كتبه للنيويوركر: رانيا أبو زيد
بتاريخ: 5/ اكتوبر/ 2015
ترجمة: آلاء عبد الأمير
تدقيق: نعمان البياتي
تصميم: حسام زيدان
في ليلة سبت من أواخر أيار/مايو، أخذت موقعي في المقعد الخلفي لسيارة أجرة أثناء تجولها في إحدى مدن الصفيح في بغداد، ليس بعيداً عن ساحة الفردوس حيث قامت القوات الأمريكية بإسقاط تمثال صدام حسين في نيسان/أبريل من 2003. مر من فوقنا طريق سريع وكان بوسعي سماع هدير السيارات فوقه، فيما تراءت من بعيد واحدة من أطول بنايات بغداد، فندق كريستال غراند عشتار والذي مازال يعرف على نطاق واسع محلياً باسم الشيراتون، رغم أن سلسلة فنادق الشيراتون هذه سحبت أعمالها من العراق منذ 1990. في مقعد الراكب الأمامي جلست امرأة في الأربعين من العمر وسأسميها (ليلى)، كانت ترتدي عباءة سوداء بينما تدلت خصلة من الشعر الأسود المصبوغ خارجة من تحت وشاحها، أما السائق فكان زوجها (محمد).
كنا متجهين صوب كوخ من الصفيح مضاءٍ بنور خافت، وبينما كان الأطفال يتجولون في العتمة، اندفعت نحو الخارج لرؤية القادمين؛ امرأةٌ حامل ترتدي فستاناً ينسدل حتى الكاحل ذو لون أزرق وأكمام طويلة. كانت هذه المرأة قوادة كما أخبرتني ليلى. في عام 2012 أصدر العراق أول قانون له لمكافحة الاتجار بالبشر تحديداً، لكن القانون تم تجاهله كما هو معتاد، بينما صارت الجرائم الجنسية كالاغتصاب والبغاء القسري أمراً شائعاً، حسب ما تقوله جماعات حقوق المرأة. من الصعب الحصول على الاحصائيات الدقيقة، ولكن في عام 2011 وحسب أحدث تقريرٍ لوزارة التخطيط، فقد وجدت دراسة استقصائية أن أكثر من 9% من المشتركين في الإحصاء ممن تتراوح أعمارهم بين 15-40 قالوا بأنهم كانوا عرضة للعنف الجنسي، ومن المرجح أن تكون الأرقام الحقيقية أعلى من ذلك بكثير لو أخذنا في الحسبان العار المرتبط بالإبلاغ عن مثل هذه الجرائم في مجتمع يرتبط فيه شرف العائلة بعفة نسائها. إن ضحايا مثل هذه الجرائم يتم نبذهن، وقد يتعرضن للقتل لأنهن قمن بـ “تلويث سمعة” عائلاتهن أو مجتمعهن.
منذ عام 2006 تقوم ليلى، وهي ضحية اغتصاب وعاملة سابقة في البغاء، برسم خرائط عالم العراق السفلي للبغاء والاتجار بالبشر لأغراض الجنس، وعبر معارفها في تجارة الجنس تجمع معلومات عمّن يبيع ومقابل كم، كذلك تجمع معلومات عن الأماكن التي يأتي منها الضحايا والأماكن التي يُنقلون إليها، ثم تقوم بتمرير هذه المعلومات عبر وسطاء إلى السلطات العراقية التي تفشل غالباً في فعل شيءٍ إزاء الامر، مع ذلك فإن عملها قد ساعد في إدانة عدد من القوادين، بعضهم ممّن كانوا يقومون بخطف الأطفال؛ في ليلة السبت تلك رافقتُ ليلى ومحمد في جولة على بعض الأماكن التي تتحرى عنها بشرط إخفاء اسمها والتفاصيل التي قد تدل على شخصيتها وكذلك إخفاء أسماء وسطاءها.
إن عملها خطيرٌ جداً، فرغم أن من تلتقي بهم من القوادين هم من النساء، فإنه يوجد خلفهن تسلسلٌ هرمي متشابك من الرجال المسلحين والذي يشمل رجال شرطة فاسدين، وميليشيات مستفيدة من تجارة الجنس، وميليشيات تحاربها بقسوة؛ ففي صباح 13تموز/ يوليو 2014 نقلت جثث مصابة بالرصاص لـ 28 امرأة و5 رجال من شقتين، ويقال إن الشقتين كانتا بيوت دعارة وتقعان في مجمع سكني في زيّونة شرقي بغداد. رأيتُ الجثث بعد بضع ساعات في مشرحة المدينة مسجاه على الأرض. العاملون في المشرحة ألقوا باللائمة على الميليشيات الدينية، وتحديداً ميليشيا عصائب أهل الحق الموالية لإيران، وهي واحدة من الجماعات المسلحة العديدة التي تتكاثر في العراق، ومجموعات أخرى ممن يشتبه بعملهم في الدعارة كان قد تم العثور عليهم مصابين بالرصاص، لكن حادثة زيّونة كانت أكبر عملية قتل تحدث في السنوات الاخيرة، ودفَعَت بما لا يقل عن خمسة عشر من القوادين الذين عرَفتهم ليلى للفرار مع فتياتهم إلى كردستان العراق. تقوم ليلى عادة بزيارة شققٍ مثل تلك الموجودة في زيّونة، متظاهرةً بأنها قوادة سابقة وكغطاء، فهي تعمل في بيع العباءات المطرزة بالخرز الملون واللآلئ للسيدات، وهذه العباءات تساهم في التعريف عنهن في النوادي الليلية كقوادات وليس كعاملات.
