حارب الإنحياز الذي يجعلك طيّعا للسلطة. المقاومةُ ليست بلا جدوى.
بقلم: Guy P. Harrison
هل سبق واعتقدت بأن العالم كان ذا معنى حينما كنت طفلاً صغيراً؟ بالطبع, انا إعتقدت ذلك. وعلى الرغم من أنه كان يبدو في معظمِه من مستوى فهم طفل عبارةً عن فوضى وجنون, لكنّي إفترضت أن هذه الرؤية كانت بسبب كوننا صغاراً وجاهلين. لقد كنت مطمئنا من معرفتي بأن الكبار البالغين والمسؤولين عن التحكم بالعالم الحقيقي كانوا يعرفون ما يفعلون. لكنّي أدركت مع الوقت مدى خطأ تلك الفكرة.
ليس عالمُ الكبار الا نسخة أكبر و أقذر من ساحة لعب في مدرسة إبتدائية. حيث الشخصيات والعلاقات والتصرفات ليست مختلفةَ كثيراً. ما أختلف فقط هو أن كلً شخص أصبح أكثرَ طولاً. فالمتنمرون والمتعصبون وغيرهم من مرضى الاضطرابات الاجتماعية المحتملين لم يختفوا. كل ما حصل هو انهم طوّروا مستوى أدائهم. فلم يعودوا يهددون الاخرين باللكم من اجل سرقة مال الغداء, فهم الآن يشنَون الحروب, يُسممون الكوكب وينتجون برامج الواقع.
الاكتشاف المهم الذي توصلنا له عند النضج, وهو ما نميل الى نسيانه في اللحظات المهمة, هو أن شخصيات السلطة التي منحناها يوما ثقةً مطلقة أثناء الطفولة – المعلمين والاباء والسياسيين والزعماء الدينين وغيرهم –هي شخصيات يعوزها الكمال. فحتى افضلهم قد يكذبُ ويقترفُ الأخطاء. فالأطفال ذوو العيوب يكبرون بعيوبهم. وينوبُ عن هؤلاء المعلمين والمدراء غير الكاملين في السلطة رؤساءٌ ورؤساءُ حكومات ذوو عيوب أيضا. يتَمُ الأمر بهذه الطريقة. فالعمر لا يضمن حكمةً أو سلوكاً أخلاقياً. والسلطةُ لا تعادل الكمالَ. لذلك فإنه من المنطقي أن تحلل وتنتقد ما يصدر من أولئك الذين نُميّزهم على إنهم أقوى منا. تجعلنا بشريتنا نغفلُ عن بديهية كتلك في حياتنا اليومية بسبب الإنحياز اللاواع المؤثر الذي نملكه جميعنا.
فكما هو الحال مع القردة العليا فإننا أيضا مهووسون بالمكانة. فالعقل اللاواع لا يستطيع تجنب تفحص الغرباء ووضعهم على سُلّم مرتبي نحتّل نحن مركزه بناءاً على إشارات قد تكون صائبة أو غير صائبة . فمعظم الناس في أمريكا يميلون لتصديق إدَعاء رجل كبير أبيض من ذوي البدلات الرسمية أكثر من تصديق شاب اسيوي بزي غير رسمي. يرغبُ رفيعو الثقافة والمُتعلمون بتصديق إنهم بعيدون عن مثل هذه الإختصارات والتعميمات العقلية المُبسطة, لكنهم ليسوا كذلك. لا أحد منّا كذلك. فالشهادة الجامعية لا تساهم بالقضاء على الانحيازات الإدراكية المُقلقة. فلا تكفي الرغبة بالإنصاف كي تمنعنا من إرتكاب الأخطاء في التقييم.
قد نُظهر حِسً الإنصاف واللطافة في العلن لكن داخل ظلمات اللاوعي يكون العقل مشغولاً لحظتها بتقرير اي المواقف ينبغي او لا ينبغي علينا إتخاذها: الخضوع أو السيطرة. وهنا تبرز المشكلة عندما يُقرّر اللاوعي أن تُماشي الخضوع, فيصبح الشخص حينها غير حصين أمام أسوء النصح والحقائق المغلوطة, وفعل الأشياء غير المُحبذ فعلّها.
