الإنحياز المؤكّد: هو أحد مصطلحات الطب النفسي، يتضمّن البحث أو التفسير عن الدلائل بطرق إنحيازية لقناعات، أو إحتمالات أو فرضيّات راسخة.
’’الإنحياز التأكيدي على الأرجح هو المفهوم الأكثر تعارُفًا وتقبّلًا من مجموعه الأخطاء الإستنتاجية التي تمخّضت من الوعي البشري‘‘. – جوناثان إيفانز (Jonathan Evans) – ’’من كتاب: الإنحياز في الوعي البشري، أسبابه ونتائجه – 1989‘‘.
الوعي مقابل التلقائية في بناء القضيّة:
هنالك تناقض واضح بين تقييم البراهين بصورةٍ نزيهة للوصول إلى إستنتاج بعيد عن التحيُّـز، و بناء القضية لتبرير إستنتاج مرسوم مسبقًا. في اللّحظة الأولى يبحث الشخص عن البراهين الشاملة للسؤال، ويقيّم البراهين بموضوعية كبيرة، ويرسم الإستنتاجات المُـراد الوصول إليها من البراهين بصورةٍ إجمالية. في اللّحظة الثانية، يبدأ الشخص تلقائيًّا بإعطاء وزن مفرط للبراهين التي تدعم القناعات الشخصية وعدم أخذ كل ما يخالفها بالحسبان.
هنالك إختلاف أقل وضوحًا بين بناء الحجّة بشكلٍ واعٍ ومدروس وبين الولوج في بناء الحجّة من دون وعي. النوع الأول يمكن الإستدلال عليه تطبيقيًّا من ما يفعله المحامون والمحاورون، يقوم المحامي بصورة أو بأخرى بتشكيل قضية شرعية تمامًا من وجهة نظر القانون، المدّعي العام يقود الأدلّة بإتجاه يدل على إرتكاب الجِـناية، بينما يحاول محامي الدفاع أن يبرز الأدلّة التي تدعم براءة المتّهم. بهذه الحالة يمكن الإستدلال على أنّ الجهتين غير ملتزمتين بعدم الإنحياز، وكل جهة تعطي الثقل الأكبر للأدلّة التي تدعم قضيّتها، لأنّها تمتلك الدافع الشخصي الذي يحفّزها على تحقيق وجهة نظرها.
المحاورون من جانبهم يعطون أهميّةً كبرى للحُـجج التي تعزّز موقفهم الذي يتبّنوه وإعطاء براهين لتغطية نقاط الضعف في قضاياهم وأفكارهم.
الإنحياز المؤكّد (كما يشير إليه المختصّون بالطب النفسي) يشتمل على بناء الأفكار بصورة متحيّزة وأقل وعيًا ومصداقية، إنّها تشير إلى الإنتقائية غير المقصودة في إستحواذ وتوظيف الأدلّة المتوفّرة.
من الصعب جدًّا التمييز من الناحية العمليّة بين الإختيار الواعي للأدلّة، وقولَـبة الحقائق بدون وعي لتتناسب مع قناعات وفرضيات شخصيّة مترسّخة سابقًا، والإنحياز المؤكّد يتعامل مع الأخير غالبًا.
السؤال حول ما يشكّل اليقين التام بشأن أي إفتراض معيّن عن طريق الشخص، كان مسألةً مثيرة للجدل والإختلاف بين الفلاسفة وأصحاب المنطق لمدّة طويلة.
’’إنّ لم يكن هنالك شيء شخصي يضعنا على المحكّ في خلاف بين أشخاص غرباء عنّا، سنتمتّع بذكاء حادّ في قياس واقعية الأدلّة والوصول إلى إستنتاج عقلاني. ويمكننا الوصول لقناعة قاطعة حول أي من الأطراف المتخالفة تمتلك القاعدة ذات الأدلّة الجيدة. لكن ليكن ذلك الخلاف هو خلافنا، أو خلاف يخصّ أصدقائنا أو أقربائنا أو أشقّائنا؟ عندما نكون طرفًا في خلاف معيّن؛ سنفقد قدرتنا للرؤية بعيون الطرف الآخر… كلّما كان الدافع ملحًّا، أو مقتربًا ليمس كياننا الشخصي، تصبح العقلانية والذكاء في قياس الأمور أصعب‘‘.
– لويس ليون ثورستون (Louis Leon Thurstone) – ’’من أوائل علماء النفس البدنيين في الولايات المتّحدة الأميركية‘‘.
ملاحظة/ تم ترجمة هذا الجزء من بحث خاص بالطب النفسي خاص بأرقام وإحصائيات ومواضيع متشعّبة، تم ترجمة المقدّمة لأنّها تحقّق الهدف المطلوب لإيصال المعلومة للمتلقّي بسهولة، الترجمة كانت لحدّ العنوان الفرعي (A Long-Recognized Phenomenon).
