الرئيسية / تأريخ وتراث / من أين جاء قدماء الساميّين؟ بقلم إيغور ليبوفسكي

من أين جاء قدماء الساميّين؟ بقلم إيغور ليبوفسكي

من أين جاء قدماء الساميّين؟

بقلم د. إيغور بي ليبوفسكي

ملخّص دراسة

إنّ الموطن الأصلي لجميع الشعوب الساميّة القديمة، بما في ذلك العبرانيّين، ليس شمال الجزيرة العربيّة وفق الإعتقاد السائد حاليّا، بل شمال غرب ما بين النهرين. ففي حدود العام 6000-4000 ق.م. أجبرت كارثة بيئيّة حلّت بمنطقة البحر الأسود القبائل الهندو-أوروبيّة على الهجرة منها في جميع الإتّجاهات. وفي طريقهم إلى الجنوب والجنوب الشرقي، قام الهندو-آريّون بتهجير الحوريّين من شرق الأناضول أو الإندماج معهم جزئيّا. وبدورهم، قام الحوريّون ممّن إندمجوا مع الآريّين أولا بتهجير الساميّين الشرقيّين “الأكديّين” من حوض أعالي دجلة، وليعقب ذلك، في أواخر الألف الثالث ق.م. إحتلالهم لأراضي الساميّين الغربيّين “الأموريّين” في حوض أعالي الفرات. إنّ إشارة الكتاب المقدّس إلى حرّان لكونها الموطن الأصلي لإبراهام بمثابة دليل غير مباشر على تلك التغيّرات الإثنيّة. كما إنّ آخر موجة للساميّين الغربيّين “الآراميّين” في القرنين 12-11 ق.م. كانت نتيجة لتحرّكات الحوريّين والهندو-أوروبيّين أيضا في شمال غرب ما بين النهرين.

لقد كان الشرق الأدنى القديم مثالا لعالم تهيمن عليه الشعوب الساميّة. فقد كانت أكد، وبلاد آشور، وبابل، والفينيقيّين، وإسرائيل، والممالك السوريّة جميعا من نشاطات الشعوب الساميّة. وعلى الرغم من أنّ سومر، أول وطن في العالم، لم تكن من أصلٍ ساميّ، فإنّ سكّانها كانوا قد تمّ إستيعابهم بشكلٍ كامل، ومنذ عصورٍ قديمة، من قبل الساميّين، وأصبحوا جزءا لا يتجزّأ من عالمهم. وعلى صعيد آخر، نجد مصر التي لطالما قاومت الهيمنة الساميّة، لكنّها وعلى أيّة حال تبنّت لغتهم وثقافتهم في نهاية المطاف. تظهر الشعوب الهندو-أوروبيّة إلى المشهد فيما بعد. وأهم من ذلك أنّ أولى بلدانهم، بما في ذلك الإمبراطوريّة الحثيّة، بقيت في الأطراف، على الحدود الشماليّة والشرقيّة للشرق الأدنى. كما إنّ ذات الفكرة يمكن تطبيقها على الحوريّين، وهم شعب غير سامي قديم، لا تزال أصوله العرقيّة غير واضحة في وقتنا الحالي.