فعندما نُقابل شخصا يفوقنا مرتبة, أو يبدو كذلك لعقلنا اللاواع فأنه من ضمن طبيعتنا البشرية أن نقوم بمنحه كثيرا من المصداقية ونسمح له بممارسة تأثيره الكبير علينا. هذه مشكلة بارزة ومن المُمكن أن ترتبط بكل ممارسة من البيع الى الدجل بإسم الطب وتذكر أن رجلاً كان يحمل صفة علمية على بدلة المختبر البيضاء هو من وافق على تنفيذ الأوامر أثناء الهولوكوست .من الضروري أن نكون حَذرين ومستعدين لبذل جهد من أجل التفكير بوعي أثناء لحظات الضعف الفطرية هذه. وإن فشلت في فِعل هذا فستجعل من نفسك عرضةً للتلاعبِ والاستغلالِ وسوء المعاملةِ.
يُصبح البشر غير حصينين حينما يخرجون الى غيرِ بيئاتهم. حينما نكون غير مُتيقّنين بخصوص شيء ما أو حين نفتقد الثقة فإن عقولنا اللاواعية تبحث عن شخص ما, أي أحد, يخبرنا ماذا يجب أن نفعل. (لأنني قلت كذلك )هي المغالطة المنطقية الأكثر سماعا وعلى جميع المستويات الاجتماعية. تُدعى هذه المغالطة رسميا بالاحتكام الى السلطة (مصدر الحجة هو السلطة). هذا الاذعانُ الخطير للسلطة على حساب الحقائق يبين السبب وراء تصديق الملايين من الناس للأكاذيب والتفاهات والتي غالبا ما تجعلهم يتخلون عن مهارات التفكير الواعي عندما يخالطون القادة الفاسدين أو يتعاملون مع المؤسسات غير الكفؤة.
لا تقللْ ابداً من قيمة نقاط ضعفك. فإنها موجودة داخلك وتشوّش على أحكامك. إبذلْ جهدك وإعمّلْ وعيّك لتحجيم المخاطر التي تجلبها. وذكَرْ نفسك دائما حينما تتعامل مع شخص ذي سلطة إن خبرة وإطلاع هذا الشخص محدودة وضيقة. فلا أحد كلٌي المعرفة. فحين يخبرك محاميٌ مرموق ومتنفذ وذو ثروة بأن نظرية التطور هي إكذوبة من الجحيم, دعْ جهدَك الواع يقاوم دوافع عقلك اللاواع الذي يعطي الكثير من الأهمية لشهادته/ها المهنية. فهم, ومهما يكّن من أمر, لا يقضون وقت دروسهم في كلية القانون في دراسة الطفرات الجينية والإنتخاب الطبيعي وسجلات الأحافير. لكن هذا لا يعني أيضا إن شخصا حائزا على شهادة في القانون لا يستطيع ان يُسهم ولو قليلا في علم الأحياء الحديث. لكن شهادة القانون وحدها لا تعطي ثقلاً لشخص في حقل آخر حين لا يكون قادرا على تحصيل دلائل ساندة في ذلك الحقل.
يعرفُ الطيَارون الكثير عن الطيران لكن ذلك لا يجعلهم علماء فلك أو خبراء ذي مصداقية في مجالي الرؤية البشرية والذاكرة. لذلك فإنه من غير العقلاني أن نمنح الكثير من الثقة لإدعاءات أحدهم رؤية الصحون الطائرة فقط لان هذا الشخص يعمل طيّاراً. كما إن خبراء الارصاد الجوي ومقدمي نشرات الطقس ليسوا علماء مناخ فلماذا نفترض إنهم يعرفون عن علم المناخ كلما لو إنهم كانوا علماء مناخ أو أكثر.
عليك أن تبقى يقظًا و حذراً حتى حين يكون الاشخاص الذين يعطون الأوامر والاقتراحات أو يُقدّمون الإدعاءات يملكون شهادات مهمة وفي ذات المجال. ولا تنسْ ابدا حقيقة إن الكمال الانساني ليس في متناول أحد. وهذا هو السبب وراء بحث المفكرين متوقدي الذهن الذي يحاولون تجاوز ارتكاب الاخطاء عن الادلة والتعاليل المنطقية وراء تصديق إدّعاء ما, وبغض النظر عن مُدَعيه.
لقد حقق رائد فضاء مركبة أبولو إدغار ميتشل (Edger Mitchell) الكثير على المستويين: الأكاديمي والمهني. ومشى على سطح القمر. خلال حياته روَج ميتشل لادعاءات الصحون الطائرة والتنبؤ بغير الحواس (extrasensory perception) وأسطورة روزويل وغيرها من الإدعاءات الغريبة. بلا شك إن سيرته المهنية تجعلُ الكثيرين يُصدقون إدعاداته. لكن مع هذا فإن شهاداته وإنجازاته المثيرة للإعجاب أساسا لا صلة لها بإدعاءاته لإنه لم يحصل على دلائل علمية قابلة للإثبات لأي منهم.