المصدر: هنا
عندما يتعلق الأمر بالسياسة قد لا تكون عقلانيًّا كما تعتقد!
الإعدام: هل يحدّ من الجريمة؟ التغيّر المناخي: هل البشر هم المسؤولين؟ التسلّح: هل أضراره فاقت فوائده؟
ربّما قد تظن أنّك تفهم المسائل السياسية على أنّها ذات أساس صلب، ولا يمكن التشكيك بها، قد تكون مخطئًا!
’’الناس يظنّون أنّهم يفكّرون كالعلماء‘‘ – كما يقول البروفيسور بيتر ديتو (Peter Ditto) الذي يدرس التحكيم البشري وإتّخاذ القرار في جامعة كاليفورنيا ويضيف: ’’لكنّهم في الواقع يفكّرون كالمحامين‘‘.
’’العلماء لا يهتمّون حول ماذا ستكون الإجابة، هم فقط ينظرون إلى البيانات ويصلون إلى الإستنتاج‘‘ – كما يكمل ليتو. ’’المحامون يعرفون ماهية الإجابة والإستنتاج المُـراد الوصول إليه، بعد ذلك يقومون بتسخير مجموعة من الحقائق ليدعموا الإستنتاج المطلوب‘‘.
وهكذا نقوم بتشييد آرائنا السياسية بغض النظر إن كنّا نلاحظ أنّنا نفعل ذلك أم لا.
البحث الذي قام به البروفيسور ديتو لم يركّز في كل الأوقات على السياسة فقط، بدأ في فضاءٍ أوسع لدراسة رفض التصديق بآراء معيّنة، بالرغم من الأدلّة القويّة التي تدعم هذه الآراء. هذا ما قاد ديتو للبدء بالتحرّي حول الصحّة النفسية.
’’لماذا يقول الناس عندما يواجهون مرضًا معيّنًا، في بعض الأحيان: لا، لا يمكن ذلك، ربّما التحاليل مخطئة؟‘‘ – يقول البروفيسور ديتو، ويضيف: ’’ما نريد الإيمان به، يغيّر طريقة معالجتنا للمعلومات التي تدخل إلى أدمغتنا‘‘.
بعد ذلك، الإستقطاب والتحزُّب الشديدين للمناخ السياسي الأميركي جذبَ إنتباهه: إنّهُ الميدان الذي تلعب فيه مشاعر الناس دورًا واضحًا بالتأثير على أحكامهم بما هو صائب.
يُـتوقّع من الناس أن تكون رؤيتهم السياسية متحيّزة، لكن الحقائق يجب أن تبقى مثل ما هي عليه: غير متحيّزة ويمكن إثباتها.
يقول البروفيسور: ’’ما يُـلفت النظر، إنّ الجانبين يمتلكان تشكيلة مختلفة من الحقائق حول نفس الأمر‘‘. ويضيف: ’’اللّيبراليّون والمحافظون ينظرون إلى نفس القضيّة، ويرون شيئًا مغايرًا تمامًا. هذا هو الإستنتاج المحفّز الذي لطالما أثار إهتمامي‘‘.
كل من يتابع السياسة يعلم أنّ التحيّز والتحريف متفشٍ في كل جوانب الطيف السياسي، التجانس بين الموضوعية البحتَـة والسياسة نادر جدًّا. لكن؛ هل يوجد توجّه معيّن أكثر تحريفًا وإنحيازًا من الآخر؟ كـاللّيبراليين والمحافظين؟
يقول ديتو: ’’لقد وجدنا بأنّ كِـلا الحزبين متساويان في إنحيازهم نحو توجّهاتهم التي يتبنّوها‘‘.
الناس أذكياء في إكتشاف الإنحياز في جدالات الآخرين، لكنّهم يفشلون بشكلٍ متواصل في إكتشاف إنحيازاتهم الشخصية. ’’كل البشر ينادون بعضهم البعض بخطاياهم الخاصة، وهذا ما نسمّيه في الطب النفسي بــ (بقعة الإنحياز الأعمى) – ‘bias blind spot’‘‘.
ويمكن أن نستشهد باللّيبرايين والمحافظين الذين ينادون بالحريّة كواحدة من المبادئ الجوهريّة في برامجهم، وعندما يتناظرون بهذا الموضوع يكون لديهم نفس النوع من الإنحياز الأعمى تجاه بعضهم البعض.