اليوم، تعتقد الأغلبيّة بأنّ الموطن الأصلي للشعوب الساميّة القديمة يجب أن يبحث عنه في الشرق الأدنى في واقع الأمر. ولكن أين يتوجّب علينا أن نبحث؟ في القرن العشرين، تمّ حسم الرأي بأنّ المنطقة الأكثر إحتمالا في كونها أصل الشعوب الساميّة هي شمال الجزيرة العربيّة. حيث يسمح موقعها الجغرافي، في مركز العالم السامي المعاصر، في طرح تفسير سهل لإنتشار تلك الشعوب في الشرق الأدنى. كما إنّ هذه الرواية مثاليّة لفهم إنتشار مجموعة اللغات الساميّة. ولصالح هذا الرأي، يتكلّم الناس عن الكميات الوفيرة من مخزون المياه الجوفيّة في شمال الجزيرة العربيّة، والتي بدونها لم تكن الآبار للقبائل البدويّة والرعويّة لتكون ممكنة. ويثبت هذا بأنّ مناخ هذه المنطقة في العصور القديمة، وكامل منطقة الشرق الأدنى في واقع الأمر، كان أكثر رطوبة بشكلٍ كبير.حيث أظهرت التنقيبات الأثريّة بأنّه وفي حدود 8-9 آلاف عامٍ خلت، قد هطلت أمطار غزيرة لدرجة أنّ الصحاري اليوم في النقب وشمال سيناء تمتّعت بحياة نباتيّة غنيّة وأنّ مستوطنات بشريّة قد وجدت فيها من قبل.

وبمرور الزمن، ونتيجة للتغيّر المناخي الذي إزداد جفافا، تحوّلت شمال الجزيرة العربيّة إلى صحراء، وقد كان هذا السبب الرئيسي لخروج القبائل الساميّة من موطنها الأصلي. ولكنّ لهذه الرواية المناسبة والمقنعة ظاهريّا خطأ واحد جسيم. لأنّ شمال الجزيرة العربيّة كانت قد أضحت صحراء قبل ما لا يقل عن 7000 عام مضت، أي قبل وقتٍ طويل من بدء الهجرات الجماعيّة للشعوب الساميّة. حيث تؤكّد البيانات الأثريّة بأنّه وبحلول الألف الخامس ق.م. كان مناخ الشرق الأدنى قد أضحى جافّا وبشكلٍ متزايد، ولهذا ترك السكّان وبشكلٍ تدريجي مستوطناتهم في شمال سيناء وصحراء النقب. كما إنّ حياة البدو في الجزيرة العربيّة اليوم، ما كانت لتكون ممكنة من دون الجمل، ولم يتمّ إستئناس هذا الحيوان إلاّ في القرن 11 ق.م. بإختصار، لم تكن الظروف المناخيّة لشمال الجزيرة العربيّة لتستجيب للإحتياجات المعاشيّة لمجموعات كبيرة من القبائل.

فضلا عن ذلك، توجد أدلّة مفصليّة أخرى بالضد من البحث عن موطن الشعوب الساميّة في شمال الجزيرة العربيّة. حيث تصوّر جميع الرسوم الجداريّة المصريّة القديمة الساميّين كشعوب ذات بشرة أفتح لونا، بالمقارنة مع المصريّين أنفسهم. وبالتالي، هذا يعني مجيئهم من مناطق تقع إلى الشمال حيث تكون إشعاعات الشمس أقلّ حدّة عمّا هي عليه في مصر أو شمال الجزيرة العربيّة.

كما بحث الناس عن موطن الشعوب الساميّة القديمة في فلسطين، وسوريا، ووسط ما بين النهرين، لكنّ غياب الإستمراريّة في الطبقات الحضاريّة الإنتقاليّة يجعل هذه الإفتراضات موضع شكّ. كما توجد هنالك رواية أكثر غرابة، تضع موطن الساميّين الأصلي في أراضي الصحراء الكبرى اليوم. وقد كان المساندون الأوائل لهذه الفكرة من اللغويّين وقد مكّنهم ذلك من تفسير العلاقة بين اللغات الساميّة ولغات البربر، والكوشيّين، والتشاديّين، وقدماء المصريّين. في الواقع لم تكن الصحراء الكبرى أرضا قاحلة على الدوام، لكنّ المشكلة تكمن في حقيقة أنّها كانت قد اضحت صحراء قبل أن يتصحّر كامل شمال الجزيرة العربيّة. وبذلك، يكون واضحا بأنّ الهجرات الساميّة قد حدثت في فترة بالكاد لا تختلف عن المناخ الحالي في الشرق الأدنى. وعلاوة على ذلك، فإنّ أهم تلك الهجرات، نقصد هجرات الأموريّين والآراميّين، كانت قد حدثت في العصور التاريخيّة حيث كان التدوين موجودا. على الرغم من أنّ الدليل الذي يكشف عن المكان الذي أتى منه الساميّون لا يزال غير واضحا حتّى يومنا هذا، فإنّه لا يزال في إمكاننا إستعمال المصادر الأثريّة والمدوّنة لنؤكّد بشكلٍ جازم بأنّ الساميّين لم يأتوا إلى وسط ما بين النهرين، وسوريا، وفلسطين من الجنوب “الجزيرة العربيّة”، بل من الشمال (شمال غرب ما بين النهرين) ومن الأحواض العليا للنهرين العظيمين في غرب آسيا، دجلة والفرات.

