الرئيسية / أدب / أسرار مؤسسة ”راند“ الخَفيّة

أسرار مؤسسة ”راند“ الخَفيّة

ترجمة: سيف محمود علي

يتضارب الجدل حول هذه المؤسسة فـحيناَ يُسخّف من شأنها كما في كتاب ”Dr. Strangelove“ حيث توصف على أنها ”مؤسسة طيف“ في حين أنها تواجه الإنتقاد الشديد من قِبل البرافدا”صحيفة شهيرة تابعة للاتحاد السوفيتي” فتصفها بـ“أكاديمية الموت والعِلم الأمريكية“ فما هي حقيقة هذه المؤسسة وما دورها؟

سُلِط الضوء على هذه المؤسسة بعد أن سُرقت ملفات من البنتاغون حيث أُكتُشف أن مؤسسة RAND قد لعبت دوراً غامضاً في السياسات العامة للولايات المتحدة مُنذ تأسيسها عام 1946، حيث إستعرض آليكس آبيلا تاريخ هذه المنظمة وتأثيرها الخارق والواسع على الصعيد العالمي في كتابه ” Soldiers of Reason: The RAND Corporation and the Rise of the American Empire، جنود العقل، منظمة راند ونهوض الإمبراطورية الأميركية“.
وبالفعل يُناقش المؤلف دور العاملين في مؤسسة راند بأنهم ”المؤيدين والمُخططين والخُدّام لـ أميريكا التوسعيّة“
فكيف حدث هذا؟

بنهاية الحرب العالميّة الثانية، لاحظت القوة الجويّة أنها بحاجة إلى نوع من الخبرات العِلمية والإقتصاديّة، والتي يُمكن الإستناد عليها أيام الصِراع لـ فِهم الأسلحة الجديدة، وتحليل التكاليف، وتقييم التدريب والعمليات القتالية، وإنتقاء الأهداف، وإلى هنا فقط تطورت كمؤسسة غير ربحية، كإستشارية مدنية تحت عنوان ”مشروع راند RAND Project“ كإختصارٍ مُشوه لكلمتي ”Research and Development“ البحث والتطوير، لتنفيذ دراسات بعيدة المدى.

ولو أمكننا أن نّصِف الجنرال كورتس لي ماي”واحد من اكبر الجنرالات الامريكان في الحرب العالمية الثانية وما بعدها” فإنه عبقري وعالِ المسؤولية -بالرغم من تراجعه السياسي – لكونه قام بتحييد المنطمة وحمايتها من تدخلات البيروقراطيين وكبار الضُباط، عازماً على جعلها حُرة الإرادة في تحديد اجندتها البحثية الخاصة.

ففي عام 1948 وبمنحة من مؤسسة فورد أصبحت راند مُنظمة مستقلة لاربحية، لها القُدرة على تنفيذ أي بحث لاربحي تختاره، ولكن مازالت القوة الجوية الزبون الأساسي لها، فعلى طول الخمسينيات، كانت السياسة العسكرية والميزانيات الدفاعية، تتخصص لتعزيز القوة النووية، والقوة الجويّة كانت المسؤولة عن هذه الأسلحة الهائلة الأهمية، ومن وجهة نظر المراكز البحثية ”Think Tank“* فقد كانت مبادرة ”Flyboys“ نمطاً مُستنيرا وبالغ الكرم، حتى قبل أن تبدأ راند بتنفيذ دراسات لصالح مكاتب متنوعة في البنتاغون، خلال إدارة كينيدي.

”لقد عملت لصالح راند كمحلل أمن وطني من منتصف الثمانينيات إلى منتصف التسعينيات وكعادة البشر فنحن نتحدث عن تلك الأيام الخوالي بشئ من الحيرة والحنين، وبفضل ميزانيات الحرب الباردة الهائلة التوسع، كانت القوة الجوية ترمي أكوام من المال كل عام عند مدخل مؤسسة راند، حيث سُمح لهذه المُنظمة بإنفاق هذه الأموال على هواها، على الرغم من أن معظم هذا التمويل ذهب الى أبحاث لا فائدة منها، اتذكر تقريراً في فترة الستينيات عن ”الموت الأسود“ في القرون الوسطى مثالاً على جائحة مُجتمعية وعلاجها، بعضها أسهمت في إختراع خطة نووية، والسوفيوتولوجيا”مصطلح يشير الى دراسة كل ما يتعلّق بالاتحاد السوفيتي وحكوماته”، وأنظمة تحليلية(ولعل الأخيرة هذه أكثر إسهامات راند لـزبائنها العسكريين)، محللون آخرون طوروا أهدافاً بعيدة المدى، مثل نظرية الألعاب، ونظرية الإختيار العقلاني“.

