيفية تعريف مصطلح “الزجاج”؛ يميل البعض إلى التأكيد على صفاته في الحالة الصلبة، والبعض الآخر يميل إلى صفاته في حالته السائلة. تكثر الأسئلة غير المجابة، مثل: ما الذي يجعل نوعاً معيناً من الزجاج أقوى من الآخر، أو لماذا تنتج بعض المخاليط خصائص بصرية أو هيكلية فريدة من نوعها؟ أضف إلى ذلك أصناف الزجاج اللامحدودة تقريباً – حيث يوجد تقريبا أكثر من 350,000 نوع من الزجاج المعروف حالياً، لكن مبدئياً يمكن اعتبار إن عدد المخاليط لا حدود له، وهناك مجال كبير وفاعل من الأبحاث التي تُنتِج بشكل منتظم منتجات جديدة مذهلة؛ لقد شكّل الزجاج العالم أكثر من أية مادة أخرى، وبطريقة أو بأُخرى فهو المادة المميزة للتاريخ البشري.
يقول (ماتيو بوتشي)، الخبير في مجال الزجاج والباحث في علم المواد في جامعة كاليفورنيا: “نحن نصنع الزجاج منذ آلاف السنين، وما زلنا لا نملك فكرة جيدة عن ماهيته”؛ يُصنع معظم زجاج النظارات عن طريق تسخين خليط من المكونات ثم تبريده بسرعة، وفي حالة الزجاج المسطح، الذي تصنع منه النوافذ، قد يتضمن هذا المزيج الرمل (ثاني أكسيد السليكون)، الجير والصودا (كاربونات الصوديوم). يوفر السيليكون الشفافية، ويوفر الكالسيوم المتانة، بينما تعمل الصودا على خفض نقطة الانصهار، ولا تسمح عملية التبريد السريع للذرات بتشكيل نمط ذري منتظم، كما يوضح (ستيف مارتن)، عالم الزجاج في جامعة ولاية أيوا.
ويساعد ذلك في تفسير سبب عدم كون الزجاج مادة صلبة بلورية ولا سائلًة، بل مادة صلبة غير منتظمة ذرياً (أو غير متبلورة). تحاول الذرات بداخلها أن تستعيد بنيتها البلورية، لكن لا يمكن ذلك عادةً لأنها مثبتة في مكانها؛ ربما سمعت أن نوافذ الكاتدرائية تسيل على مدى فترات طويلة من الزمن، ولهذا السبب بعض ألواح الزجاج في هذه النوافذ تكون أكثر سمكاً في الجزء السفلي منها، وهذا غير صحيح: تم إنشاء هذه النوافذ بهذه الطريقة، نظراً لتقنية التصنيع التي تتضمن دوران زجاج منصهر أدى إلى ظهور مناطق غير متساوية السُمك. لكن الزجاج يسيل ببطء شديد، وقدرت دراسة نشرت العام الماضي في صحيفة جمعية الخزف الأمريكية أن زجاج الكاتدرائية في درجة حرارة الغرفة سيستغرق أكثر من مليار سنة ليتحرك نانومتراً واحداً فقط.
على الرغم من أن أنواعاً من الزجاج البركاني الطبيعي مثل زجاج السبج (Obsidian glass) قد صُنعت منها الأدوات في مرحلة مبكرة في التاريخ البشري، فمن المحتمل أن الزجاج قد تم تصنيعه لأول مرة في بلاد ما بين النهرين منذ أكثر من 4000 عام؛ وعلى الأرجح، تم تطويره لإنتاج الخزف الزجاجي، وسرعان ما انتشرت هذه التقنية في مصر القديمة، وكانت الأجسام الزجاجية الأولى تتكون من الخرز والتمائم والقضبان، وغالباً ما تلون باستخدام المعادن المضافة لتبدو وكأنها مواد أخرى، كما يقول (كارول ويت)، المدير التنفيذي في متحف (كورنينغ) للزجاج.