هذا ويعيّن الكتاب المقدّس موطن آباء الشعب اليهودي بشكلٍ واضح، ويحدّد المنطقة المحيطة بمدينة حرّان، والتي كانت تقع على بعد حوالي 30 كم إلى الجنوب الغربي من مدينة شانلي أورفا التركيّة الحاليّة (الرها أو إديسّا القديمة)، ليس بعيدا عن الحدود مع سوريا. حيث تظهر النصوص التوراتيّة وبشكلٍ لا لبس فيه بأّنّ مدينة أور في سومر، التي تحرّك منها إبراهام إلى كنعان (فلسطين)، لم تكن المكان الذي ولد فيه. وعلاوة على ذلك، فإنّه وفي الطريق إلى كنعان، فقد توقّفت عائلة إبراهام ووالده تارح، لوقتٍ طويل في حرّان، مسقط رأسهم. وهناك توفّي تارح وإنتقلت القيادة القبليّة لإبنه إبراهام. وفيما بعد، يشير الكتاب المقدّس مرّة أخرى إلى أنّ الأرض الأم لأجداد اليهود القدماء ليست كنعان، بل حرّان، في شمال غرب ما بين النهرين. كما إنّ سفر التكوين يمنح تلك المنطقة إسمين هما: آرام نهريم وبادان آرام. ومن الواضح، بإنّهم كانوا قد أمّنوا منطقة حرّان بعد وصول الآراميّين. وبالتحديد هنا نرى بأنّ إبراهام أرسل خادمه الأمين ليعثر له على زوجة لإبنه إسحاق، لأنّه لم يرغب في إنشاء علاقات مع الأجانب في كنعان. ولرغبتها في حماية إبنها الحبيب من إنتقام أخيه عيسو، فقد أرسلت رفقة “ريبيكا” أم يعقوب، إبنها إلى أقاربهم في موطنهم. ومثل إبراهام، لم يرغب إسحاق في الدخول في علاقات عائليّة مع الأجانب في كنعان. ولا يخفي الكتاب المقدّس شعور والدي عيسو بالإحباط والألم بسبب إقترانه بإمرأة محليّة.

لقد كشفت التنقيبات الأثريّة المكثّفة في فلسطين عن أدلّة كافية بأنّ الشعوب الساميّة الغربيّة، الكنعانيّين، قد جاءوا من الشمال أيضا في حدود الألف الرابع – الثالث ق.م. وعلاوة على ذلك، فإنّ الشعوب السابقة للكنعانيّين – ممّن حملوا ما يسمّى بالحضارة الغسوليّة – والتي ظهرت في فلسطين في حدود العام 4000 ق.م. قد كانوا على الأرجح من الساميّين الغربيّين الذين أتوا إلى كنعان من الشمال أيضا.

