للكاتب: فيليب غالنز
27\1\2018
ترجمة: ياسر منهل
تدقيق: نعمان البياتي
تصميم: حسام زيدان
نشرت هذه المقالة في يوم 28\1 \2018 في الصفحة الأولى لمجلة نيويورك (NEW YORK) تحت عنوان “لقاء العقول”
أول ما سيلفت نظرك، في حال حظيت بزيارة لمكتب بيل غيتس الخاص الواقع على أطراف مدينة سياتل، مجسم بحجم الجدار للجدول الدوري للعناصر الكيميائية مع عينة من كل عنصر موضوعة في الخانة الزجاجية الخاصة بكل عنصر، كما وسيلفت نظرك أيضاً رفوف الكتب الأنيقة التي التصق أعلاها بالجدار.
ولا يعد هذا الاهتمام، بالعلوم والكتب، غريباً على بيل غيتس إذا علمنا بأن العلوم والكتب يمثلان الشغف المشترك له.
أسس السيد بيل غيتس في عام 1975 شركة ميكروسوفت بمساعدة بول ألين، إذ نجح كلاهما في وضع شركتهما في مكانة متميزة الصدارة في عالم البرمجيات الحاسوبية الشخصية، حيث أصبحت أكبر شركة في العالم، لا بل جعلت السيد غيتس، لفترة معينة، الرجل الأغنى في العالم، إذ تبلغ ثروته حسب تصنيف بلومبيرغ الحالي 95 بليون دولار في حين يحتل صدارة القائمة جيف بيزوس 114 بليون دولار.
وفي تحول مفاجئ في توجهات السيد بيل غيتس وبعد مضي قرابة عقدين على عمله في شركة مايكروسوفت انتقل اهتمامه إلى ميدان الأعمال الخيرية محولاً بذلك ما يزيد على 30 بليون دولار من ثروته لينشئ برفقة زوجته مؤسسة “بيل وميليندا غيتس”.
ويذكر بأن بيل قد تزوج في عام 1994 وأنشأ مؤسسته بعد ست سنوات من زواجه من السيدة مليندا؛ ومن الجدير ذكره أيضاً، أن مؤسسة غيتس الخيرية عُدَتْ في حينها المؤسسة الخاصة الأكبر في الولايات المتحدة، إذ تعمل هذه المؤسسة على تحسين الواقع الصحي في البلدان النامية وتتيح توسيع فرص التقدم أمام الأشخاص الأقل حظاً في الولايات المتحدة.
وبالإضافة لاهتمام بيل غيتس المُنصب على الأعمال الخيرية يعد غيتس، البالغ من العمر 62 عاماً، قارئاً نهماً، إذ دائماً ما يضيف تعليقاته على الكتب التي يقرأها في مدونته الشهيرة “Gates Notes”، وقد أوصى غيتس في مدونته بقراءة بعض الكتب مثل كتاب (المطرود) لماثيو ديزموند (Mathew Desmond) وكتاب “صدقني” للكاتب البريطاني الساخر إيدي إيزارد Eddie Izzard)، إذ يعلق غيتس قائلاً: ” إن لم يسبق لك أن شاهدت عروض إيدي إيزارد التمثيلية المتتابعة، فقد فاتك الكثير”؛ وتحظى الكتب التي يناقشها غيتس في مدونته ويوصي بقراءتها بمستوى مبيعات مرتفعة، فعلى سبيل المثال، في سلسلة من 14 تغريدة يخاطب فيها الخريجين الجدد كتبها غيتس في حزيران الماضي، أثنى فيها غيتس على كتاب: “ملائكة الخير الكامنة في الطبيعة البشرية: لماذا تراجع العنف” للمؤلف ستيفن بينكر، حيث ذكر غيتس في إحدى هذه التغريدات الأربعة، في معرض مدحه للكتاب، قائلاً: ” إنه أكثر كتاب إثارة للإلهام قرأته على الإطلاق”، وما إن حل صباح اليوم التالي حتى تصدر كتاب “ملائكة الخير” قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في موقع أمازون، علماً أن الكتاب كان قد صدر من دور النشر قبل ست سنوات.