وفيما اقتربنا من كوخ الصفيح كانت ليلى تميل خارجةً من نافذة السيارة ولوحت قائلة: “حبيبتي” ثم استدارت باتجاه محمد وهمست: “انتبه لأقوالك”. توقفت سيارة الأجرة وخرجت ليلى ثم تبادلت المرأتين تحايا دافئة. كانتا تعرفان بعضهما لمدة زمنية تعود لما قبل الاحتلال، حينها كانتا كلتاهما تعملان في البغاء. قدمتني ليلى على أنى ابنة عمها القادمة في زيارة قصيرة، وقالت إنها كانت تبحث عن سيدةٍ أخرى. أخبرتها الامرأة الحامل أن من تبحث عنها قد قامت بنقل بيتها وذكرت العنوان، ثم سألت ليلى إن كانت قد التقت بامرأة من مدينة البصرة اسمها (أم علي) فأجابتها ليلى بالإيجاب.
“إن أوضاعها جيدة مع فتياتها، عليكِ رؤية السيارات التي تأتي لتقل الفتيات، لقد بعتُها (أروى) لقاء خمسة ملايين دينار عراقي، أتظنين أن ذلك كان مبلغاً جيداً؟” تقول المرأة مخاطبة ليلى، فأجابتها ليلى: “كلا، لقد ارتكبتِ خطأ، ما كان ينبغي أن تبيعي الفتاة، إذ كان بإمكانها أن تصبح مصدر دخلٍ ثابتٍ لكِ.”
أروى فتاة هاربة بعمر المراهقة، أُغريت بوعود المأوى والأمان، ثم احتجزت حبيسة، وتقول المرأة أنها كانت صعبة المراس وكثيرة الصراخ. سألتها ليلى إن كانت أروى عذراء عند بيعها، فأجابت بالنفي، ذلك أنها حبست الفتاة في الكوخ بصحبة رجلٍ لمدة ثلاثة أيام. قامت ببيع عذرية الفتاة ثم باعت الفتاة لأم علي.
عرض محمد أن يقوم باختطاف الفتاة وإرجاعها كحيلةٍ لمعرفة مكانها، وسأل عن عنوان البيت الذي تديره أم علي، لكنها كانت تجهل مكانه.
وفيما انطلقنا مبتعدين بسيارة الأجرة قالت ليلى: “هذا هو عملنا، وهذه هي الطريقة التي يجب أن أتواصل بها معهم بغية الحصول على المعلومات التي أريدها”، وأضافت: “إذا اكتشف أحد منهم حقيقة ما أفعله فسأتعرض للقتل بلا شك، لأنه خلف كل قواد رجال ميليشيات ورجال شرطةٍ فاسدين”، وتقول: “وضع الاتجار بالبشر هو الأسوأ في السنوات الأخيرة، فكلما اجتمع أربعة أو خمسة رجال أطلقوا على أنفسهم اسم ميليشيا، وصار بإمكانهم فعل ما يحلو لهم”.
ويقول محمد أن مصائب البلد، كالسرقة وجرائم القتل والإرهاب، جميعها مرتبطة بتجارة الجنس، ويشرح مبيناً عقلية الرجال في هذا المجال: “إذا اعتدت على نمط الحياة هذا، ستكون بحاجة لشرب الكحول، والدفع للفتيات، والغرف، والبقشيش، والرحلات، وهذه جميعها تكلفك مبالغ مالية، وحينها ستكون مستعداً لفعل أي شيءٍ في سبيل الحصول على هذا المال”.
كان العراق في وقت ما في طليعة دول الشرق الأوسط بما يتعلق بحقوق المرأة، ففي عام 1959 أصدر البلد القانون رقم 188، المعروف أيضاً باسم قانون الأحوال الشخصية، حدّ هذا القانون من تعدد الزوجات، وحظر زواج الأطفال والزواج القسري، كما حسّن حقوق المرأة في الطلاق والحضانة والإرث، وفي دستور عام 1970 الذي صيغ في عهد البعث، تم تكريس الحقوق المتساوية، أما معدلات محو الأمية لدى النساء، والتعليم، والمشاركة في القوى العاملة فقد تم تعزيزها من خلال سياسات رعاية اجتماعية سخية، ومنها الرعاية المجانية للأطفال. هذه القوة الدافعة تعرضت لانتكاس جراء الحروب المتعاقبة، مع إيران 1980-1988، ثم حرب الخليج 1990، التي أعقبتها عقوبات اقتصادية دولية استمرت لثلاثة عشر عاماً، فخسرت موظفات الخدمة المدنية وظائفهن بأعداد كبيرة، وتم تخفيض الرعاية الاجتماعية، وكجزء من “الحملة الإيمانية” لصدام حسين والتي بدأت في أوائل التسعينات، فإن أي امرأة تتهم بالدعارة كان يُقطع رأسها، بحسب تقارير منظمة العفو الدولية، وتصاعدت الجرائم ضد النساء في فترة الفوضى التي أعقبت الغزو الذي قادته الولايات المتحدة.