نهاية الأربعينيات والخمسينيات كانت العصر الذهبي لمؤسسة راند، فقد كان 29 من مرشحي جائزة نوبل موظفون أو مُستشارون فقد كان مُعظمهم مرتبطين بشكل أو بآخر بهذه المؤسسة في تلك الفترة، ومن هذا يتضح لِمَ كان على أبيلا أن يُخصص جزءاً ضئيلاً عن تلك الفترة في كتابه، حيث دوّن كيف إستخدمت راند مجموعة مشوشة من المُتغيرات لتقييم كُلفة وكفاءة الأنظمة التسليحية، وكيف أنها نقّت النظريّات الإقتصادية والسلوكيّة للتنبؤ بإجراءات الخُصوم.

وفوق هذا كُلّه ركّز أبيلا إنتباههُ على واضعي الخُطط النووية مثل: توماس شيلينك، برنارد برودي، آلبرت وولستيتر، وهرمان كان، فمفهوم المُفردات التي طوروها يدل على جهودهم العبثية لإحتيال أمراً عقلانياً لإشعال حرباً نووية ومن هذا يتضح لنا كيف كانت طريقة تفكير النخبة السياسية والعسكرية الأمريكية للردع خلال الحرب الباردة، فقد كانت مُقاربات رانـد صارمة وكميّة بصورة لا معقولة.

وحتى الآن فإن الدراسة الأشهر والأكثرضرراً في تاريخ المُنظمة أصلها مشروع عادي قام به وولستيتر والذي يتضمن تحديد وإختيار اهداف لقواعد خارجية لغرض قصفها بواسطة القاذفات الاستراتيجية بأمر من قيادة القوة الجويّة، ومن قدراته العالية التعقيد في التحليل، والتي تشمل كل شئ، من كفاءة مقاتلي الدفاعات الجويّة إلى نسبة ضخ المياه من حنفيات الهيدروليك في الخزانات، ومن هذا يظهر الرأي الحاسم بأن الردع النووي كان أضعف مما كان يُعتقد سابقاً، حيث كان يعتمد على قوة الإنتقام لتفادي هجوم العدو، وهذا بالضبط العمل البطولي تقنياً ونظرياً التي كانت تقدمها راند في ذروة مجدها، فالتقرير الذي قدمه وولستيتر جعل الردع النووي قوياً جداً، وهكذا ساعد هذا التقرير“جدلاً“ الحِفاظ على السلام بين القوى العُظمى.

فالقُراء لديهم إهتمام معقول بالأيام الخوالي لمؤسسة راند، وهذا الإهتمام لكون هذه المنظمة كانت تُنفذ أغلب الأبحاث السرية في تلك الفترة، كونها كانت تتوارى عن الإعلام، مما أنشأ مناخاً غامضاََ من السرية، فوثائق البنتاغون لم توضح شيئاً سوى العلاقة المُتزعزعة بين راند والصحافة، والتي لم تتحسن حتى الثمانينيات، حيث قامت راند بتنفيذ عِدة مشاريع علنيّة، حيث تتنافس للحصول على تمويل البنتاغون لشركات الإستشارات الضخمة، والهرولة خلف المِنح، فـ راند تتوق الى شد الإنتباه الإعلامي كأي مؤسسة إستشارية، ولكن تبقى تُلاحقها أعمالها التدميرية البالغة السِريّة .