انتظرتُ في ظهيرة إحدى الأيام القلائل الماضية في مكتب بيل غيتس، وقد أدهشني منظر بحيرة واشنطن وجبل راينر، اللذان يطل عليهما مكتبه، وقد التقيت في زيارتي هذه للمكتب بالسيد ستيفن بينكر، وهو دكتور علم النفس في جامعة هارفرد، وله ما يزيد عن عشرة مؤلفات رشح اثنان منها لجائزة البوليتزر.
لم يتأخر السيد غيتس عن اللقاء بنا، ويُذكر أن أول لقاء كان بينهما في عام 1995 حين زار السيد بينكر شركة ميكروسوفت للحديث عن كتابه “غريزة اللغة” الذي تناول ارتقاء اللغة وتطورها في رحلة التواصل الإنساني ومنذ ذلك الحين أصبح اللقاء بينهما منتظماً، ولكن هذا اللقاء الأخير جاء للنقاش حول كتاب بينكر المرتقب “التنوير الآن”، والذي يتناول العلم والعقل على أنهما القوى القادرة على تحقيق تقدم إنساني ثابتٍ وملموسٍ، وكان بيل غيتس قد تتطرق للكتاب في مدونته.
اجتمعنا ظهيرة ذلك اليوم، الذي سمي لاحقاً بيوم “الإغلاق الحكومي” والذي حصل مؤخراً، على طاولة غداء مكونة من بيتزا وسلطة حيث قال السيد غيتس: “لا أزال متفائلاً، لكن لم كل هذه الضجة؟”، وتناقش الرجلان عن القواسم المشتركة في عملهما وعن العمل غير المنجز، الذي لايزال ينتظرهما لضمان استمرار التقدم الإنساني، وناقشا كذلك تحديات تصميم مراحيض صحية مثالية.
وعندما بدأنا تبادل أطراف الحديث أخبرنا السيد غيتس أنه الآن مختلف تماماً عن الشخص الذي كان عليه في العشرينات من عمره عندما أسس شركة ميكروسوفت بإخلاص تام، ويقول: “كنت حينها متحمساً، ولم أكن حينها أؤمن بشيء اسمه عطلة نهاية الأسبوع، ولم أكن أؤمن بشيء اسمه أيام عطل، كنت حينها أحفظ أرقام لوحات تسجيل سيارات جميع الموظفين، لذا كنت أعرف متى يجيئون ومتى يذهبون؛ لقد كانت حياتي تتلخص بتصنيع برمجيات عظيمة”.
فيليب غالنز: صدمت حين عَلِمتُ بأنك تركت العمل في ميكروسوفت لأجل التفرغ لمؤسستك الخيرية الجديدة.
بيل غيتس: حين تتزوج وترزق بأطفال وأنت في الثلاثينيات أو الأربعينيات، يصبح لديك العمل في مجالات متعددة أمراً مألوفاً، أما بخصوص ميكروسوفت فإنه لا يرغب أحدٌ أن تدار شركة مختصة بتطوير التكنولوجيا من قبل شخص في الستينات من عمره، وعلى أقل تقدير فإني شخصياً لا أرغب بذلك، لذلك اخترت ترك العمل في ميكروسوفت بعمر الـ 53، وبسبب التزاماتي في المؤسسة الخيرية التي أنشأتها بعمر الـ 45، كنت أعمل في ميكروسوفت بدوام جزئي في فترة ثمان السنوات هذه، وكنت في بقية وقتي أدرس وأتعلم عن الواقع الصحي العالمي وعن اللقاحات وعن إفريقيا.