في عام 2005، نص دستور العراق الجديد على أن يكون ربع أعضاء البرلمان من النساء، ولكن سقوط صدام جلب إلى السلطة رجال الدين المحافظين والبرلمانيين الذين يفضلون القوانين التي من شأنها أن تعطي رجال الدين المزيد من السيطرة على الأمور الشخصية، وفي تشرين الأول / أكتوبر من عام 2013، قدم حسن الشمري، وزير العدل وعضو حزب الفضيلة الإسلامي، مشروع قانون يحتوي على مائتين وأربعة وخمسين مادةٍ استناداً إلى المدرسة الجعفرية في الفقه الشيعي؛ وينص مشروع القانون، الذي سيطبق على الأغلبية الشيعية، على تشريع زواج الفتيات حتى عمر 9 سنوات، وإعطاء الرجل الحق في ممارسة الجنس مع زوجته بدون موافقتها، ومنع المرأة من مغادرة بيتها بدون إذن الزوج، أما المادة رقم 129 فهي تنص على أن للرجل الحق في الامتناع عن إعالة زوجته إذا كانت صغيرةً جداً أو كبيرةً جداً لإرضائه جنسياً.
وبرغم المعارضة الشديدة من الجمعيات الحقوقية وبعض رجال الدين، فقد وافق مجلس الوزراء على مشروع القانون في فبراير 2014 وتمت إحالته إلى البرلمان الذي فشل في التصويت عليه؛ وصف محمد اليعقوبي، الزعيم الروحي لحزب الفضيلة والمرجع ذو العمامة واللحية البيضاء، النساء اللواتي عارضن مشروع القانون بأنهن منبوذات، واضعاً اللوم على رجال الدين ممن شجعوا أولئك النسوة على “فتح باب الشر”، أما محمد جواد الخالصي، وهو مرجع آخر فقد أخبرني في مكتبه الواقع في الكاظمية بأن الرجال من أمثال اليعقوبي جاهلون و “لا يفهمون دينهم”.
بينما قالت هناء إدور، الناشطة البارزة في مجال حقوق المرأة، إن مشروع القانون الجعفري يعد استخفافاً بدستور عام 2005؛ قامت إدور بتأسيس عدة منظمات تهتم بحقوق المرأة، من ضمنها (جمعية الأمل) عام 1992، وتقول عن هذا الأمر: “إن لم يكن لديكِ القدرة على اتخاذ قرارات تتعلق بأطفالكِ أو حملكِ، فكيف باستطاعتكِ المشاركة في صناعة القرار في البلد أو المساهمة في مستقبله؟ مشروع القرار يتعامل مع النساء كأدوات جنسية لاستخدام الرجال ولأغراض متعتهم”. لا يزال مشروع القانون خاملاً لكن إدور تصفه بـ”القنبلة الموقوتة”.
إن انعدام القانون الذي ينتشر في العراق يشكل تهديداً أكثر إلحاحاً للنساء والفتيات في البلاد، ولا سيما أولئك الذين لا يحصلون على دعم أسري، فمنذ حزيران / يونيو 2014، استولى تنظيم الدولة الإسلامية على جزء كبير من شمال غرب البلاد، بما في ذلك مدن الموصل والرمادي والفلوجة؛ قتل المتطرفون السنة أعدائهم الذكور واستعبدوا جنسياً بعض السجينات، بما في ذلك عدة آلاف من النساء والفتيات من الأقلية اليزيدية الناطقة بالكردية في الشمال العراقي. وفي تشرين الأول / أكتوبر 2014، تفاخرت مجلة “دابق”، التي تصدرها الدولة الإسلامية باللغة الإنكليزية، بأن “جنود الدولة الإسلامية يبيعون الأُسر اليزيدية المستعبدة الآن”.
نشأت ميليشيات جديدة لمواجهة المتطرفين السنة، وتوسعت تلك الموجودة أصلاً، وعقب تقريرها العالمي لعام 2015 اتهمت هيومان رايتس ووتش بعض الميليشيات الشيعية بالانخراط في “انتهاكات غير مقيدة ضد المدنيين”، بما في ذلك الإعدامات الجماعية والتعذيب وتشريد الآلاف من بيوتهم قسراً، وبعد اثني عشر عاماً من الصراع، هناك أكثر من ثلاثة ملايين ونصف المليون من النازحين العراقيين داخل البلاد، وما يصل إلى مليوني أرملة حرب، ومليون أو أكثر من الأيتام، وأشارت وزارة الخارجية الأمريكية في تقريرها لعام 2015 المعنون “الاتجار بالأشخاص” إلى إن احتمالات تعرض النساء والأطفال للمتاجرة بهم قد “ازدادت بشكل خطير” في العام الماضي2014، وأن موظفي الأمن والقانون، فضلاً عن العصابات الإجرامية، جميعهم متورطون في الاسترقاق الجنسي.
“لم أتخيل أبداً أننا قد نصل إلى هذه المرحلة من الفوضى أو هذه الدرجة من تفكك الدولة” تخبرني إدور، “لا يمكننا رؤية سيادة القانون أو المؤسسات الوطنية، كل ما نراه هو الميليشيات والعصابات، ولا يوجد احترام للتعدد أو لحقوق الإنسان في هذا البلد”.