في نهاية الألف الثالث ق.م. بدأت جماعات كبيرة من الشعوب الساميّة الغربيّة، وخصوصا الأموريّين، بالإستيطان الجماعي في بلاد ما بين النهرين، وسوريا، وكنعان، وأحكموا سيطرتهم على معظم المدن، ليأسّسوا دويلاتهم الأموريّة الخاصّة. وقد كانت بابل، إحدى تلك الدويلات على سبيل المثال، خلال عهد الملك الشهير حمورابي في القرن 18 ق.م. وتتحدّث الأدلّة الماديّة والمصادر المكتوبة التي تمّ جمعها خلال العقود المنصرمة في صالح حقيقة كون الأموريّين لم يأتوا من شمال الجزيرة العربيّة، أو منطقة الصحراء السوريّة، كما كان يعتقد في السابق، بل من الشمال، من شمال غرب ما بين النهرين.

فيما وفدت موجة الهجرة الكبيرة الثانية من الشعوب الساميّة الغربيّة، والمعروفة بإسم الآراميّين، إلى سوريا ووسط وجنوب ما بين النهرين بعد ذلك بكثير، في حدود القرن 12-11 ق.م. وبالحكم على إتّجاه هجراتهم، فإنّ مكان خروجهم مرّة أخرى هو شمال غرب ما بين النهرين.

من المعروف جيّدا بأنّ أوّل دولة ساميّة، أكد، كانت قد تأسّست في وسط ما بين النهرين، من قبل الساميّين الشرقيّين وليس الغربيّين. وقد قاموا فيما بعد بإخضاع جارتهم الجنوبيّة سومر. كما إنّ تاريخ العلاقات بين هاتين الدولتين يؤكّد بأنّ الأكديّين لم يأتوا من الجنوب، بل من الشمال، كما هو حال جميع الساميّين الغربيّين.

فما الذي كانت تمثّله منطقة شمال غرب ما بين النهرين في الواقع – موطن الساميّين الأم؟ إنّ هذه المنطقة المهمّة، كمقاطعة، مفصولة عن بقيّة أجزاء هضبة الأناضول بسلسلة جبال طوروس المنيعة من الشمال وحتّى الشرق، ومن الغرب بواسطة جبال الأمانوس “جبال النور”. وقد كان لهذا الحصن الطبيعي الثلاثي الجوانب تأثيرا عظيما على حياة الشعوب خلال فترات التأزّم. وحتّى يومنا هذا، تحمي الجبال المحيطة بشمال غرب ما بين النهرين على شكل شبه دائرة المنطقة من رياح الشمال الباردة، لتجعل المناخ المحلّي أخف وأكثر دفئا مقارنة مع أجزاء الأناضول الداخليّة. فهذه المنطقة غير محميّة فقط في الجانب الجنوبي، أي جانب الأراضي السوريّة المنخفضة. كما تزوّد أحواض نهري دجلة والفرات العليا، وكذلك روافدهما، هذه المنطقة بالمياه الوفيرة. كما تسمح الترسّبات الكافية، بالإضافة للتضاريس المنبسطة نسبيّا وخصوبة التربة بممارسة النشاط الزراعي وتربية الماشية، حتّى على بعد مسافة كبيرة نسبيّا من مجاري الأنهار. وبهذا كانت هذه الأراضي ملائمة بشكلٍ مثالي لحياة الشعوب القديمة من جميع الجوانب. ولهذا فليس مصادفة أن نرى القطن والمحاصيل المحبّة للدفء والتي تتطلّب كميّات وفيرة من المياه وأراضٍ جيّدة تحصد اليوم في هذه المنطقة. اليوم، يقع موطن الساميّين القدماء بالكامل تقريبا في تركيا الحالية. حيث تقع المدن التركيّة مثل غازي عنتاب، وكلس في الجزء الغربي من البلاد، ومدن شانلي أورفا وماردين في الجنوب، وباتمان ودياربكر وأديامن في الشمال. كما لو أنّه مصير موطن الساميّين الأصلي أن يتحوّل خارجا ليقع على الحدود الشماليّة للعالم السامي اليوم. فمن هذه المنطقة بالتحديد بدأ الساميّون في النزول جنوبا، بمحاذاة وديان نهري دجلة والفرات، ومواصلين طريقهم على طول الساحل الشرقي للبحر المتوسّط. ولكن ما الذي أجبرهم على هجر أرضهم المباركة؟ ففي النهاية، عانت الأراضي الجديدة ذات مناخ أشدّ حرارة وأكثر قسوة، والمضغوطة بالصحراء السوريّة الكبيرة، وبشكلٍ مزمن من قلّة الأمطار. لكنّ المرجح أن عاملين قد ساهما في ذلك بالدرجة الأساس: النمو الطبيعي، وتقدّم الهندو-أوروبيّين والحوريّين من الشمال. ولكنّ هذا بدوره يجلب لنا مشكلة أخرى مرتبطة بموطن الشعوب الهندو-أوروبيّة.