فيليب غالنز: ولكن لمَ اخترت إنشاء مؤسسة خيرية ولم تختر القيام برحلات باذخة للاستمتاع بثروتك؟
بيل غيتس: حسناً، كان السؤال المطروح أمامنا أنا وميليندا في حينها هو: في ضوء الثروة الهائلة التي نملك وفي ظل نظام القيم التي نؤمن بيها، ما هي الوسيلة الأكثر جدوى لإعادة منح هذه الثروة؟ فاخترنا، أنا ومليندا، قضية الصحة العالمية لتكون على قمة أولوياتنا تليها قضية التعليم في الولايات المتحدة، وحددنا كلاً من الزراعة والصحة وتنظيم الأسرة ومكافحة التدخين كإطار لتحقيق هدفنا المتعلق بالصحة، لذا فإن مجال عملنا واسع.
فيليب غالنز: هل ترى في عملك هذا قفزة تجعل منك إنساناً “كامل الإنسانية”؟
بيل غيتس: أنت الآن تضع حكما قيمياً على عملنا؛ بالنسبة لي لا أقف مع أو ضد هذا الطرح، ولكن بالنسبة لشاب في العشرينات من عمره فإن كتابة البرمجيات ليلاً ونهاراً قد تكون أفضل طريقة لتعزيز رفاهية الانسان، حيث لم أكن قد سمعت قط حينها بشيء اسمه لقاح، ولم أكن حينها أملك أي شيء، باستثناء حاسوبي الشخصي والإنترنت، وهو الأمر الذي كنت ماهراً فيه وكنت أستمتع بعمله كل يوم.
فيليب غالنز: سيد ستيفن هناك تطابق رائع بين عملك وعمل السيد غيتس، إذ بدء كلاكما بمجال دراسة اللغة وانتهيتم عند مسألة رفاهية الإنسان.
ستيفن بينكر: من المثير أني سَلَكتُ، نوعا ماً، نفس الطريق الذي سلكه غيتس وانتهيت عند نفس ما انتهى إليه صدفةً، فقد كُنا مُهتَمَّين بدراسة اللغة عندما التقينا أول مرة، وبالأخص مجال أنظمة التواصل الرقمية والمنطق والبرمجة، بيد أنى اخصائي نفساني ولست لغوياً؛ لقد تولد اهتمامي باللغة من دراستي للطبيعة البشرية، فاللغة هي ما يجعل الإنسان مختلفاً بشكل كبير جداً عن بقية الحيوانات، وقد افترضت في كتابي “غريزة اللغة” بأن اللغة كانت وليدة تَكيُف دارويني، أتاح لنا الجنس البشري التعاون والتواصل فيما بيننا.
لاحقاً، اتجه بيل غيتس نحو الأعمال الخيرية باتخاذه خطوات ملموسة في هذا المضمار، أما أنا فانشغلت آنذاك بكتابة كتابي “ملائكة الخير”، وهو دراسة تاريخية قائمة على أدلة، توصلت فيه لنتائج، مفاجئة للبعض، تثبت أننا قد أحرزنا تقدماً ملحوظاً على أصعدة مختلفة، إذ يبين هذا الكتاب، وعبر إحصائيات دقيقة، بأن نسبة الجريمة في العصور الوسطى كانت 35 مرة أكبر من نسبتها اليوم في أوروبا، وحين نشرت هذه المعلومة على الإنترنيت تلقيت العديد من الآراء، المطابقة لرأيي، والتي استشهدت بعدة أمثلة من قبيل: انخفاض نسبة الوفيات في المجتمعات المرفهة بنسبة 20% منذ العام 1945، وانخفاض معدلات العنف المنزلي وحالات الاعتداء على الأطفال أخذت بالتناقص، حيث قمت بجمع كل هذه البيانات والتي تُظهر تراجع العنف والتي يجهلها أكثر الناس، ورأيت أنه من الأفضل أن أنشرها في كتاب ليعلمها الجميع.