في عام 2004 أنشأ العراق وزارة الدولة لشؤون المرأة، وتولى رئاسة الوزارة في أكتوبر من عام 2014 المهندسة (بيان نوري) وهي امرأة في الخمسينيات من عمرها؛ حين التقيت بها كانت تعمل في الطابق الحادي عشر من مبنى المكتب البرلماني في المنطقة الخضراء، وتخبرني نوري أنه لولا حالة الحرب التي تعيشها البلاد في مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية لكان الحال بالنسبة للنساء العراقيات “أفضل من حالهن في الفترة التي سبقت 2003 بشكل كبير”، كما أعربت نوري عن قلقها من قيام تنظيم الدولة الإسلامية باختطاف النساء اليزيديات، لكنها نفت الادعاء القائل بارتفاع معدلات العنف الجنسي قائلةً: “يقولون إنه موجود، لكن ذلك ليس واضحاً، لأنه أمرٌ محدود، لطالما كان موجوداً منذ زمن صدام لكن الإعلام لا يتحدث عن ذلك.”
تمتلك وزارة نوري عشرين موظفاً، ساعدوا في رسم السياسات والبرامج والخطط لتنفذها الوزارات الأخرى، لكنهم لا يملكون ميزانية. “من الجليّ أن عدم امتلاكنا للأموال أو السلطة اللازمة لتنفيذ الأمور أمرٌ كارثي، إنه تحدٍّ ماثلٌ أمامنا،” تقول نوري، وكانت قد طلبت من مجلس النواب، كما فعل الوزراء الثلاثة الذين سبقوها، الارتقاء بوضع الوزارة وتخصيص ميزانية، ولكن بدلاً من ذلك في أغسطس، وكجزء من تقليص حجم الحكومة فقد ألغيت الوزارة بمعية وزارة حقوق الإنسان، فيما تم دمج وزارات أخرى، وأخبرني بعدها المتحدث السابق باسم الوزارة أن نوري قد تقاعدت من العمل السياسي.
كانت ليلى قد نشأت في مدينة جنوبي العراق في عائلة مكونة من سبع بنات وابنين، وفي عام 1991، حين كانت في الخامسة عشر من عمرها تعرض إخوتها للاعتقال بواسطة قوات صدام على خلفية الانتفاضة الشيعية الوجيزة، وعند ذهابها إلى السجن للمطالبة بالإفراج عنهم، أخبرها الرائد، الذي ماتزال تذكر اسمه، أنه سيعفي أخويها من الإعدام في مقابل عذريتها، ولكن عند عودتها البيت رفضت كل من والدتها وأخواتها تصديق أنها تعرضت للاغتصاب، ومع إحساسها بالعار والأذى والغضب غادرت منزلها وتوجهت إلى بغداد حيث لا يعرفها أحد، وعملت في البغاء لتُعيل نفسها.
كانت تعمل في الكمالية، وهي منطقة تقطنها الأغلبية الشيعية شرقي بغداد، وتزوجت لفترةٍ وجيزةٍ، لكنها استمرت بالعمل بمفردها، وفي عام 2003 كانت تعمل في منطقة الدورة في الجزء الجنوبي من مدينة بغداد حين وصلت القوات الأمريكية إلى بغداد، أما في عام 2006 فقد تم احتجازها مع 4 فتيات أخريات بواسطة دورية أمريكية للاشتباه بأنّهن مُخبِرات للميليشيات بسبب رؤية رجال مختلفين يترددون على شقتهن، وبعد أسبوعين في مركز الاحتجاز الأمريكي تم نقلهن إلى الشرطة العراقية، إذ قاموا بدورهم بإيداعهن سجن النساء في الكاظمية، حيث أمضت ليلى ستة أشهر أخرى قبل أن يُطلق سراحها بدون توجيه أيّة تهم، لكن تجربتها في السجن دفعتها “لترك مهنتها في الدعارة وألا تكون جزءاً من عالم العنف والجريمة هذا”، وكانت مصممة على مساعدة الفتيات والنساء من مثيلاتها.
في 2009 التقت ليلى بمحمد وتزوجته، كان يعمل حينها سائق سيارة أجرة، وبعد احتلال الدولة الإسلامية لمدينة الموصل، انضم متطوعاً لمليشيا شيعية، حين تزوجا رفضت ليلى ارتداء فستان أبيض بسبب شعورها بعدم أحقيتها به، وغالباً ما يَعرض عليها أن يشتري لها واحداً، وأن يقيم مراسم الزفاف ثانيةً لكنها ترفض. “كنت أشعر براحة كافية لأخبره بقصتي كاملة” تقول ليلى، “سألته أما زلت تقبل بي؟ فأخبرني أن الماضي لا يهم بالنسبة له”، ويكمل محمد جملتها قائلاً: “لكن المستقبل يهم”
محمد وليلى يمضيان ليالِ الخميس عادةً في التجول بين النوادي الليلية، يتحدثون مع القوادين وفتياتهم، لكن ولعدة أسابيع كان خطر التعرض لغارة يقوم بها رجال المليشيات قد أبقاهما بعيدين. قبل عدة أسابيع كانت ليلى في نادٍ اسمه (ذكريات) في قلب العاصمة حين دخلت مجموعة مسلحة إلى المكان وبدأوا بإطلاق النار، قتلوا بعض العاملات وأمسكوا بالأخريات؛ ليلى التي هربت من المكان عبر المطبخ شاهدت نساء شابات يتم جرهن إلى السيارات، وبحسب كلامها ما تزال ست منهن بعداد المفقودات.