وحتى ضمن الثقافة العسكرية الأمريكية حيث السلطة الصارمة يُعلّم الجنودُ الامريكيون أن يعصوا الأوامر اللاأخلاقية. لكّن حدوث هذا مرتبط بقدرة الجنود الدائمة على تحليل ووضع ما يصدر عن قادتهم محل التساؤل والتشكيك. فتذكّرْ هذا كل مرة تريد الخضوع فيها لإرادة سياسي او طبيب او معلم أو زعيم ديني. فإذا كان من الممكن أن ينتقد الجنود قادتهم حتى حين تواجدهم في ميدان الحرب, فلا عذر لك أن تهمل ذلك في حياتك اليومية.
غالباً ما يوَد عقلك اللاواع أن يجعلك تتبع أي شخص ذي صفة رسمية أو يحمل سيرة قيادية. ولك أن تُقدَر كم هو خطير هذا الامر. يضعُ الكثير من الآباء والامهات وأطفالهم ثقتهم في الكهنة الكاثوليك الذين يتم النظر اليهم كشخصيات رفيعة المبادئ ذات صلة خاصة بالسلطة والحكمة الإلهية. ولكنهم تعلموا وبطريقة مؤسفة إن بريق المنصب يحجب الشبهة عن المجرمين كما ويحميهم من الخضوع للمنطق السليم. وقد تم تسليط الضوء في السنوات الأخيرة على عدة الآف من قضايا التحرش الجنسي واغتصاب أطفال تورّط بها قساوسة. الإحتكام الى السلطة( السلطة هي مصدر الحجة)مغالطة لا يمكن إحتوائها وعزلها بين صفوف جدران الفلسفة. إنها خطر حقيقي على العالم.
قد يبدو أنه من الصعب أن تعتقد أن هناك تسجيل لحوادث تضمنت إتصال أشخاص بشركات مدَعين كونهم ضباط شرطة يحققّون بعملية سرقة ومن ثم يُوجّه المدراءُ أو الحاضرون للقيام بتفتيش جسدي للموظفات الإناث أو لزبونة إنثى في إحدى الحوادث. الحالة الأشهر حدثت في العام 2004 في مطعم ماكدونالدز في كنتاكي. تنفيذا لأوامر صوت شخص من جهة رسمية على الهاتف مُدعيا كونه ضابط تنفيذي, عُذبت فتاة في الثامنة عشر من العمر وتم التحرش بها جنسيا في مكتب خلفي لأكثر من ساعتين.
المدير والموظفة الشابة أطاعوا الاوامر التي تضمنَت تعريتها, وعرض أعضائها الجنسية والقفز وهي عارية وحتى الضرب على الأرداف. تبدو إمكانيةُ نجاح مثل هذه الحيل الغريبة والشاذة ضئيلةً جدا. لكنها تنجح مع ذلك بسبب نقطة ضعف إنساني غريزي.
وسيلة الدفاع الوحيدة القادرة على الوقوف بوجه قوة السلطة المغرية هو التفكير الرَصين, الذي يتطلب الوعي والتواضع والتشكيك اليقظ وطلب الدليل. أولا عليك أن تكون حذراً من قدرة العقل الواع على قيادتك لأي وجهة يُريد دون أن تشعر بأي سوء. ثم كُنْ متواضعاً. قاوّمْ المبالغة في تقدير قدرتك على التفكير بإستقامة حين يوسوس لك صوت السلطة. فقد أظهر علماء النفس الاجتماعيون مرارا وتكرارا بإننا جميعا عرضةٌ للتأثر وإن لا حصانة لأحد. أن تكون مرتاباً ومتشككاً بكل شيء وكل شخص ليس بالأمر السلبي أو الدال على ضيق الأفق. بل إنه أمر حكيم. فأسعْ دائما لطلب الدليل والتفكير كالعلماء. فهذا ما يساعدنا على حماية أنفسنا والاستمرار بسلوك الإتجاه الصحيح نحو ما هو أفضل وحقيقي وصادق.
*الكاتب مؤلف لست كتب في مجال دعم العلم والعقلانية ومن ضمنها كتابه: التفكير الرصين: ما تحتاج أن تعرف كي تصبح أذكى وأغنى وأكثر حكمةً وإطمئناناً.