بيل غيتس: لقد أصابني كتاب “ملائكة الخير” بالذهول لكوني توصلت لنفس الفكرة القائلة “بأن الأمور آخذة بالتحسن حول العالم” وهي ما اعتبرها القصة الأروع التي يجهلها الجميع.
فيليب غالنز: شعار مؤسسة السيد غيتس هو “لأرواح الناس قيمٌ متساوية”، وفي كتابك الأخير يا سيد ستيفن هنالك فكرة تقول بأن من غير الجائز أن نطالب بشيء جيد لأنفسنا دون أن نتمناه ونطالب به لغيرنا، ولكني في الحقيقة أتمنى وأطالب بالأشياء الأفضل لزوجي وأطفالي أكثر مما أطلب بها لك ولغيرك، فهل يعد هذا أمراً باطلاً أم إنه مقبول إنسانياً؟
بيل غيتس: هذا أمر طبيعي، لا بل إنه متوقع في المنطق التطوري، فالذي جعل من بابوا غينيا الجديدة وهي بلد تغيب فيها سلطة الشرطة حيث الانتقام يقابَل بانتقام، بلداً مختلفا عن البلدان الغربية، هو أننا حين نسلم أنفسنا للقانون نتوقع من القانون أن يُطبق بنزاهة وعدم تحيز، وأنتج لنا هذا الأمر حالة الاستقرار التي نعيشها الآن، ولكن لو أتيح لك عدم تسليم ابنك للشرطة فإنك بالطبع ستحاول عدم تسليمه.
ستيفن بينكر: لكنك يا سيد فيليب أغفلت جزءاً هاماً في تأطير هذا الافتراض، وهو ما أشار إليه الفيلسوف سبينوزا حين قال بأن الأشخاص الذين يتأثرون بالعقل والمنطق لا يتمنون شيئاً لأنفسهم دون أن يتمنوه للبشرية جمعاء، بيد أن العقل ليس الجزء الأكثر تأثيراً في طبيعة الإنسان. لكننا بفطرتنا نفضل عائلتنا على الغرباء، وقبيلتنا التي ننتمي إليها على باقي القبائل، ولكن فقط عندما يتم استدعائنا لنبرر أفكارنا ومعتقداتنا، وليس للتعبير عن كوامن مشاعرنا ونزعاتنا، لكي نقنع الآخرين بضرورة سلوك الطريق القويم الذي نراه أخلاقياً، حينها فقط نخلص للإقرار بالقول بأن “لأرواح الناس قيماً متساوية.”
فيليب غالنز: يذكر ستيفن في كتابه الجديد بأننا نعيش الآن متوسط عمر أطول من قبل، وبأننا نملك ثروة أكبر ونتمتع بمساواة وسلام أكثر من ذي قبل، ونعيش في ظل مستويات متراجعة من التمييز على أساس العرق والجنس، وهذه الحقائق مخالفه للشعور السائد لدى الناس حالياً، فما هي القيمة المتحققة في تصحيح هذا الاعتقاد؟ وهل سيغير ذلك من سلوك الناس؟
بيل غيتس: إن ما يشير إليه ستيفن صحيح بكل تأكيد، فالتقنيات المعاصرة التي نستخدمها كمجتمع مثل: القانون والديمقراطية وبعض أنواع الضريبة التصاعدية، رغم ما يشوبها من عيوب، إلا إنها تقنيات تؤتي أكلها وفقاً لكثير من المقاييس، لذلك عندما نأخذ بعين الاعتبار المطالبات بتغيير جذري كأن يقول أحدهم ” لنمزق اتفاق التجارة العالمية، فهو ذو نتائج كارثية” فإنك على الأرجح ستميل لتنفيذ وتطبيق هذه الدعوات إذا اعتقدت أن الأمور تسير في المسار الخاطئ، أو أن يقول أحد ما “لنمزق المعاهدات، لنتبع مقاربات لاديمقراطية”؛ إن رغبتك في الخروج عن المسار الحالي المتبع ستكون أكبر بالتأكيد ولكن من المستحيل أن تقتنع حكومة ما بهذه الدعوات، أو أن يتبناه المجتمع ككل ما لم نطرح التساؤل: ماهي المقاييس المتبعة لتحديد ما إذا كانت الأمور تسير على نحو جيد أو سيء، وكيف نستخدم هذه المقاييس؟