يعتبر البحث عن مهد الحضارة الهندو-أوروبيّة مسألة أكثر تعقيدا من موطن الساميّين الأصلي. حيث إفترض العديد من الباحثين وقوعه في أماكن مختلفة وبعيدة بشكلٍ كبير عن بعضها البعض: بعضهم وضعه في أراضٍ تقع ضمن بولندا اليوم، وآخرين في البلقان، وآخرين في إيران أو أواسط آسيا. ولم تكن هذه الآراء المتباينة وليدة الصدفة. فقبل ما لا يقل عن 1500-2000 عام مضت، إنتشر الناطقون باللغات الهندو-أوروبيّة على مساحاتٍ شاسعة من أوروبا وآسيا – من إسبانيا غربا، وحتّى حدود التيبت شرقا، ومن المحيط المنجمد الشمالي شمالا وحتّى المحيط الهندي جنوبا. لكن من أين بدأت حركة أسلاف هذه الشعوب وأيّة قوّة أجبرتهم على ترك موطنهم الأصلي؟ لقد ترك لنا كتّاب الرومان والإغريق القدماء قدرا مهمّا من المعلومات عن تحرّكات الشعوب الجرمانيّة والسلافيّة، السكيثيّين والسارماتيّين، فيما تضمّ المصادر المصريّة القديمة معلومات عن الحثيّين وشعوب البحر. كما كان البابليّون والآشوريّون على صلات بالميديّين والإيرانيّين والسميريّين وشعوب الأرارات.