وأما ما يتبقى من تاريخ مؤسسة راند، تتوضح خيبة الأمل في روايات أبيلا عن فترة حرب فييتنام، حيث أن محللو راند، وبالذات ما يُسمى بـ ”ويز كيدز Whiz Kids* التابعة لـروبرت ماكنمارا“ حيث يمتلئ البنتاغون بوثائق عن هذه المجموعة، حيث قامت هذه المجموعة بتخطيط استراتيجيات القصف، وساعدت على تهدأة الحملات العسكرية، وتقدير الميزانيات، بالإضافة الى ذلك فإن هذه المجموعة الأستشارية قد مارست العديد من الأبحاث المُربكة داخل الأراضي الفييتنامية، حيث نفذت عمليات هائلة في سياغون، والنتيجة جبالاً من التقارير والمُذكرات والواقعة تحت طائلة السِريّة الى الآن، حيث يجب أن تُجمع ليتم إدخالها ضمن تاريخ الصِراع، أما أبيلا فيبدو أنه تجاهل هذه الوثائق كُليّاً، لكنه أوضح أن حقول البحث في المنظمة الشديدة التدقيق تقترح أن الحرب لا يُمكن النصر بها؛ ومن بين تلك الأبحاث البحث الذي أجراه جورج باول عن أخلاقيات ودوافع الفيت كونغ”المقاومة المسلحة الفيتنامية” وهو التقرير المتشائم الشهير الذي أُعلن عشية الحرب البرية الأمريكية 1965.

ومنذ نهاية السبعينيات من القرن الماضي كرست راند نصف جهودها نحو السياسة الداخليّة، وبالتحديد في حقل إقتصاديات الصحة، فقدمت بذلك عملاً مُبتكراً وغير معهود، ولكن هنا أيضاً يضيق الحساب بـ أبيلا وبالطبع فإنه من الصعب إضفاء بريقاً على سنينٍ عِدّة من تقدير قيم رواتب التقاعد لعمال يابانيين متقاعدين، لكن لايزال هناك ما يكفي من البريق في عمل مؤسسة راند في الكتاب المؤثر الذي يروي فيه أبيلا بطريقة يحث بها قراءه ذوو التفكير المعقد على أن ”الحبة الحمراء التي ستكشف العالم السِري الذي يحكمنا جميعاً“. حيث يستمر بالسرد وبطريقة مؤامراتية وخصوصاً بتأكيده على أن راند رعت مبادرات سياسية للمحافظين الجُدد، وعلى سبيل المثال فإن أبيلا يستعرض الكثير من الوقائع بأن وولستيتر والذي ترك راند منذ 1963 فضل أن يأخذ خطاً متصلباً ضد السوفييت في الثمانينيات، ألا أن عهد ريغان وكما كان معروفاً على مر تاريخ راند، فإن محاربي الحرب الباردة في المؤسسات البحثية كانوا أقل عدداً من المُعتدلين والواضحين بإنفراجٍ نحو السوفيوتولوجيين.

إن جهود أبيلا بربط راند بـهؤلاء المُحافظين الجُدد كانت واهية، هؤلاء الذين دفعوا نحو حرب العراق، ومن المؤكد أن زلماي خليلزاد كان عُضوا في راند وكان تلميذاً لـ وولستيتر بجامعة شيكاغو، ألا أن زملاء خليلزاد في راند كانوا المتحكمين في تعيينات إدارة كلينتون، وخليلزاد كان متواطئاً مع هؤلاء الأعضاء في إدارة كلينتون على الدفع نحو توسع الناتو، وهي سياسة مرتبطة بحماقة أو حكمة مؤسسة راند، وهذا أعظم إنجاز للطموح التوسعي اللإمبراطورية الأميركية منذ نهاية الحرب الباردة.

وبالنسبة لمُحللي مؤسسة راند وكما هو الحال عند مُحللي المُخابرات المركزيّة ووزارة الدفاع، فإنهم فطِنوا لمخاطر قرع طبول الحرب على العراق وأنه سيكون أسهل من المنافع التي يستجلبها، ومن المعلوم أنه في فترة زعامة قيادة الحرب على العراق، فإن الصف الأول من خُبراء الإرهاب لدى المؤسسة كانوا يُنادون بأن الغزو الأميركي سيكون كارثيّاً، وكما يعرف أبيلا فإن لراند أبحاثاً توضح بأن ”الإحتلال الأميركي والتمرد المُضاد سيستمر في العراق أصعب وأطول مما كانت تتوقعه إدارة بوش“.