ستيفن بينكر: هنالك نزعة في الصحافة والحوارات السياسية للقول بأن الوصول إلى المجتمع المثالي أمر يسير وممكن بسهولة، وهم عادة ما يقولون: “الناس الطيبون كانوا سيفعلون كذا وكذا”، وهذا يعني بالضرورة أن من يديرون أنظمتنا السياسية حالياً هم الناس السيئون: “لنُزِحهم ونأتي بأشخاص أفضل”، إذ أدى هذا التصور إلى تقوية طغاة ذوي شخصية كاريزمية دمروا المؤسسات التي قدمت الكثير من الإيجابيات، فنحن لا نملك المبرر أو الحق في طلب الكمال، بل من الأفضل أن نثمن ونفتخر بالتقدم الكبير الذي حققناه وأن نسعى لتطوير مؤسساتنا وفقاً لما ينفع وما لا ينفع، وأنا متأكد بأن السيد بيل يسعى نحو هذا طوال الوقت: “فلماذا نلقى بأموالنا على الدول النامية وهم لا يزالون ينجبون المزيد من الأطفال ويبقون في فقرهم”.
بيل غيتس: من كان مصراً على أخطائه فإنه لن يُصلح.
ستيفن بينكر: هذا الأمر غير صحيح تماماً.
فيليب غالنز: ولكن أليست المبالغة في تقدير سوء المشكلة تحفيزاً من أجل حلها؟
بيل غيتس: هناك مفارقة في جعل نفسك مستاء جدا من القليل المتبقي الواجب عليك فعله. فلو بحثنا عن المؤشرات الأثر دلالة لقياس مستوى العنف، والتي هي أفضل حتى من تراجع العنف نفسه؟ لكان الجواب هو كرهنا الحالي للعنف. نحن اليوم مستاؤون جدا من العنف. فلو أني رأيت اليوم رجلا يصفع صبيا، وهنا اقتبس من كتاب ستيفن، فاني ربما سأقول له توقف عن صفع الصبي ولكن قبل أربعين سنه لو صادفت موقف مشابه لقلت للشخص الذي يصفع الصبي “هل تحتاج ان اعيرك حزامي لكي تؤدب الطفل؟” هنالك أجزاء من العالم لازالت بعقلية ما قبل أربعين سنه. وأقول لو أنك قرأت كتاب ستيفن واعتقدت بانه يقول لا تقلق وكن سعيداً، فهذا يعني أنك لم تقرأه، ذلك أن رؤية العالم من عين هذا الصبي المسكين تطلب منك أن تدفع بعض المال، ورغم ذلك فإن عدد هؤلاء الأطفال أقل بكثير منه الآن مقارنة بما كان عليه قبل 50 سنه.
ستيفن بينكر: يمكنك قول الحقيقة بطريقتين، فالفقر الشديد عالمياً قد تراجع بنسبة 90 بالمئة عما هو عليه قبل 200 سنه ليصبح الآن 10 بالمئة، وهذه نظرة للجزء الممتلئ من القدح، أو يمكنك أن تقول بأن أكثر من 700 مليون شخص في العالم يعيشون في فقر مدقع، فهاتين المعلومتين تعبران بصدق عن حقيقة واحدة وفي وسعك اختيار طريقة وصف الأمر كما تشاء.