“الجنس يمول الميليشيات، لأنه مصدر للمال” تقول ليلى “يواجه القواد خيارين، إما العمل مع الميليشيات أو التعرض للقتل بواسطة المليشيات”، من جانب آخر وبسبب خوفه عليها فإن محمد يرافق ليلى عادة إلى النوادي متظاهراً بكونه زبوناً، ويَجري البغاء أيضاً في الشقق الخاصة، وهذه الأماكن تزورها ليلى وحدها. سألتُ ليلى ومحمد عن عدد أوكار البغاء التي يترددان عليها، فأجابني محمد: “لو اعتزمت ان أريك إياها جميعاً فلن يكفيك يوم واحد لرؤيتها”.
وبينما كنا نتجول بالسيارة في بغداد، أشارا لعشرات من بيوت الدعارة، الكثير منها ذات نوافذ إما مقفلة بألواح أو مضللة، فيما كانت تصدح منها موسيقى عربية، وكان بإمكاننا رؤية سيارات الشرطة المركونة قرب المكان. تحدَثت ليلى عن أسعار الفتيات من مختلف الأعمار؛ أعلاهن سعراً هن الصغيرات بعمر الثالثة عشر أو الرابعة عشر، بسعر 300-400 دولار للّيلة، واللاتي تتراوح أعمارهن بين 20-30 عاماً فتتراوح أسعارهن بين 84-168 دولاراً لليلة الواحدة، وهناك من تبلغ أسعارهن 40 دولاراً مقابل لقاءٍ جنسي وجيز.
انعطفت السيارة من شارع النضال وسط بغداد متجهةً نحو شارع مكتظ، وتوقفت أمام أحد النوادي، بابه الأمامي كان ممراً، يغط بالأضواء الحمراء والخضراء، وفيما بقينا جالسين في السيارة رأينا فتاتين صغيرتين، أختان بحسب ما قاله محمد، تخرجان مسرعتين من النادي. الكبرى كانت تبلغ من العمر أربعة عشر عاماً، يغطي وجهها طبقة كثيفة من مساحيق التجميل وترتدي فستانا ضيقاً أحمر اللون، فيما وضعت على شعرها والجزء العلوي من جسدها وشاحاً شفافاً ذو لون أخضر، أما الصغرى فكانت في التاسعة، ذات بشرة سمراء مطلية بمساحيق وجه أفتح لوناً بشكل واضح، بينما تلطخت شفتاها بأحمر الشفاه كمهرج.
صاحت ليلى على الفتاتين: “تعاليا، تعاليا إلى هنا! أين أمكما؟” اقتربت الفتاتان من السيارة، تبادلتا عناقاً وقبلات مع ليلى وألقتا بالتحية على محمد. “إلى أين تسرعان؟” سألهما محمد، فأشارتا باتجاه بناية قريبة تحتوي مجموعة من بيوت الدعارة. “بيتنا هناك” تقول الكبرى؛ تحدثوا جميعاً لبضع لحظات قبل أن تغادر الفتيات؛ تقول ليلى أن أمهما كانت تعمل قوادة، وقدمت ذات الأربعة عشر عاماً للعمل بالإضافة لأختين أخريين أكبر سناً، أما الصغرى فوظيفتها “جذب الزبائن من الشارع، فهي تقف عند الباب وتدعوهم للدخول” كما يقول محمد.
حين طلبت من محمد وليلى الدخول لإحدى هذه النوادي ترددا في السماح بذلك، ففي الداخل سأصبح معروضة لأي رجل مثل الأخريات، تخبرني ليلى: “أي فتاة يرونها بوسعهم أخذها.” وتكمل: “حتى لو دخلتي بصحبة رجل شرطة، سيكون هناك شخص أعلى منه رتبة، أو عضو في الميليشيات أو أي أحد، وسيكون بوسعه أخذك لو شاء ذلك.” وتسأل محمد: “كم واحدة رأيناهم يأخذون من قبل؟ لا أريد لها أن تدخل، فلو جاء رجال من العصائب…” وافقها محمد الرأي وانطلقنا مبتعدين.
بعد ذلك بيومين قمت بزيارة (أبو منتظر)، المتحدث الرسمي باسم (عصائب اهل الحق) في مقر الجماعة، وهو عبارة عن مجمع من القصور المسيجة في الجادرية، منطقة يصنعها انحناء نهر الفرات؛ الكثير من الرجال في المجمع كانوا يرتدون بدلات تمويه عسكرية مغبرة وغير متماثلة فيما تجولوا، حاملين أسلحتهم الكلاشينكوف، أما أبو منتظر الذي يبلغ من العمر 44 عاماً، فقد كان يرتدي قميصاً أبيضاً ذو ياقة واضحة، وبدلة كحلية مقلمة مع حذاء أسود لامع.
