مقال البروفسورة إنجلا دكويرث
هناك الكثير مما لا نعرفه عن سيكولوجيا الإهتمام. وكم أود لو أننا علمنا ـ على سبيل المثال ـ لماذا يرى بعض الأشخاص، ومن ضمنهم أنا، أن الطبخ هو موضوع ممتع، بينما آخرون كُثر لا يعنيهم الأمر كثيراً؟ ولماذا ينجذب مارك فيتري للمساعي الإبداعية؟ ولماذا يحب رودي جينز الأنشطة الرياضية؟ مثل الكثير من الأشياء التي تحيط أو المتعلقة بنا فان تفسيرها يعود في جزء منها إلى الوراثة أو لخبرة حياتية، وهي تفسيرات لا أستطيع أن أجزم بها. لكن البحوث العلمية عن تطور الإهتمام القت الضوء على هذا الموضوع. إحساسي هو أن هذه الحقائق الاساسية ليست مفهومة على نطاق واسع لسوء الحظ.
فما يفكر به أغلبنا عندما نعتقد أن الشغف هو إكتشاف فجائي، هو اللقمة الأولى لسمك الموينير، عندما تعطيك نتاج خبرة كل السنوات التي قضيتها في المطبخ… الغطس تحت الماء في محاولتك الأولى للسباحة والخروج منه بحدس أنك ستكون بطلاً أولمبياً يوما ما. إنهاء رواية (الحارس في حقل الشوفان) والإعتقاد بعدها أن قدرك هو أن تصبح كاتباً. لكن اللقاء الأول، مع ما يمكن أن يقودك في النهاية إلى شغف حياتك، هو بالضبط كمشهد الإفتتاح في رواية طويلة وأقل دراماتيكية.
بالنسبة لشخص بعمر الثلاثينات على موقع الردت لديه “إهتمام عابر بكل شيء” و”بدون وجهة وظيفية”، هذا ما سوف يقوله العلم عنه: الشغف بعملك هو قليل من الاكتشاف، لكنه متبوع بكثير من التطوير، ويليه عمر كامل من التعمق.
دعوني أشرح لكم الأمر:
اولاً وقبل كل شيء، فأن من المبكر جداً في فترة الطفولة أن نعرف ما نريد أن نكون عندما نكبر. دراسات على مدى طويل تتبعت الآلاف من الناس عبر سنوات أظهرت أن معظم الناس ينجذبون فقط للإهتمامات المهنية، وليس لغيرها، تقريباً في الوقت الذي يصبحون فيه في المدارس المتوسطة. وهذا بالتأكيد فقط النموذج الذي رأيت في مقابلاتي البحثية، وهذا أيضاً ما وجدته الصحفية هيستر ليسي في مقابلاتها مع “الناجحين الكبار”. ومهما يكن الحال، فتذكر أن من غير المحتمل أن يملك تلميذ الصف السابع ـ وحتى من كان نموذجاً مستقبلياً للعزم والإصرار ـ شغفاً بيناً تماماً في مثل هكذا عمر. فتلميذ المرحلة السابعة قادر فقط على أن يبدأ بتشخيص ما يحب وما لا يحب.
ثانياً، الإهتمامات لا تُكتشف من خلال الإستبطان. بدلاً من ذلك فأن الإهتمامات تُحفز بالتفاعل مع العالم الخارجي. فعملية أكتشاف الإهتمام قد تكون فوضوية، أستكشافية وغير فعالة. وهذا لأنك لا تستطيع حقاً التنبؤ بيقين بما الذي سيثير أو لا يثير إهتمامك. وأيضاً أنت لا تستطيع ببساطة أن تُرغم نفسك على حب الأشياء. وكما لاحظ جيف بيزوز أن “واحدة من أكبر الأخطاء التي يرتكبها الناس هو أنهم يحاولون إجبار أنفسهم على إهتمام ما.” وبدون التجريب لن تستطع أكتشاف أي الإهتمامات ستتم المواظبة عليها وأيها سيتم إهماله.
والمفارقة هي أن الأكتشاف البدائي للإهتمام غالباً ما يكون غائباً عن نظر المكتشف. بمعنى آخر، عندما تبدأ بالإهتمام بشيء ما فأنك قد لا تدرك حتى ما الذي يجري. فمشاعر السأم غالباً ما تكون مُدركة من قبل الذات، تعرفها وتشعر بها، لكن عندما يُصرف الأنتباه لنشاط أو فعالية جديدة، فأنك قد تملك القليل من الإدراك الذاتي لما يحدث لك. هذا يعني أن سؤال نفسك بحدة كل بضعة أيام عما إذا ما وجدت شغفك هو سلوك غير ناضج.