فيليب غالنز: يا سيد بيل، هل إن نجاحك في تأسيس مايكروسوفت جعلك أكثر تفاؤلاً في طرحك لقضايا كبيرة وهامة داخل المؤسسة؟
بيل غيتس: بالتأكيد؛ خذ على سبيل المثال مشروع المرحاض الذي طرحناه في المؤسسة، فنحن نسعى في هذا المشروع لاختراع مرحاض لا يحتاج لصنابير مياه داخلة أو خارجة منه بل سيكون التصريف عن طريق عملية تفاعل كيميائي بحيث يمكن حتى للمدن الهندية، التي لا تغامر بإنفاق مليار دولار على الجانب الصحي، أن تحصل على مراحيض بجودة المراحيض الغربية؛ إن هذا الاستثمار سيجري على مدى عشر سنوات، وأقول رداً على سؤالك: لو أنى لم أحصل على ما حصدته من نجاح في ميكروسوفت فإني لن أتمتع بالجرأة اللازمة لاقتحام هذا المشروع.
فيليب غالنز: ربما كان لمهاراتك الرياضية الدور الأكبر في جعل هذه المؤسسة تدار بشكل مختلف عن أغلب المؤسسات، فما قولك؟
بيل غيتس: ليست المهارات الرياضية كافية لوحدها بل يتوجب عليك أن تفهم العلوم والتاريخ، وأن تعرف كيف تختار الأشخاص المناسبين القادرين على دعم المشاريع المناسبة، كما إن التفاؤل بما ستقدمه العلوم والشعور بالمسؤولية المترتبة عليك بصفتك قائداً لمجوعة من العلماء سيكون له دورٌ فعالٌ في ازدهار المؤسسة، وهذا ما كنت عليه في شركة ميكروسوفت، وهكذا تجرأت على اقتحام الكثير من المخاطر، فأغلب العاملين في المشاريع الخيرية لا يجازفون بمخاطر كبيرة ولفترات طويلة تتراوح بين 10 إلى 15 سنة.
ستيفن بينكر: تعد هذه القصة بأكملها مثالاً واقعياً عن عدم التوافق بين المنفعة الأخلاقية وبديهيات الأخلاق الإنسانية، فالشخص الذي سيستثمر في مرحاض ذي فائدة كبيرة ومنخفض التكاليف يجب أن يعتبر قديساً لما يقدمه من عمل عظيم ينفع البشر، فلك أن تتخيل حجم السعادة التي سيُدخلها على قلوب المستفيدين، وكم هو حجم الألم الذي سيرفعه؛ يجب أن يكون تفكيرنا تفكيراً كمياً ليشمل أكبر عددٍ من الناس، فهذه الطريقة تحمل وعياً أخلاقياً، ولكنها ليست الطريقة التي تفكر بها عقولنا عندما نقوم بوضع تقييمات أخلاقية.
فيليب غالنز: الآن على وجه الخصوص، يسود الناس شعورٌ بالإهمال مما يثير غضبهم ويحسون كذلك بأن الآخرين قد تخلوا عنهم، وفي ظل انخفاض معدل الأجور وبروز وسم #أنا_أيضاً (الذي أُطلق لتشجع النساء لرفع دعاوى ضد التحرش بهم جنسياً في ميادين العمل وعدم التزام الصمت* المترجم) وشعار “حياة السود تهمني” والمطالبة بالحصول على الرعاية الصحية. فهل تعتبر أن هذه هي اللحظة المناسبة لطرح كتاب يقول “بصورة عامة، الأمور متجهة نحو الأفضل”؟
بيل غيتس: المسألة لها أكثر من تأطير، وخذ حركة (أنا أيضاً) كمثال، فنحن الآن في عصر الصحوة، والحال اليوم ليس بأسوأ منه قبل خمس سنوات، ولكننا الآن أكثر يقظة، وبعد خمس سنوات من الآن فإن هذا التحرك والغضب سيكون عاملاً فاعلاً ومؤثراً في تحسين الأمور أكثر مما كانت عليه قبل خمس سنوات، عندما كانت مثل هذه الأمور تحصل في الخفاء ولا يتم مناقشتها كما هو الحال الآن.