تشكلت العصائب في عام 2006 كفصيل من (جيش المهدي) التابع لرجل الدين الشيعي (مقتدى الصدر)، واشتركت العصائب في عدة معارك رئيسية ضد تنظيم الدولة الإسلامية خارج العاصمة، ولهم سمعة في مكافحة (المنكر)، كاستهلاك الكحول وممارسة الجنس خارج إطار الزواج وهذه من الأمور التي تعتبر مرفوضة في الإسلام، لكن أبا منتظر ينفي ذلك “الحريات الشخصية مسموح بها للعراقيين”، ويقول “باستطاعة من يشاء أن يحتسي الكحول أو يرتاد النوادي الليلية، لا شأن لنا بهم، اليوم صار اسم العصائب يرعب الكثيرين لذلك فقد أصبح الناس يلومون العصائب على أمور لم نفعلها، فلو مشيت في الشارع الآن لن يعرف أحد إن كنت أنتمي للعصائب أو لا”.
يقول إن المجموعة تحاول القضاء على منتحلي هويتها، وأنهم اعتقلوا بالفعل بعضهم، لكنه لم يفصح عن عددهم أو ما كانوا يفعلون، بينما تقوم المحطة التلفزيونية الرسمية للمجموعة (العهد) بعرض أرقام هاتف ليتصل بها من يتعرض للتهديد من قبل أي أحد يدعي انتماءه للميليشيا، وحين سألت أبا منتظر عن حادثة القتل في زيّونة، نفى أن يكون للمجموعة يد فيها: “أين الدليل الذي يقول إننا فعلنا ذلك؟ لا يمكنك اتهام أحد بدون دليل، أريني دليلاً على أن ما حدث كان فعلتنا. إن ذلك غير صحيح”.
إن عمل ليلى يأخذها إلى جميع أنحاء العراق، لكن منطقة في بغداد اسمها البتاوين ترفض دخولها. “لقد رسمت خطاً أحمراً حول هذه المنطقة” كما تقول، البتاوين كانت حياً راقياً ذو أغلبية يهودية، له بنايات أنيقة بشرفات وواجهات منقوشة، لكن نشأة إسرائيل في عام 1948، والاضطرابات التي أعقبت ذلك دفعت باليهود للنزوح الجماعي من العراق وعبر الشرق الأوسط؛ انهارت الواجهات ويعتبر الحي الآن من أكثر الأحياء التي تعج بالجريمة في المدينة وبؤرة للبغاء، ولكن في قلب البتاوين وبدون علم السكان يقع بيتٌ آمن تديره (منظمة حرية المرأة في العراق) وهي منظمة مقرها في بغداد، لديها 35 موظفاً، وتتلقى دعماً من MADRE، وهي مجموعة دولية لحماية حقوق النساء.
تدير منظمة حرية المرأة ثمانية بيوت آمنة عبر البلاد وتسعى لتوفير واحد للنساء اليزيديات في الشمال، وتعتبر المنظمة الوحيدة خارج كردستان العراق التي تدير هكذا مؤسسات. البيت الآمن في البتاوين هو شقة قديمة بغرفتي نوم، يتم استعماله كملاذ لضحايا العنف الجنسي وممن لا يملكن مكاناً يلجؤون إليه، ومنذ افتتاحه في سبتمبر من 2014 فقد آوى أكثر من 12 امرأة.
تعود الشقة في الأصل لامرأةٍ شابة ذات بشرة داكنة وابتسامة عريضة وصوت رفيع، سأسميها (أميرة). في عام 2005، وحين كانت في الثالثة عشر من عمرها توفيت والدتها تاركةً إياها لتعتني بأخويها الصغيرين، (كان والدها مطلقاً ولم تجمعها علاقةٌ وطيدة بزوج والدتها)، فلجأت أميرة إلى الأمر الوحيد الذي ظنت أنه سيوفر لها الحماية: تزوجت صديق زوج أمها مباشرةً بعد انتهاء فترة الحداد التقليدية التي تستمر أربعين يوماً؛ رجلٌ في الأربعينيات من عمره، بشرط أن يقوم برعاية أخويها أيضاً، بعد ذلك بفترة قصيرة وحين كانت حاملاً توجهت لإحدى المحال التجارية برفقة رجال من جيرانها، وفي طريقهم تعرض من كان برفقتها للقتل بإطلاق الرصاص من سيارة مارة. أُخِذَت أميرة إلى سجن النساء في الكاظمية. “قال الجيران بأني تعاونت من فرقة قتل ورتبت لقتل أولئك الرجال، بسبب انتمائي للمذهب الشيعي وانتمائهم للمذهب السني” حسب تعبيرها.
بقيت أميرة في السجن لمدة عامين، وضعت خلالها ابنتها (مريم) وطلقت زوجها (تنازلت طواعية عن حضانة ابنتها لصالحه)، عُرضت القضية أخيراً على قاضٍ وتم رفضها، وفي أثناء فترة وجودها في السجن التقت بدلال الربيعي، وهي امرأةٌ مسنة تعمل لصالح منظمة حرية المرأة وتقوم بتوزيع الملابس وحاجيات أخرى على السجينات، “كانت تخبرني بأنهم على استعداد لمساعدة أي أحد بحاجة لمساعدة” تقول أميرة، “وحين تم إطلاق سراحي بحثت عنها وقامت بمساعدتي”، ومنذ عام 2009 لا تسمح السلطات العراقية لأحد من منظمة حرية المرأة بزيارة السجون، إذ يتم إخبارهم دائماً بأن الزيارات مؤجلةٌ إلى أجل غير مسمى.