’’نحن سعداء أن نمنح الحريّة للناس بممارسة الأمور التي نظنّ بأنّها أخلاقيًّا صحيحة من وجهة نظرنا، لكنّنا لا يمكن أن نسمح لهم بممارسة الحريّة بالأمور التي نؤمن بأنّها أخلاقيًّا خاطئة‘‘ – كما يقول البروفيسور ليتو.
يحفّز حزب المحافظين على الحريّة الإقتصادية، أمّا الحريّة فيما يخص الأشياء التي يظنّون بأنّها خاطئة أخلاقيًّا كزواج المثليين والإجهاض، فلا يسمحون بها على الإطلاق.
يمتلك اللّيبراليّون نظرةً معاكسة تمامًا، حيث أنّهم يشجّعون الحرية عندما تقترب من مواضيع السلوك الجنسي، ويرفضونها عندما تقترب من السلوك الإقتصادي.
كيف تحدّد الأخلاقيات سلوكك السياسي؟
الكثير من العمل الذي قام به البروفيسور ديتو وزملاؤه ركّز على نظريّة الأسس الأخلاقية، الهيكل الذي إستخدمه علماء النفس في إعطاء تصوّر واضح حول المبادئ الجوهريّة التي تؤثّر على الأخلاق الإنسانية في العالم يعتمد على: الضرر والنزاهة والإخلاص والتسلّط \ التقاليد بالإضافة إلى الطهارة.
’’يمكن أن ترى هذه النقاط الخمس في مختلف الثقافات، إنّها أكبر العوامل التي تميل الأخلاق إلى التعامل معها والإرتباط بها، لكن المجاميع المختلفة للبشر تختلف في كميّة الأهميّة والوزن التي تمنحها لأي واحد من هذه العوامل الخمسة‘‘ – كما يقول البروفيسور. وللتعمّق أكثر في ما يجعل الأخلاقيات تؤثّر على السلوك الإنساني والأيديولوجيات السياسية، قام البروفيسور ديتو ومساعدوه في جامعات رصينة في أنحاء الولايات المتّحدة الأميركية بتأسيس موقع (www.yourmorals.org)، حيث يستطيع أي شخص أن يُـملي العديد من الفحوصات النفسية ذات الإرتباط الوثيق بالأخلاقيات، إلى اليوم. أكثر من 600,000 أجروا هذه الفحوصات على الموقع الألكتروني.
من خلال هذه الفحوصات يمكن بسهولة التحديد أين يستند الناس بتقرير آرائهم في الطيف السياسي. اللّيبراليون يُـبدون إهتمامهم بأمرين، عندما يتعلّق الأمر بالأخلاقيات، هما: الأذى والنزاهة. إذا كان الفعل لا يسبّب الأذى لأحدٍ ما، ولا هو أمر غير نزيه بحقّ أحد، إذًا أخلاقيًّا يمكن العمل به من وجهة نظرهم.
المحافظون، في الجهة الأخرى، ليسوا النقيض العكسي للّيبراليين. يجد المحافظون بأنّ النقاط الخمس كلها مهمّة أخلاقيًّا. هم يبدون إهتمامًا موازيًا للأذى والنزاهة كما يفعل اللّيبراليّون، لكنّهم يُـبدون إهتمامًا أكبر بالوفاء للمجموعة، والنفوذ والتقاليد والطهارة.
عندما بحثَ ديتو وزملاؤه في نتائج الفحوصات، كان المشاركون على الغالب ليبراليّي التوجّه، لكن مجموعةً ثالثة غير متوقّعة شاركت بأعداد ليست بالقليلة، إنّهم: (المتحرّرون).
يقول ديتو: ’’عندما تنظر في أمر المتحرّرين، تجد أنّ نسبهم قليلة في الأعمدة الخمسة التي ترتبط بها الأخلاق، لا ينظرون للعالم بنظرة أخلاقية، بل هي نظرة براغماتية واقعية، ونظرة نفعيّة‘‘.
تأثير الأخلاقيات في القرارات العمليّة
لماذا لا يبدو بأنّنا نتعلّم من الأخطاء السياسية السابقة؟ لأنّ أخلاقياتنا الشخصية هي ما يحدّد الوقائع والحقائق، وليس العكس.
يكمل البروفيسور حديثه بالقول: ’’ما وجدناه، أنّ التصوّرات الأخلاقية للناس دائمًا ما تلتحم وتتناغم مع معتقداتهم السياسية. لذلك فالأفعال التي لا يتّفقون معها من وجهة النظر الأخلاقية، يعتقدون بأنّها غير فعّالة ويرفضونها لهذا السبب‘‘.