فيليب غالنز: لكني أتساءل الآن عن القبلية السائدة في اللحظة الراهنة، حتى لو كانت هذه النزعة الشريرة تمثل 1 في المئة من الناس، أو أنها تمثل الناس القلة السيئين في المجتمع، فالسؤال هنا هل يمكن للعلوم والعقل أن يفكك فعلياً التفكير القبلي؟
ستيفن بينكر: القبلية تعد أحد أشد أعداء العقل، فعندما ينتسب الناس لعقيدة ما فإنهم يتقبلون الأدلة والمبررات التي تدعم مفاهيمهم المسبقة ويتخلصون من الأدلة التي تقف ضد مفاهيمهم، وعلى خلاف المعتقد السائد لدى معظم العلماء الذي يرى أن نكران التغير المناخي هو أحد نتائج محو الأمية العلمية، فهو ليس مرتبطاً مطلقاً بالأمية العلمية، فالأشخاص الذين يؤمنون بأن التغير المناخي سببه تدخل بشري، يجهلون الكثير عن المناخ والعلوم أكثر مما يجهله أولئك الذين ينكرون حدوث تغير مناخي، فالقضية مرتبطة تماماً بالتوجه السياسي اليميني ومعركته ضد التيار اليساري، والانتقال نحو عقلانية أكبر في تناول الموضوع ستحل الإشكال فيما بينهم، ولنفسح المجال لأدلة تحدد ماهي السياسات الواجب تبنيها لحل مشكلة التغير المناخي.
فيليب غالنز: بيد أن تجاوز هذا الجمود في التعاطي مع القضية يحتاج أكثر من أن نطلب من الناس التحلي بالعقلانية.
بيل غيتس: أرى باننا لم نصل بعد لمرحة تقف فيها الديمقراطية والعلوم عاجزة عن تحسين حياتنا، وأذكر هنا أني كنت في مؤتمر المناخ في باريس وأقول بصدق لقد صرحت عن العديد من القضايا غير العلمية حسب ما أراه والتي ناقشت أموراً أخرى غير اتفاق المناخ والتي لم أحضر لأجلها، لكني مع ذلك متفائل، فأنا أعتقد بأن الاطلاع على ما جرى يعد أمراً هاماً لخلق محور أو قطب محافظ، أي أن يجعل منا أكثر حذراً حول ما نفعله من تغييرات.
فيليب غالنز: وهنا أعتقد بأنك ستقول: الابتكارات هي من تدفع عجلة التقدم وليست واشنطن.
بيل غيتس: لكن المشكلة الآن تكمن في أن الابتكارات لم تصور على أنها عملية خالية من الشوائب والسلبيات لتحسين وضع البشر، وهذا فيه شيء من العدل لأنها عملية غير نقية تماماً، وهنا أسال هل إن وسائل الإعلام قد قسمتنا إلى طوائف بطريقة خطيرة؟ وهل إنها خلقت، حتى في الأوساط الاجتماعية داخل الكليات والمدارس الثانوية قناة للبلطجة أو زرعت فينا رغبة الظهور بصورة مثالية في الصور؟ هل ستستمر هيمنة الذكاء الاصطناعي بسرعة تؤدي للأضرار بمجالات العمل ومسببةً سوء توزيع للثروة، وسيقع الناس حينها بحيرة حول ما سيفعلون؟ أعتقد أن الوقت غير مناسب لقول: “دع عنك كل أفكارك السلبية اللعينة ونحن سنبتكر منتجات بعيدة عن أفكارك السلبية تلك” فالناس يجدون صعوبة في فهم هذا الطرح.