كما يضيف وايت أنه في وقت مبكر من بداية الألفية الثانية قبل الميلاد، بدأ الحرفيون يصنعون أوعية صغيرة مثل المزهريات، واكتشف علماء الآثار ألواحاً مسمارية تشرح الوصفة لمثل هذه المواد، لكن هذه الألواح مكتوب عليها بلغة مشفرة الهدف منها إخفاء أسرار التجارة.
كان الزجاج قد أصبح بالفعل مهنة مهمة في بدايات الإمبراطورية الرومانية؛ يروي الكاتب (بيترونيوس) حكاية حرفي أهدى الإمبراطور (تيبيريوس) قطعة من الزجاج زعم أنه غير القابل للكسر. سأل (تيبيريوس) الحرفي، “هل يعرف أي شخص آخر كيفية صناعة زجاج مثل هذا؟” كلا، أجابه الحرفي، دون سابق إنذار، كان (تيبيريوس) قد قطع رأس الرجل؛ وعلى الرغم من أن دوافع (تيبريوس) لا تزال غامضة، فإنه يمكن للمرء أن يتخيل أن مثل هذا الاختراع إذا انتشر وأُنتج بكميات كبيرة من شأنه أن يعطل صناعة الزجاج الهامة في روما والأولى من نوعها.
أول ابتكار كبير جاء في القرن الأول قبل الميلاد، عندما تم اختراع عملية نفخ الزجاج بالفم لتشكيله في المناطق المحيطة بالقدس، وسرعان ما اكتشف الرومان كيفية جعل الزجاج شفافاً نسبياً، وظهرت أولى النوافذ الزجاجية؛ كان هذا تحولاً هاماً، فسابقاً كانت تقدر قيمة الزجاج بشكل أساسي بناءً على لونه وخصائصه التزيينية، وبدلاً من النظر إلى الزجاج، يمكن أن ينظر الناس الآن من خلاله؛ في غضون بضعة قرون، بدأ الرومان في إنتاج الزجاج على نطاق صناعي، وانتشر في نهاية المطاف في جميع أنحاء أوراسيا.
في هذا الوقت، لم يكن العلم مفهوماً بشكل جيد، واحتفظ الزجاج بمسحته السحرية، فعلى سبيل المثال، أنشأ الرومان كأساً في القرن الرابع يُعرف باسم كأس Lycurgus، والذي يظهر باللون الأخضر المزرق عندما يسلط عليه الضوء من الأمام، ولكن يظهر باللون الأحمر الدموي عند تسليط الضوء عليه من الخلف، وتُظهر الأبحاث أن خصائصه المذهلة ترجع إلى وجود جسيمات من الفضة والذهب، والتي تغير ألوان الكأس اعتماداً على موقع الناظر.
خلال العصور الوسطى، بقيت أسرار صناعة الزجاج حية في أوروبا والعالم العربي، وفي أواخر العصور الوسطى (1000-1250 ميلادية)، كان الأوروبيون ينتجون الزجاج الملون؛ هذه اللوحات الرائعة على الزجاج، في الكنائس في أوروبا الغربية، لعبت دوراً كبيراً في تعليم الناس غير المتعلمين في الكنائس، كما يقول (ويت)، فلا عجب إذن في أن يشار إليها باسم الكتاب المقدس للفقراء.