ثالثاً، إن ما يتبع الأكتشاف الأولي للإهتمام هي مرحلة أطول وأكثر فعالية من مراحل تطور الإهتمام. وبشكل حاسم فأن التحفيز البدائي لأي إهتمام جديد يجب أن يكون متبوعاً بمواجهات متتالية والتي تُعيد تحفيز إهتمامك مرة بعد مرة.
وعلى سبيل المثال، رائد فضاء ناسا مايك هوبكنز الذي أخبرني مرة أن مشاهدة إطلاق المكوك الفضائي من على التلفاز في المدرسة الثانوية هو ما ألهمه في البدء لكي يلاحق إهتمامه بعد ذلك بالفضاء. لكنها بالتأكيد لم تكن مشاهدة واحدة لإطلاق مكوكي وإنما هي مشاهدات عديدة أمتدت لسنوات. وبعدها، بدأ مباشرة بالبحث عن المعلومات التي تخص وكالة الفضاء ناسا وكذلك “كل معلومة قادته إلى معلومة أخرى وهكذا دواليك “.
أما بالنسبة لإستاذ الصلصال وارن مكينزي، في صف السيراميك في الكلية، والذي دخله في البداية، لكون صفوف الرسم لم تحو شاغراً، وتبع ذلك أكتشافه لكتب تشكيل الصلصال للعظيم برنارد ليتش، ثم بعدها فترة تدريب لعام كامل مع ليتش نفسه.
واخيراً، فأن الإهتمامات تزدهر عندما يقف وراءها مجموعة من الداعمين، من ضمنهم، الوالدين والمعلمين والمدربين والرفقاء، لكن لماذا هو مهم وجود هؤلاء الأفراد؟ لأنهم أولاً، يجهزون الفرد بالتشجيع والتحفيز المستمر، وكذلك بالمعلومات اللازمة لزيادة الرغبة في إهتمام أكثر وأكثر. والسبب الآخر، والأكثر وضوحاً، هو أن التعليقات وردود الفعل الإيجابية تجعلنا نشعر بالسعادة والإقتدار والأمان.
ولدينا مثال آخر هو مارك فيتري، فأن هناك أشياء كثيرة أستمتع بقراءتها أكثر من كتبه عن الطبخ ومقالاته عن الطعام. فهو كان من من الطلاب غير المجتهدين خلال سنواته في المدرسة. فقد أخبرني “لم أجتهد أبداً في الأكاديمية.. لقد كنت ذلك الطالب الذي يجد الأشياء مضجرة.” ومالم يكن متوقعاً فأن مارك قضى مساءات أحد مبهجة عند جدته في مدينة فلي الجنوبية. يقول: “لقد طهت كرات اللحم واللزانيا وكل تلك الأشياء اللذيذة فكنت دائماً أحب النزول والتوجه مبكراً لمساعدتها. في ذلك الوقت كنت في عمر الحادية عشر تقريباً وبدأت أريد عمل هذه الأشياء في المنزل.”
وفي عمر المراهقة، عمل مارك بوظيفة جزئية كغاسل للأطباق في مطعم محلي. “لقد أحببت ذلك العمل وعملت بجد أيضاً.” لماذا؟ أكيد أن جمع المال كان أحد المحفزات، لكن السبب الآخر هو تلك الصحبة التي حظيت بها في المطبخ. “لقد كنت في ذلك الوقت كالمنبوذ، كنت غريباً، متلعثماً، في المدرسة كانوا يعدونني غريب الأطوار، هكذا كنت، لكني هنا حيث أغسل الأطباق وأرى الرجال يطهون عندما أكون أعمل، لقد كنت أستطيع الأكل، كلهم كانوا لطفاء وأحبوني”.
الآن، وحينما تقرأ كتب مارك للطبخ، ستتأثر من عدد الأصدقاء والمرشدين الذين أستطاع أن يكسبهم في عالم الطهو. فمن الصعب أن تجد الكثير من الصور لمارك وحده لو قلبت بين الصفحات. ثم اقرأ الأهداء لـ Il Viaggio Di Vetri الذي يمتد على صفحتين ويضم أسماء الناس الذين ساعدوه خلال مسيرته المهنية، مع هذه الملاحظة “أمي وأبي، لقد ساعدتماني دائماً على إيجاد طريقي وارشدتموني خلاله. لن تعرفوا أبداً كم أقدر وقفتكم هذه. ساحتاجكم دوماً.”
هل العملية تبدو كأنها “جرجرة” للشغف الذي لا يأتينا دفعة واحدة، وبدون إحتياج للتطوير الفعال؟ ربما تكون كذلك. ولكن الحقيقة تقول أن إهتماماتنا المبكرة هشة، وغير واضحة المعالم وبحاجة لرعاية حيوية مستمرة وصقل دائم.
نهاية الجزء الأول
المصدر:-
https://www.psychologytoday.com/blo…