في واقع الأمر، يبدو تاريخ قدماء الرومان والإغريق كجزء واحد فقط من تاريخ الشعوب الهندو-أوروبيّة ككلّ. ومن ثراء هذه المعلومات المجتزأة والمعزولة التي يوفّرها لنا الكثير من الكتّاب من عصور مختلفة، يظهر بأنّ مكان خروج الشعوب الهندو-أوروبيّة جميعها من موطنهم الأمّ، والذي يقع في مكانٍ ما من المنطقة القريبة من البحر الأسود، بالتحديد على شواطئه الشماليّة والغربيّة. وعلى الأرجح، فإنّ المنطقة الرئيسيّة التي عاشت فيها الشعوب الهندو-أوروبيّة في عصور ما قبل التاريخ هي ذات المنطقة التي تشغلها اليوم مياه البحر الأسود. فقبل حوالي 8000 عام تقريبا، لم يكن البحر الأسود وبحر الآزوف المعاصرين موجودين على الإطلاق. حيث كانت المنطقة مشغولة بتجويف كبير يقع تحت مستوى سطح محيطات العالم بدرجة أساسيّة. وفي ذلك الوقت، كانت هناك بحيرة عذبة كبيرة في المنطقة، ولكنّها وبسبب حجمها فقد ضاعت مع مياه البحر الأسود اليوم. وقد كانت العديد من الأنهار الكبرى تصبّ في تلك البحيرة، بما في ذلك نهر الدانوب، ودنيستر، وبوغ، ودنيبر، والدون، والكوبان، ونهر كيزيل إرماك “النهر الأحمر”. لقد جعلت غزارة المياه العذبة، والمناخ المعتدل، والأراضي المنبسطة نسبيّا منها منطقة مفضّلة لتلك الشعوب، تماما كما هو حال موطن الساميّين الأصلي في شمال غرب ما بين النهرين. ومع ذلك، وبسبب النشاطات الزلزاليّة في الفترة بين الألف السادس-الرابع ق.م. حصل هبوط في مستوى الأرض في المنطقة التي تغمرها مياه البسفور اليوم، لتندفع المياه من البحر المتوسّط نحو تجويف البحر الأسود. ولقد أدّت تلك الكارثة الجيولوجيّة إلى حدوث كارثة بيئيّة، إذ تحوّلت البحيرة العذبة السابقة إلى بحر مالح، وفاضت تدريجيّا لتغرق الأراضي التي عاشت عليها الشعوب الهندو-أوروبيّة فيما مضى. لقد إستغرقت العمليّة عقودا، وربّما مئات السنين قبل أن تملأ المياه البحر الأسود، ولذلك فإنّها لم تدمّر الناس، بل أجبرتهم على الهجرة في جميع الإتّجاهات. وبذلك إعتصر البحر المتكوّن حديثا الشعوب الهندو-أوربيّة من أراضيها السابقة، وأكثر من ذلك لأنّه أثّر على جميع الشعوب التي تقطن المناطق إلى الشمال والغرب من البحر الأسود. حيث غطّى الماء ههنا في واقع الأمر معظم الأراضي. وإستنادا للمعلومات المتوفّرة لدينا حول تحرّكات الهندو-أوربيّين، فإنّ السلتيّين والجرمانيّين إحتلوا الأراضي على الحدود الشماليّة الغربيّة للبحر الأسود، فيما أخذت شعوب البطليق والسلافيين حدوده الشماليّة، وإحتل أسلاف السميريين، والسامارتيّين، والسكيثيّين الشمال الشرقي، وإلى الجنوب الشرقي عاشت القبائل الهندو-إيرانيّة. وعلى الأرجح، سكن أسلاف الإيطاليّين واليونانيّين في الجزء الشمالي من شبه جزيرة البلقان إلى الجنوب الغربي من السلتيّين والجرمان. فيما إستوطن الحثيّون، واللوفيانيّين، وشعوب الباليك، وجميع أولئك الذين نصنّفهم ضمن المجموعة الأناضوليّة من اللغات الهندو-أوروبيّة، المناطق الجنوبيّة من تجويف البحر الاسود، وأجبروا على الخروج بسبب تقدّم المياه نحو شمال آسيا الصغرى والأناضول. وفيما بعد، قام السلتيّين والجرمان من بعدهم بإحتلال شمال غرب أوروبا تدريجيّا، بينما إنتشر السلاف وشعوب البلطيق بإتجاه شمال وشرق أوروبا، والتي كانت تشغلها الشعوب الفنلندية والأوغريّة أساسا. بنما غزت الشعوب الناطقة باللغات الهندو-إيرانيّة أراضي إيران، وأواسط آسيا، وشمال الهند. ولقد تمّ العثور على أدلّة موضوعيّة تدعم هذا النموذج من توسّع الهندو-أوروبيّين في جميع الإتّجاهات من منطقة البحر الأسود في مصادر قدماء المؤرّخين، تغطّي جوانب حياة القبائل الجرمانيّة من القوط الشرقيّين في القرم خلال القرون الأولى بعد الميلاد. كما تتعامل هذه المصادر مع الشعوب السلافيّة الشرقيّة – الدرفليّين – بإعتبارهم جيران لقبيلة جرمانيّة مفقودة في أراضي ما يعرف اليوم بأوكرانيا، بالإضافة إلى سكّان شعوب البلطيق من اللاتفيين في منطقة أعالي نهر الفولغا.