على الرغم من أن النوافذ كانت موجودة منذ العصر الروماني، إلا إنها بقيت باهظة الثمن ويصعب الحصول عليها، لكن ذلك بدأ يتغير بعد بناء قصر الكريستال من أجل إقامة المعرض العالمي الكبير عام 1851، وهو مبنى ضخم تم بنائه في لندن يحتوي على ما يقرب من مليون قدم مربع من الزجاج (وهذا يمثل أكثر من أربعة أضعاف المساحة المغطاة بالزجاج لمقر الأمم المتحدة في نيويورك، التي أقيمت بعد قرن من الزمن)؛ أظهر قصر الكريستال للناس قوة وجمال النوافذ الزجاجية، وكان له تأثير مهم على الهندسة المعمارية وعلى الطلب المستقبلي على الزجاج للمستهلكين؛ يقول (آلان مكلناغان)، الرئيس التنفيذي لشركة (سايج كلاس)، وهي شركة تصنع النوافذ الملوّنة وغيرها من المنتجات، احترق قصر الكريستال كلياً في عام 1936، ولكن النوافذ أصبحت بأسعار معقولة أكثر بعد بضع سنوات، خاصة عندما اخترعت شركة الزجاج البريطانية (Pilkington) تقنية (الزجاج العائم)، وهي طريقة بسيطة لصناعة ألواح مسطحة من الزجاج عن طريق تعويمها فوق القصدير المصهور.
قبل شيوع النوافذ بوقت طويل، صنع مخترعون غير معروفين في شمال إيطاليا أول نظارات في نهاية القرن الثالث عشر. ساعد هذا الاختراع على انتشار محو الأمية ومهد الطريق أمام عدسات أكثر تقدماً، والتي ستمكن البشر من رؤية أشياء لا يمكن رؤيتها، وبحلول القرن الرابع عشر الميلادي، بدأ الفينيسيون (سكان مدينة البندقية) بإتقان عملية صنع نوع من الزجاج يعرف باسم (كريستالّو)، وهو زجاج شديد الوضوح، من خلال الاطلاع على تقنيات طورت في الشرق الأوسط وآسيا الصغرى؛ تضمنت إحدى الوصفات إذابة حصى الكوارتز المختارة بعناية مع الرماد المنقى من النباتات المقاومة للملح، والتي كانت غير معروفة في ذلك الوقت، وتوفر هذه النباتات النسبة الصحيحة من السليكا والمنجنيز والصوديوم؛ سرية هذه الحرفة كانت مسألة حياة أو موت، وصانعو الزجاج، على الرغم من أنهم يتمتعون بوضع اجتماعي عالٍ، فإنهم واجهوا عقوبة الإعدام إذا غادروا مدينة البندقية. سيطرت البندقية على سوق الزجاج للسنوات الـ 200 المقبلة.
أقام الفينيسيون أيضاً المرايا الأولى المصنوعة من الزجاج المُصَّنع، والتي من شأنها أن تغير العالم بطرق لا يمكن وصفها. قبل ذلك، كانت المرايا تصنع من معدن مصقول أو من الحجر البركاني، لكنها كانت باهظة الثمن ولا تعكس بشكل جيد أيضاً، ومهد هذا الاختراع الطريق للتلسكوبات وأحدث ثورة في الفن، مما أتاح للرسام الإيطالي فيليبو برونليسكي اكتشاف المنظور الخطي في عام 1425، كما غيروا فكرتهم عن مفهوم الذات، ويذهب الكاتب (إيان مورتيمر) إلى أبعد من ذلك ليشير إلى إنه المرايا الزجاجية، سمحت للناس بأن يروا أنفسهم كأشخاص فريدين ومنفصلين عن الآخرين، حيث لم يكن مفهوم الهوية الفردية موجوداً بالفعل في ذلك الوقت.
إلى جانب الانعكاس، سمح الزجاج بالتكبير، ففي حوالي عام 1590، اخترع كل من (هانس وزاكارياس يانسن)، فريق من أبٍ وابنه، مجهراً مركَّباً، مع عدسات عند طرفي أنبوب، مما أدى إلى القدرة على تكبير الأشياء تسعة أضعاف، وحقق الهولندي (أنطوني فان ليفينهوك) قفزة أخرى إلى الأمام، إذ كان متدرباً غير متعلم نسبياً في متجر للمَنْسُوجات، حيث كان يحسب خيوطً القماش باستخدام نظارات مكبرة، فطوّر طرقاً جديدة لتلميع وصقل العدسات، وأنشأ جهازاً يسمح له بتكبير الصور حتى 270 مرة؛ سمح له هذا باكتشاف الكائنات الحية الدقيقة عن غير قصد مثل البكتيريا والكائنات وحيدة الخلية بداية عام 1670.