التقيتُ بأميرة لأول مرة في عام 2008، بعد إطلاق سراحها بمدةٍ قصيرةٍ في البيت الذي تديره المنظمة في بغداد، وعلت وجهها ابتسامة عندما ذكرتها بأول لقاء بيننا، حين كانت هادئة وخجولة، “كنت أخاف من كل شيء وكل أحد، لكني لم أعد كذلك الان” وتقول “أنا فخورة بقدرتي على المساعدة، فمهما حدث ربما سيقول أحدهم في يوم ما ’كان هناك امرأة اسمها أميرة وقد ساعدت النساء‘”.
إن مقر الملجأ يعتبر سراً لا يعلمه إلا قلة من موظفي المنظمة، ولا يسمى ملجأً بشكل رسمي لأن السلطات العراقية تمنع المنظمات غير الحكومية من إدارة ملاجئ كهذه خارج منطقة كردستان العراق، (ويتضمن مشروع قانون العنف المنزلي المعروض حالياً على البرلمان أحكاماً تتعلق بالملاجئ، وكذلك قانون مكافحة الاتجار لعام 2012، ولكن لم يُفتح أي مأوى تديره الدولة).
تترك أميرة باب بيتها مفتوحاً جزئياً حتى العاشرة ليلاً كل يوم؛ قادتني عبر سلّم اسمنتي إلى شقتها، كانت الغرفة الرئيسية ذات إضاءة خافتة، وتحتوي بضع كراسٍ قديمةٍ ذات لون أحمر، ومكيف هواء مزعج يملأ فوهة النافذة الوحيدة في المكان، ولدى أميرة ابنا في الخامسة من العمر، جلس على الأرض يأكل حب اليقطين المحمص، وكانت قد طلقت والد الصبي، زوجها الثاني، منذ مدة لا تذكرها، إذ ليس بإمكانها القراءة والكتابة، وهي تشوه التواريخ غالباً.
تعلم بعض الفتيات بأمر شقة أميرة من خلال منظمة حرية المرأة، أو عن طريق أميرة نفسها، وغيرها من الناشطات ممن يقتربن من الفتيات في الشارع ويعرضن عليهن المساعدة. بقيتُ هناك لعدة أيام في أيار/مايو، وكان في الشقة وقتها أربع مقيمات، إحداهن كانت (نسرين) فتاة في الثانية والعشرين من العمر بقصة شعر قصيرة، أحضرتها والدتها إلى المكان بسبب عدم قدرتها على توفير الحماية لها، وقلقها من أن يقوم زوج الوالدة بالتحرش بالفتاة، أما الثلاثة الباقيات فكن أخوات (قمت بتغيير أسماءهن)، الكبرى (نور) بعمر 21 ولديها طفلان صغيران، كانت قد وصلت إلى الملجأ منذ شهرين بلا مال بعد انتهاء زواجها، والصغرى (صابرين) التي تبلغ من العمر 14 عاماً، جاءت برفقة أختها، وتقول صابرين أنها كانت تعيش مع زوج والدتها الذي كان يجبرها على استجداء النقود، كما كانت تتعرض للضرب إن كان المبلغ الذي جمعته أقل من 20 ألف دينار عراقي، “أحياناً كنت أقضي الليل نائمةً في الشارع بدل العودة إلى البيت خوفاً منه” تقول صابرين.
أما الأخت الثالثة (مايا) فكانت في الثامنة عشر من العمر، وكانت قد وصلت إلى شقة أميرة قبل أسبوعين من وصولي، وكانت قليلة الكلام وتطرق برأسها، كما أنها تجفل حين يقترب منها أحدهم، ووحدها نور تعلم ما حدث لها، إذ تخبرني: “لو تحدثتِ معها في هذا الأمر فإنك ستؤذينها”
حين كانت مايا بعمر العاشرة ذهبت طواعيةً إلى دار أيتام تابع للدولة في بغداد، وأخبرت المقيمين على الدار أن ذويها متوفين. عثرت عليها الوالدة في دار الأيتام بعد خمس سنوات وأرجعتها للبيت، وتقول نور: “كان زوج أمي يشاهدها وهي تستحم ويتحرش بها جنسياً”، وبعد مرور شهر انتقلت مايا للإقامة مع نور في شقتها المستأجرة وذات غرفة النوم الواحدة في البتاوين، ولكن لم يمضِ وقتٌ طويل قبل أن يُغري أحد القوادين مايا بالطعام المجاني والملجأ والاستقرار. “انتهى بها الأمر حبيسةً لدى الجماعة خلف الباب الأحمر، فقاموا ببيعها” كما تقول نور.
بيت البغاء ذو الباب الأحمر الذي تتحدث عنه نور يقع على بعد بضع شوارع من بيت أميرة، مكتوب فوق بابه (يا حسين) في إشارة لاستشهاد حفيد النبي محمد في كربلاء، وهي واحدة من أهم الحلقات المميزة لتاريخ الشيعة. تقول نور إن مايا تم بيعها لبيت بغاء في مدينة البصرة مقابل 2 مليون دينار عراقي، حيث حُبِست في غرفة واحدة مع 5 فتيات أخريات، وقبل وصولي بأسبوعين بيعت لرجل لليلة كاملة خارج بيت البغاء، فانتظرت حتى ينام لتهرب، واستعارت هاتفاً للاتصال بنور التي أخبرتها بدورها أن تستقل سيارةً وتأتي إلى البتاوين. “لقد كانت خائفة لأنهم جميعاً على معرفة ببعض، الجماعة هنا وأولئك الذين في البصرة، لكنها تمكنت من الوصول” تخبرني نور.