لقد نتج عن تحرّك الهندو-أوروبيّين إلى الجنوب والشرق طرد الشعوب الساميّة من موطنها الأصلي في شمال غرب ما بين النهرين. لكنّ الساميّين لم يكونوا الوحيدين الذين أجبرهم الهندو-أوربيّين على ترك مواطنهم الأصليّة. فقد حدثت أوضاع مماثلة للحوريّين في شرق الأناضول. وبسبب تعرّضهم للإضطهاد الشديد على يد الهندو-أوروبيّين وجدوا أنفسهم مجبرين على التحرّك جنوبا وإستيطان شمال سوريا وبلاد ما بين النهرين. حيث تظهر الأسماء الحوريّة بشكلٍ مبكّر في شمال ما بين النهرين، منذ نهاية الألف الثالث ق.م. وقد خلقت هذه المجموعة العرقيّة العديد من دويلاتها الخاصّة، وقد كانت دولة ميتاني أكثرها قوّة. لكنّ الأصول العرقيّة واللغويّة للحوريّين تبقى لغزا حتّى يومنا هذا. هذا ويعتبر العديد من المؤرّخين الحوريّين من أصل هندو-أوروبي، كما هو حال الحثيّين، لكنّ التحليل اللغوي للغتهم لم يكن قادرا على إثبات هذا. لكنّ الأرجح هو كون الحوريّين من الشعوب الأصليّة لمناطق جنوب القوقاز وشرق الأناضول، وعلى صلة بالمجموعات العرقيّة التي شكّلت فيما بعد دولة أراراتو. كما ومن الممكن أن يكونوا، حالهم كحال العديد من الشعوب الاصليّة في القوقاز، قد إستوعبوا ثقافة ولغة الشعوب الهندو-إيرانيّة التي غزتهم. ويعتبر الأرمن الورثة الوحيدين المحتملين لهم في عالمنا المعاصر.

كانت المناطق الداخليّة من الأناضول مستوطنة من قبل شعب أصلي آخر هو الحاتي، والذي منح إسمه للشعوب الهندو-أوروبيّة الوافدة ألا وهم الحثيّون. لسوء الحظ، فإنّنا لا نعرف عنهم إلاّ القليل، ويمكن أن نفترض بأنّهم قد إندمجوا تماما مع الوافدين الجدد من الشمال. ومن المرجّح أن يتواجد القليل من السكّان الأصليّين في مقاطعات من آسيا الصغرى، والأناضول، والقوقاز، وإيران. وكما هو حال الحاتيّين والحوريّين، فإنّ هذه الشعوب أيضا لم تكن مرتبطة بصلات بالساميّين أو الهندو-أوروبيّين. على العكس من ذلك، فإنّ الهندو-أوروبيّين الأكثر عددا وقوّة قد قاموا إمّا بإخضاعهم وإستيعابهم، أو أجبروهم على النزوح إلى مناطق أخرى. وقد يكون ذات الأمر حصل للسومريّين، حيث دفعهم وصول الهندو-أوروبيّين خارج بلادهم في منطقة عيلام القديمة وأجبرهم للذهاب إلى جنوب ما بين النهرين. حيث لا يوجد أثر لهذه الشعوب اليوم. فقد تمّ إستيعابهم بالكامل في العصور القديمة من قبل الهندو-أوروبيّين أو الساميّين. ولهذا فنحن غير قادرين اليوم على فك شفرات لغاتهم في محاولة لتحديد هويّتهم فقط على أساس المجموعات اللغويّة المعروفة لدينا.