أكد العالم الإنجليزي (روبرت هوك)، هذه النتائج وحسن مجهر (فان ليفينهوك)، فقد صنع التاريخ عندما ألف كتاب (الفحص المجهري)، وهو أول كتاب عن عالم الكائنات المجهرية، مع رسومات جميلة لمشاهد لم تتم رؤيتها سابقاً، مثل نسيج الإسفنجيات والمخلوقات الصغيرة مثل البراغيث (مزينة “بمجموعة رائعة من الدروع القوية المركبة بعناية” كما وصفها). من خلال إمعان النظر في نسيج الفلين من خلال المجهر، ذكّره الهيكل الشبيه بقرص العسل بحجرات الدير (معبد للرهبان)، مما دفعه إلى استخدام مصطلح “الخلية” (لأنه في اللغة الإنجليزية المصطلح المقابل لكلمة خلية وغرف الرهبان هي نفسها)، وقد أدت هذه التطورات إلى تحول العلم وأدت من بين أمور أخرى، إلى نظرية الجراثيم وعلم الأحياء الدقيقة.
في مكان آخر في المختبر، تطويرَ الأواني الزجاجية الشفافة ومعدات المختبر مثل الدوارق والماصة المدرجة جعل من الممكن قياس وخلط مواد مختلفة وإخضاعها لضغوط مختلفة؛ ومكنت هذه الأدوات الزجاجية تطوير الكيمياء الحديثة والطب، وكذلك التقدم في بعض المجالات مثل المحرك البخاري ومحرك الاحتراق الداخلي.
وبينما كان البعض يعبث بالميكروسكوب والاسطوانات المدرجة، كان آخرون يبحثون عن النجوم؛ وعلى الرغم من وجود بعض الجدل حول شخصية مخترع التلسكوب، فإن السجلات الأولى تظهر أن اختراعه تم في هولندا في 1608، وقد اشتهرت التلسكوبات بعد عام من قبل غاليليو غاليلي، الذي قام بتحسين التصميم وبدأ بمراقبة السماء؛ وفي العام التالي، رصد أقمار المشتري، وأدرك في النهاية أن فكرة مركزية الأرض التي كانت سائدة منذ العصر اليوناني لم تكن منطقية. الكنيسة الكاثوليكية لم تكن راضية عن ذلك، وأعلنت لجنة التحقيق التابعة للكنيسة عام 1616 أن مركزية الشمس “معتقد أحمق وسخيف في الفلسفة، وهرطقة لأنها تتناقض بشكل صريح في جوانب كثيرة مع الكتاب المقدس”.
لا يُظهر تأثير الزجاج أي علامات على الانحسار، وبالنظر إلى المستقبل، يأمل الباحثون في تحقيق إنجازات علمية ذات أهمية مماثلة، مثل استخدام الزجاج لاحتواء النفايات النووية، وصناعة بطاريات أكثر أماناً، وزراعة الأنسجة الحيوية في مجال الطب. كما يحاول المهندسون صنع شاشات متطورة تعمل باللمس، ونوافذ ذاتية التلوين، وزجاجاً غير قابل للكسر.
في المرة القادمة التي تجد نفسك فيها أمام زجاج من أي نوع، فكر في مدى غرابة هذه المادة؛ فهي مصنوعة من الرمل والنار، متصلبة مثل قشرة الجليد على بركة، مكونة من ذرات في حالة غير منتظمة، قد سهّلت الكثير من التقدم البشري؛ عليك أن تنظر إلى الزجاج ذاته، بدلاً من مجرد النظر من خلاله، دون الانتباه إليه، فهناك الكثير من الحقائق التي لم نتمكن من رؤيتها.
المقال باللغة الإنجليزية: هنا