مقال ل(الايكونوميست)
بتاريخ: 27 كانون الثاني 2018
ترجمة: آمنة الصوفي
تصميم: احمد الوائلي
من بين الأيديولوجيات الثلاثة السائدة في القرن العشرين – الفاشية والشيوعية والليبرالية – لم يتبق سوى الأخيرة. وقد أوجد هذا وضعاً غريباً يميل فيه أنصار الليبرالية إلى نسيان أنها مجرد إيديولوجية وليست الحالة النهائية للتطور السياسي البشري. كما يُحاجج باتريك دينين في هذا الكتاب، بكون الليبرالية مبنية على أساس من التناقضات: فهي تطالب بالحقوق المتساوية بينما تعزز عدم المساواة المادية التي لا تضاهى. وتستند شرعيتها إلى المُصادَقة، لكنها لا تشجع الالزامات المدنية لصالح الخصخصة، وفي سعيها الدؤوب لتحقيق الاستقلال الفردي، أدت إلى خلق نظام الدولة الأكثر شمولاً في تاريخ البشرية. هنا، يقدم دينين تحذيراً صارماً بأن القوى المركزية التي تعمل الآن في ثقافتنا السياسية ليست عيوباً سطحية، بل سِمات متأصلة في نظام أصبح نجاحه يولد فشلاً.
على مدى القرون الأربعة الماضية، كانت الليبرالية ناجحة للغاية لدرجة أنها دفعت جميع خصومها للتنحي عن ساحة المعركة. الآن باتت تتفكك وتُدمّر بمزيج من العُنجهية والتناقضات الذاتية، وفقاً لباتريك دينين، أستاذ السياسة في جامعة نوتردام.
يمكن ملاحظة حُطام الليبرالية المتراكِم في سنوات انحطاطها في كل مكان، وخاصة في أمريكا، وهو المحور الذي يركز عليه دينين.حيث تم تهشيم معتقداتها الركائزية. لقد أنتج مبدأ تكافؤ الفرص ميريتوقراطية ارستقراطية جديدة ( ميريتوقراطية: هي نظام إداري وسياسي تُسند فيه التكليفات والمسؤوليات إلى الأفراد على أساس “استحقاقهم” القائم على ذكائهم وشهاداتهم ودرجة تعليمهم /المترجم) تتمتع بكل فوارق الطبقة الأرستقراطية القديمة لكنها تفتقر الى مسميات النَبالة التي فرضتها هذه الطبقة. تحلَلت الديمقراطية إلى مسرح عبثية. واصبحت التطورات التكنولوجية تقلّص المزيد من مجالات العمل و تسبب في الكدح الخاوي. يذكر دينين أن “الفجوة بين ادعاءات الليبرالية عن نفسها والواقع المعيشي للمواطنين” باتت واسعة جداً بحيث “لم يعد بالإمكان التسليم بهذه الكِذبة” . ما هو الدليل الأفضل على ذلك من رؤية 1000 طائرة خاصة تنقل شاغليها إلى دافوس لمناقشة مسألة “خلق مستقبل مشترك في عالم مجزأ”؟
يستخدم دينين مصطلح “الليبرالية” ضمن مفهومها الفلسفي أكثر من استخدامه لمفهومها السائد. وهو يَصف التراث العظيم للنظرية السياسية الذي يُعزى عادة إلى توماس هوبز وجون لوك بدلاً من مجموعة من المواقف اليسارية المبهمة التي يربطها الأميركيون الآن بهذه الكلمة. لكن هذا ليس صورة من اللغط الفلسفي. يجادل معظم المنظرون السياسيون بأن الليبرالية قُسمت إلى تيارين مستقلين: الليبرالية الكلاسيكية ، التي تحتفي بالسوق الحرة ، والليبرالية اليسارية التي تحتفي بالحقوق المدنية. بالنسبة للسيد دينين، كلاهما منسجم معاً ضمنيا. في حين أن معظم المهتمون بالسياسة يعتقدون أن الجدل حول الليبرالية لا طائل فيه؛ يجادل دينين بأن الليبرالية هي فلسفة حُكم، تُملي كل شيء بدءأً بقرارات المحاكم إلى سلوك الشركات. فالنظرية هي التطبيق.
يكمن هذا الانسجام الضمني في قدرة الفرد على التعبير عن ذاته. فكل من الليبراليين الكلاسيكيين واليساريين يُقرون بأحقية البشر كأفراد بامتلاك الحقوق و وجوب احراز أكبر مجال ممكن لتحقيق أحلامهم. فهدف الحكومة هو ضمان الحقوق. تستند شرعية النظام إلى اتفاق مشترك يجري في “عقد اجتماعي” بين طرفين بالغين. لكن هذا يُنتج تباين. ولأن جوهر الليبرالية يُبيد العادات والتقاليد المحلية الموروثة، أحيانًا باسم كفاءة السوق وأحيانًا باسم الحقوق الفردية، فإنها تخلق مساحة أكبر لتوسيع الدولة، كصانع السوق (سمسار تداول الاسهم والاصول المالية/المترجم) و فارض للقانون. يتجلي التعبير المثالي عن الليبرالية الحديثة من خلال الفيلم الروسي”Leviathan”، حيث صوّر تشتت الاف الأفراد تحت سطوة الدولة.
