ترجمة :- نورالهدى عباس التميمي
تصميم الصورة: مكي السرحان
من كتاب :- ذكاء الإنسان الخارق (The Superhuman Mind)
بقلم :- بيرت بروجارد (Berit Brogaard)
ولدت جيني من أبوين مضطربين. والدها غير متسامح ابدًا مع الضوضاء العالية ولا يريد اطفالًا لكنه في النهاية هو وزوجته امتلكا اطفالًا، الكثير منهم. معظمهم ماتوا بسبب الإهمال عند طفولتهم. وجيني هي واحدة من الاطفال الذين بقوا على قيد الحياة.
وبسبب أن والدها متحسس للضوضاء ويفتقد الى العناية بأطفاله، امضت جيني الثلاث عشر سنةٌ الأولى من حياتها مربوطةً في مقعد او كرسي في سترة للأطفال محلية الصنع. وكانت اذا اصدرت اي ضجة، يضربها والدها بمضرب البيسبول. انها بحق، طفلة متوحشة.
عندما تدخلت خدمة رعاية الطفل (CPS) اخيرًا، لم تكن جيني تمتلك ايّ قدرات بدنية خارج تلك التي لدى طفل صغير يبدأ المشي. وكانت تعاني من نقص شديد في الوزن مع عدم قدرتها على التكلم.
صادقت العالمة اللغوية “سوزن كيرتس” جيني وحاولت تدريسها لغتها وتحدت قدراتها العقلية. وعلمت بسرعة أنَّ جيني ذكية جدًا. فهي قادرة على قص قصص معقدة، ليس بالكلمات وانما بالصور. فهي تستخدم الصور لتحكي روايات معقدة.
وعملت “سوزن كيرتس” مع جيني لتعلمها لغتها الانكليزية. وسرعان ما طورت جيني قاموسًا كبيرًا نوعًا ما وتمكنت من التعبير عن ذاتها. ولكن على الرغم من التدريب المكثف، بقيت غير قادرة على تكوين جُمَل نحوية. وهنا نسخة من أحد تقاريرها اثناء وجودها عند والدها :
الاب يضرب اليد. عصى كبيرة. جيني تبكي … لا بصاق. الاب. يبصق في وجهها … الاب يضرب بعصى كبيرة. الاب عصبي. الاب يضرب جيني بعصى كبيرة. الاب يأخذ قطعة الخشب ويضرب. بكاء. ابكي.
وعلى الرغم من المأساة التي تحيط حالة جيني، فحالتها تعلمنا درسًا مهمًا عن القدرات اللغوية. قص القصص (ليس بالضرورة ان يكون بطريقة لغوية او حدث من خلال استخدام الكلمات) بالإضافة الى أنَّ فهم اللغة يختلف كثيرًا عن كونها قادرة على تكوين جُمَل نحوية.
المناطق اللغوية في الدماغ تنقسم فعليًا بين منطقة “فيرنيك” ومنطقة “بروكا” (من بين مناطق آخرى مهمة لتيسير اللغة). تقع منطقة “فيرنيك” على الجانب الايسر من الرأس (فوق الأذن) في الفص الصدغي، اما منطقة “بروكا” تقع في الجزء الجبهي من الدماغ. ومنطقة “فيرنيك” مسؤولة عن فهم الخطاب وبقية إشارات التواصل الأخرى، بينما منطقة “بروكا” مسؤولة اساسًا عن تكوين الجُمَل النحوية (الى جانب المنطقة الحركية التي تحتاج الى التعبير عن ما تريده وقوله فعليًا – بأستخدام الشفاه والإيماءات، على سبيل المثال).
اثبتت حالة جيني أنهُ توجد نافذة محددة لتحديد الحد الأقصى لما يمكنك ان تكون طليقًا نسبيًا في اللغة. بالتأكيد، إذا كنت طليقًا في لغة اخرى، فالدماغ يستعد لأكتساب اللغة وربما ينجح حقًا في ان يصبح طليقًا في اللغة الثانية او الثالثة. إذا لم تمتلك اي تجربة مع القواعد، بالرغم من ذلك، تبقى منطقة “بروكا” صعبة التغيّر: لا يمكنك تعلم تكوين لغات نحوية في وقت لاحق من حياتك. لكن القدرات على فهم اللغة وتكوين لغة بطرق لا تعتمد على القواعد اللغوية تستخدم الى حد كبيرة منطقة “فيرنيك” في الفص الصدغي. هذه المنطقة قادرة على التوسيع والتجديد طوال الحياة __ حتى في سنوات المراهقة. حالة جيني أكدت ذلك. فالقواعد كانت بعيدة عن متناولها. لكن استيعاب اللغة وقص القصص لم تكن كذلك.
الحقيقة عن هذه الحالة المأساوية هي فكرة ناشئة عن أن منطقة “فيرنيك” في الدماغ __ منطقة استيعاب اللغة __ تستوعب اللغات المختلفة والإشارات المعنوية بطريقة موحدة، بينما منطقة “بروكا” __ منطقة الدماغ التي تكوّن الخطاب النحوي __ هي مخازن للغة الاصلية (اولًا) واللغات التي تتعلمها في حياتك لاحقًا (ثانيًا) وذلك يتم في مناطق منفصلة.
المصدر: هنا