ومنذ هروبها فقد اتصلت القوادة على نور عدة مرات مطالبةً باستعادة المال الذي دفعته مقابل مايا. هم لا يعلمون أن الأختين على بعد بضع شوارع، كما أنهم لا يعرفون ما تبدو عليه نور أو صابرين. تقول نور إنها غير خائفة منهم رغم أنهم على علاقة بقوات الشرطة، فقد ذهبت مرة لتقديم شكوى ضد بيت البغاء، مما دفع بالقوادة للاتصال بنور “قالت لي’نحن على علم بذهابك لمركز الشرطة وبكل أقوالك، أظننت أنهم لن يخبرونا؟‘، فقلت لها حسناً، إن لم تقدم الشرطة المساعدة فسألجأ للميلشيا، وهذا أخافها”.
يقع قسم مكافحة الاتجار بالبشر التابع للشرطة العراقية في مكتب صغير بداخل متاهة كبيرة من الكتل الكونكريتية التي تعلوها أسلاك شائكة والتي تقسم مجمع وزارة الداخلية في بغداد، ومنذ افتتاح القسم في عام 2012 فقد تولى التحقيق في 68 قضية اتجار غير مشروع، معظمها يتعلق باستغلال العمال الأجانب وتجارة الأعضاء البشرية. أخبرني النقيب (حيدر نعيم) أن خمس قضايا من تلك فقط تتعلق بتجارة الجنس، لكنه أقر أن الرقم لا يعكس حجم المشكلة الحقيقية؛ نعيم في الخامسة والثلاثين من العمر، ويعد واحداً من خمس ضباط في القسم، اثنان منهم تم تعيينهم للإشراف على الأعمال الورقية المتعلقة بنقل الأعضاء في المستشفيات.
لا يملك القسم سيارات دورية أو ضباطاً للعمل الميداني، لكنهم يملكون لجاناً تنظم اجتماعات منتظمة، وخطاً ساخناً لاستقبال الشكاوى (533)، إذ يقول نعيم أنه مصَمَّم لاستقبال التقارير عن الاتجار، لكن حين طلبت من صديق لي الاتصال على الرقم من هاتف جوال وخط أرضي كان الرقم لا يعمل، وحين أخبرت نعيم أن نشطاء حقوق الإنسان والمنظمات غير الحكومية تستهدف مشكلة الاتجار بالبشر بشكل أكثر فاعلية من القسم الذي يديره، أشار إلى إن مدير دائرته تم نقله إلى الأنبار بعد سقوط مدينة الرمادي في قبضة تنظيم الدولة، “نحن نفعل ما بوسعنا، لكن هناك حالات طوارئ مفاجئة كما ترين..”
لا يمكن لنعيم التصريح عن أكثر الأماكن التي تتم بها عمليات الاتجار بالبشر، لأن ذلك يعني الإقرار بتقصير الدائرة، “بوسعي إخبارك عن هذه المنطقة وتلك، ثم سأسمع من يقول ’لمَ لا تقوم بفعل شيء هنا؟ ولم لا تضع أشخاصا هناك؟‘ ونحن لا نملك القدرة على وضع الأشخاص في تلك الأماكن، لو كان بإمكاننا فعل ذلك لفعلنا، لقضينا على هذه الجرائم، لكننا لا نملك الوسائل”.
تحافظ ليلى على شبكة صغيرة من الوشاة ممن تدفع لهم المال مقابل الحصول على معلومات. في ظهر إحدى الأيام وأثناء وجودنا في بيت أحد الأصدقاء تلقَت اتصالاً من أحد مخبريها في مدينة الصدر، واحد من أكثر الأحياء الشيعية اكتظاظاً بالسكان في الشمال الشرقي من مدينة بغداد؛ تم جر امرأة من بيتها إلى الشارع ورميها بالرصاص، أسرعت ليلى إلى مكان الحادث مصرةً على إبقائي بعيدةً قدر الإمكان، لأنها لم تكن تعلم إن كان الوضع آمناً؛ الضحية كانت ثالث امرأةٍ تقتل في ذلك الأسبوع، كما قيل لها.
علمت ليلى من الجيران أن المرأة قتلت بواسطة رجل من الميليشيا، لكن لم يعرف أحد من أي ميليشيا كان، أما دور البغاء في المنطقة فقد أخبروها أن المرأة كانت تعمل كقوادة وأن إحدى فتياتها قامت بالتبليغ عن نشاطاتها، “أعتقد أحياناً أن هذا الأمر لا يمكن إيقافه” تخبرني ليلى بعد ذلك ببضعة أيام، وحين ترى الضحايا تقول: “أشعر بأن الأمر يمزقني، من المؤلم مشاهدة هذا الأمر”، لكنها تكمل عملها وتقول: “أنا الآن قوية وواثقة، أعلم بأني إنسانٌ ولست حيواناً، وأن الجرح بداخلي هو مصدر قوتي، لأنه يدفعني لمساعدة الآخرين. أولئك الذين يحملون ندوباً تقع على عاتقهم مسؤولية مساعدة الجرحى”.
المصدر باللغة الانكليزية: هنا