على الرغم من فشله أحياناً في الإقناع، الا أن دينين قد وضح حجته جيداً . إذ ينبه القارئ أنه قبل حلول الليبرالية الحديثة، حدد الفلاسفة مفهوم الحرية بالسيادة على الذات بدلاً من التعبير عن الذات، وإخضاع الرغبات المبتذلة بدلا من الانغماس فيها. يقوم دينين بعمل مثير للإعجاب من خلال تشخيص خيبة الأمل السائدة حالياً، متمثلة بتذمر اليسار حول النشاط التجاري المتسلط، و شكاوى اليمين حول الطلاب النرجسيين والمتنمرين، والمخاوف العامة بشأن التشتت والأستئثار ولكن عندما يستنتج أن كل هذا يُنسب إلى فشل الليبرالية، هل حجته مقنعة؟
يحتوي كتابه على خطآنِ فادحان؛ يكمن الاول في تعريفه لليبرالية. يعتقد جي.اج.هكستر وهو أكاديمي أمريكي، أن زملاءه من المؤرخين يمكن تصنيفهم إلى معسكرين: “المقسِّمون” (الذين يخلقون الفوارق باستمرار و” المعمِمون” (الذين يطلقون التعميم الشامل من خلال دمج المفاهيم في اطار واحد). أما دينين فيقع ضمن فئة المعمِمون المتطرفة. فهو يجادل بأن جوهر الليبرالية يكمن في تحرير الأفراد من القيود.
في الواقع، تشتمل الليبرالية على نطاق واسع من الموروث الفكري الذي يقدم إجابات مختلفة لمسألة كيفية المقايضة على الادعاءات المتقاربة للحقوق والواجبات، التعبير عن الذات والروابط الاجتماعية. حتى الليبراليون الكلاسيكيون الذين كانوا الأكثر إصرارًا على إزالة القيود المفروضة على الحرية الفردية يشكون من التشتت. كانت الطبقة الوسطى في العصر الفيكتوري من بناة المؤسسات الكبرى، صمموا كل شيء من المنظمات التطوعية إلى الشركات المساهِمة (هي شركة يقسم رأس المال فيها إلى أسهم قابلة للتداول، وللشركة المساهمة كيان قانوني مستقل عن حملة أسهمها، أي أن لها شخصية اعتبارية مستقلة عن أصحاب حقوق الملكية/المترجم) وهو ما اطلق عليه رجل الدولة البريطاني في القرن التاسع عشر، روبرت لوي روبرت لوي ب “الجمهوريات الصغيرة” التي تم تصميمها لملء الفراغ بين الدولة و المجتمع. فيما بعد، تبنّى الليبراليون مجموعة من الأفكار من انتزاع السلطة من الدولة إلى إنشاء أنظمة تعليمية وطنية.
يؤدي اصرار دينين على ماهية الليبرالية إلى بيان الخطأ الفادح الثاني لكتابه وهو فشله في إدراك قدرة الليبرالية على إصلاح نفسها ومعالجة مشاكلها الداخلية. شهد أواخر القرن التاسع عشر معاناة أمريكا من العديد من المشاكل التي نشهدها اليوم ، بما في ذلك إنشاء أرستقراطية تجارية، وصعود شركات ضخمة، وفساد السياسة، والشعور بأن المجتمع كان ينقسم إلى منتصر وخاسر. لكن مجموعة واسعة من الإصلاحيين، الذين عملوا في إطار التقاليد الليبرالية، عالجوا هذه المشاكل بشكل مباشر. مثل ثيودور روزفلت الذي تولى على عاتقه مسيرة الاصلاح. قاد التقدميون محاربة الفساد الحكومي. واستحدث المصلحون الجامعيون مناهج أكاديمية وبنوا السلالم الوظيفية. فبدلاً من الفناء أصلحت الليبرالية نفسها.
في النهاية، لدى السيد دينين الحق في الإشارة إلى انتكاس الليبرالية في السنوات الأخيرة. كما أنه محق في التأكيد على أن العالم لديه الكثير لتتعلمه من المفاهيم السابقة للحرية في فترة ما قبل الحداثة كاخضاع النفس وإنكار الذات. أكبر عدو لليبرالية ليس التشتت بقدر كبير بل الطراز القديم للجشع حيث حيث راكم نخبة الاعضاء في دافوس حصصهم لتبلغ مستوى غير مسبوق، مع امتيازات وخيارات اضافية ولكن من الخطأ القول إن الطريقة الوحيدة لتحرير الناس من تناقضات الليبرالية هي “التحرر من الليبرالية نفسها”. أفضل طريقة لقراءة كتاب “لماذا فشلت الليبرالية” ليست كخطبة جنائزية لليبرالية بل كنداء للعمل وبذل الجهد.
المقال باللغة الانكليزية: هنا