أبيلا يُعطي صورة واضحة وليس على إعتبار معادي، فبرأيه ان الوضع الحالي للمؤسسة ”متزعزع جداً“ وكأي مؤسسة عريقة وناجحة فإنها تفتقر لـ ”لثقافة تحليل ذاتي وانعكاساتها“ وله الحق بأنه يؤكد بأن أيام المجد لـ راند أصبحت خلفها، وتظهر إستنتاجات أبيلا في كتابه كمؤلف من هذا الزمان، وكسياسي تقدمي قام بالسُخرية من الجهود العسكريّة لـ ”الترويج للقيم الأميركية في الخارج“ ويتفق مع مقتدى الصدر الذي كان يقول دائماً وبإصرار :“ يجب على الأميركان ان ينظروا للعراقيين على أنهم عراقيين وليسوا اميركيين تحت التدريب“.

ولكن لا شئ قد يُحول شيئاً مثالياً إلى شيء واقعي أكثر من سياسة خارجية تدخليّة في الجهات المُغايرة، وربما يكون أبيلا مُغتاضاً من سياسة بيل كلينتون“ البرغماتية الويلسونية الحديثة“* و برأيه أن حرب إدارة كلينتون ضد يوغسلافيا كانت تدخلاً مُبرراً بذرائع رسميّة كانت في أفضل أحوالها مضللة ومبالغٌ فيها، ونُفذت بلا تفويض من الكونغرس ولا الأمم المُتحدة، ضد نظامٍ في حين أن ”قُطّاع الطرق“ هؤلاء لم يُقدموا أي دليل على تهديدٍ مُقنع ضد الولايات المُتحدة.

وعلى أيه حال، فربما قد تبقت نوع من الحياة في ”رانــد“. فعلى مدى أكثر من نصف قرن بعد الحرب العالمية الثانية، تشبثت السياسة الخارجية الأميركية بعناد أن تكون المُهيمنة عالميّاً، وحتى وإن أخذنا بعين الإعتبار العنوان الثانوي لكتاب أبيلا ”الإمبريالي“ , وهذا يضع اللاعب المُتحكم السابق بالقوة الجوية تحت أنظار وسائل الإعلام، فبعد دورتين من رئاسة حورج بوش الإبن ، أضحى أبيلا عدائياً نوعا ما ضد المجاميع البحثية التي تقوم بـ دور الإستشارة للحكومة الأميركية، ويُشك أن هذه العدائية إتجاه مراكز البحث التي يستشيرها البنتاغون ستتضائل لو كان طاقم العمل مُعيناً من قبل أوباما.

*يُطلق على المؤسسات البحثية لفظ Think Tank أي بمعنى ”خزين الأفكار“ وهو مصطلح سياسي يعني المؤسسات البحثية التي تتخصص بـ تنفيذ أبحاث وإستشارات تخص مواضيع مثل السياسات الإجتماعية والأستراتيجيات السياسية والتجييش والإقتصاد والتكنولوجية.

*Whiz Kids: الأطفال الحذقين/ هي مجموعة ضمن مؤسسة راند شكلها روبرت ماكنمارا في وزارة الدفاع في الستينات مهمتها إدارة وتنظيم الحرب النووية.

*الويلسونية الحديثة: Neo- Wilsonianism هو مصطلح يخص السياسة الخارجية ويعود إلى الرئيس الأميركي وودارد ويلسون وتتلخص بمبادئه ال14 التي كان يعتقد بأن تنفيذها سيجعل العالم مُسالماً أكثر ومن بين هذه المبادئ:
المساعدة في نشر الديموقراطية.
المساعدة في نشر الرأسمالية.
ضد الإنعزالية وعدم التدخل.
دعم الإمبريالية أي تفضيل التدخل لأجل زيادة المصلحة.

عن

شاهد أيضاً

كيف ربحت أنجيلا ميركل مقامرتها في استقبال اللاجئين

بقلم: فيلب اولترمان لموقع: ذا كارديان بتاريخ:30/آب/2020 ترجمة :رهام بصمه جي تدقيق: ريام عيسى  تصميم …

الجواز الأمريكي لا فائدة منه

يمكنني التنقل حيث شئت بجواز سفري الألماني. ولكن عدد الدول التي تسمح للأمريكيين بالدخول تكاد …