وكمثال على ذلك، أحضر ديتو وسائل التعذيب المثيرة للجدل؛ كالإيهام بالغرق وأستنتج أنّ كل شخص يظنّ بأنّ التعذيب عمل غير أخلاقي، يقرّر بأنّ هذه الوسائل غير مجدية. أمّا الناس الذين لديهم مشكلة أخلاقية أقل مع هذه الوسائل، يقرّون بأنّها قد تؤدّي الغرض المطلوب منها في أغلب الأحيان.
ويمكن تطبيق نفس الأسلوب عندما يُـسئَل الناس عن عقوبة الإعدام. فالشخص الذي لديه مشكلة أخلاقية مع الإعدام سيقرّر بأنّها غير فعّالة بمنع الجريمة والعكس صحيح.
هل يُـصنَّف المحافظون على أنّهم معادون للعلم الحديث؟
المحافظون، وخصوصًا في الولايات المتّحدة الأميركية دائمًا ما يُـتّهمون بأنّهم معادون للمبادئ العلميّة الحديثة، وذلك بسبب مواقفهم المضادّة حول التغيّر المناخي. التي يسخر منها العلم ويقول خِـلافها. ويُـعلّق البروفيسور ديتو على ذلك قائلًا: ’’من الخطأ توجيه أصابع الإتهام حول مجموعة واحدة بأنّها تحطّ من قدر العلم، كِـلا الحزبين سيَـقبلان بالمعلومات التي يوفّرها لهم العلم إذا كانت تدعم ما يريدون الإيمان به، وسـيشوّهون سمعة هذا العلم إنْ أختلف مع مبادئهم وما يريدون من العلم أن يثبته لهم‘‘.
أشار البروفيسور ديتو إلى دراسة قامت بها جامعة ستانفورد في سنة 1979، والتي قدّمت مواضيع تحمل معطيات علميّة حول إذا ما كانت عقوبة الإعدام تقلّل من مستوى الجريمة أم لا، هذه الدراسة بقيت كما هي، لكن الإستنتاجات المبنيّة عليها تتغيّر بمرور الزمن. عندما تسأل أحدهم حول ما إذا كانت هذه الدراسة جيدة أم لا؟ الإجابة سـتعتمد على المعتقدات الشخصيّة لهذا الشخص.
وختم ديتو حديثه حول هذا الأمر بالقول: ’’يمكن أن نلحَـظ هذا السلوك المدهش للمرء، يظنّ الجميع بأنّ بحث أو دراسة ما تكون أفضل بكثير بالنسبة له عندما تدعم وجهة نظرهُ الشخصيّة، ويظنّون بأنّها أقل فعّالية وفائدة عندما تدعم وجهة النظر المعاكسة!‘‘.
هل هنالك أرضيّة مشتركة؟
إذا لم يتّفق اللّيبراليّون والمحافظون على أبسط المبادئ الأساسية، هل هناك أمل بإيجاد أرضيّة مشتركة لحل هذا الطريق السياسي المسدود؟
يقول البروفيسور بهذا الشأن: ’’كِـلا الحزبين عبارة عن نسخة طبق الأصل من بعضهما البعض. كِـلا الطرفين على قناعة بأنّ الطرف الثاني هو الشر بعينِـه. لكن لو نظرت في الحقيقة، ولو تفحّصت الأمر بتركيز، سـتجد أنّهم جميعًا يتصرّفون بطُـرقٍ متماثلة‘‘.
اللّيبراليّون والمحافظون لديهم بعض المبادئ الجوهريّة المشتركة، وهي: مساعدة المحتاجين وتحقيق العدل.
هنالك أحداث يمكنها أن تجذب الطرفين لبعضهم حول سبب مشترك. إطلاق النار الذي حصل في تشارلستون سنة 2015 أدّى إلى تضاؤل الدعم لرفع علم الكونفيدراليّة، بغضّ النظر عن خطّ التوجّه السياسي. هجمات الحادي عشر من أيلول – سبتمبر أدّت إلى دعم غير مسبوق للأعمال العسكريّة والتدابير الأمنيّة، والتي كانت من الأمور مستحيلة الحدوث في السياسة قبل ذلك.
ختامًا؛ يضيف البروفيسور ديتو: ’’أنا مهتمٌّ جدًّا بكيفية جعل السياسة تقترب من التمدُّن، وكيفيّة جعل كل جوانب الصراع تفهم بعضها بشكلٍ أفضل، لإخماد نيران الصراعات السياسية… المشكلة الأساسية في عالم السياسة هو (قلّة الوعي الذاتي). إذا حقّق الناس المزيد من الوعي في التواضع، ووضعوا في إعتبارهم البدء بملاحظة أنّهم يفعلون نفس الأشياء التي يفعلها الطرف الآخر، ربما سـيساعد هذا كثيرًا في حَـلحلَة الأمور‘‘.
المصـدر: هنا