ستيفن بينكر: هنالك أيضاً انقسام في أدوار الابتكار والسياسة. فهنالك أشياء معينة عادة ما تقوم الحكومات بها بصورة أفضل من المبتكرين الأفراد، وخذ على سبيل المثال البحوث الأساسية، فهنالك أمور يمكن للحكومات القيام بها من شأنها تسريع وتيرة تطور الابتكارات، وإذا ما قسنا الأمر بلغة الأرقام، فإن مؤسسة غيتس تعتبر أصغر من الحكومة بكثير، أليس ذلك صحيحاً؟
بيل غيتس: إن إجمالي إنفاقنا السنوي هو 5 مليار والمساعدات الخارجية 30 مليار.
ستيفن بينكر: علينا أن نقاوم غرورنا إذا ما قلنا بأن العمل الرائع المنجز من قبل المؤسسات والمبتكرين يفوق ما تنجزه الحكومات بكثير.
بيل غيتس: إن للقطاعات الثلاثة: الخيرية والتي تمثل 2 بالمئة من الاقتصاد، والحكومة التي تشكل 30 بالمئة من الاقتصاد، والقطاع الخاص الذي يفوق القطاعين السابقين ويستحوذ على بقية النسبة المئوية، يقوم كل منهم بدوره في عملية الابتكار.
فيليب غالنز: أذكر لنا يا سيد بينكر مشكلة نراها عصية على الحل ولكنك متفائل بحلها في المستقبل القريب.
ستيفن بينكر: نعم إنها مشكلة الحروب بين الدول، أما الحروب الأهلية فهي مما يصعب تفادي وقوعه وذلك لوجود العديد من الجماعات المسلحة والمليشيات التي يصعب السيطرة عليها، في حين إن هنالك 192 دولة فقط ومن الممكن أن يتفقوا على أن لا يشنوا حروباً فيما بينهم، أعتقد بأننا في طريقنا لتحقيق هذا الهدف.
بيل غيتس: القضاء على الأمراض والأوبئة يسير بنحو لا يروق للنظرة التشاؤمية السائدة لدى الناس، وأرى إنه من المذهل أن ينتهي مرض شلل الأطفال، فهذا الهدف أصبح قريب التحقق.
ستيفن بينكر: وماذا أنجزتم بشأن مرض الملاريا؟
بيل غيتس: نحن نعمل بجد لمكافحة هذا المرض.
ستيفن بينكر: هل تعملون للقضاء عليه نهائياً؟
بيل غيتس: إذا ما سارت الأمور بشكل جيد من الان وحتى عام 2025 فإننا سنصل إلى مناطق نائية جداً مثل إفريقيا الاستوائية، ولكني أؤكد لك بأننا سنصل لهدفنا.
فيليب غالنز: سؤال أخير: بما أن السيدة أوبرا ونفري قد أعلنت في مهرجان الكولدن كلوب عن نيتها الترشح للانتخابات الرئاسية قريباً وهناك حديث عن طموحات سياسية لمارك زوغربيرغ، فأنا هنا أسألك: هل طلب منك الناس الانخراط في الحياة السياسية العامة؟
بيل غيتس: حسناً، أنا منخرط بالفعل في الحياة السياسية، ولكني لن أُرشح للانتخابات الرئاسية.
فيليب غالنز: هل ترفض الترشح لأنك ترغب بإتاحة المجال لستيفن بينكر؟
ستيفن بينكر: هذا رائع!
بيل غيتس: إن السياسة مخادعة بطبعها. فأنت تأمل عندما يتبنى حزب اتجاهاً معيناً ألّا يقوم الحزب الآخر بتبني موقف معاكس تماماً لاتجاه الحزب الأول، دعونا نرى ما سيحصل، فلم يسبق لأولئك الذين يحملون توجهاً معادياً للنخب ومعادياً للمؤمنين بالفكرة العالمية أن وصلوا لسدة الرئاسة رغم إنهم كُثر، لكن الآن جاءنا رئيس منهم.
رابط المقال باللغة الإنكليزية: هنا