وحتّى عندما كانوا لا يزالون في موطنهم الأصلي، فإنّ الساميّين وكذلك الهندو-أوروبيّين، لم يكونوا في حالة تجانس. فبالإستناد إلى تاريخ وإتّجاه هجراتهم، يمكن أن نفترض بأنّه وفي الألف الرابع ق.م. كان هنالك إنقسام واضح بين الساميّين الغربيّين (الأموريّين والآراميّين) والساميّين الشرقيّين (الأكديّين والآشوريّين). حيث تركّزت الفئة الأولى في أعالي الفرات والمنطقة المحيطة بروافده، بينما شغلت الفئة الأخيرة أعالي حوض نهر دجلة. بل إنّ هذا الإنقسام الجغرافي قد وجد بين الساميّين الغربيّين أنفسهم، حيث كان الجنوب الغربي للأموريّين، والشمال للآراميّين. حيث مثّل الكنعانيّون المعروفون جزءا من الأموريّين، الذين توجّهوا قبل غيرهم من الساميّين الغربيّين إلى سوريا وبلاد الفينيقيّين وكنعان. وتعتبر كلّ الفوارق الثقافيّة واللغويّة فيما بينهم نتيجة لعيشهم المنفصل عن بعضهم البعض لما يقرب من الألف عام. من المحتمل أن تكون حتّى الشعوب الوافدة مبكّرا إلى كنعان كالحضارة الغسوليّة، ومن وجهة النظر العرقيّة، من الكنعانيّين الأوائل – لاسيّما طلائعهم الأولى. من المحتمل أن تكون الدوافع التي أجبرت الساميّين الغربيّين على ترك أوطانهم الأصليّة مختلفة في الأزمنة المختلفة. ربما نجم الخروج التدريجي للغسوليّين والكنعانيّين بسبب تزايد عدد السكّان والصرعات الداخليّة في موطنهم الأم في شمال غرب ما بين النهرين. ومع ذلك، فإنّ الهجرات الجماعيّة للأموريّين، والآراميّين من بعدهم، إلى الجنوب قد إرتبطت مع ضغط الهندو-أوربيّين عليهم من الشمال. وبمرور الزمن، تصادف بدء الخروج الأموري مع وصول الحثيّين والشعوب الأخرى المرتبطة بهم إلى الأناضول، بينما تتوافق الهجرة الآراميّة زمنيّا مع غزو شعوب البحر.

وعليه فإنّ خروج الساميّين من موطنهم الأصلي في أعالي حوضي دجلة والفرات قد بدأ بفعل حركة الشعوب الهندو-أوروبيّة والهندو-إيرانيّة، والتي طردت بدورها بسبب الكارثة البيئيّة من موطنها الأصلي في منطقة البحر الأسود. كما إنّ تلك الهجرات قد شملت الحوريّين في واقع الأمر – السكّان الأصليّين لمنطقة القوقاز وشمال الأناضول. فبمغادرتها لمنطقة البحر الأسود، طردت الشعوب الهندو-آريّة الحوريّين إلى الجنوب (شمال ما بين النهرين) حيث إصطدموا بالساميّين  القاطنين هناك. فنتج عن غزو الحوريّين لأعالي حوضي دجلة والفرات هجرة كبرى نحو الجنوب، في البداية غادر الساميّون الشرقيّون (الأكديّون)، ليعقب ذلك هجرة الساميّين الغربيّين (الأموريّين). فتمّ إحتلال الأراضي التي تركها الأموريّين من قبل الحوريّين والآراميّين، والذين تربطهم بالأموريّين صلة قرابة. وبذلك ظهر الآراميّون في منطقة حرّان. ولهذا شخّصت النصوص التوراتيّة بشكلٍ خاطيء البطريرك إبراهام وأقاربه بأنهم منهم. وفي طريقهم نحو الجنوب الشرقي، لم تقم العديد من القبائل الهندو-آريّة بطرد الحوريّين ببساطة، بل إندمجت معهم جزئيّا. ونتيجة لذلك، فإنّ مجموعات آريّة مثل شعب الماريانو أصبحت جزءا من المجتمع الحوري.

بدأت الهجرة الجماعيّة الكبرى للشعوب الساميّة الغربيّة من موطنهم الأصلي في حدود القرن الثاني عشر ق.م. وقد نتجت هي الأخرى بسبب الهجرات الهندو-أوروبيّة. وفي هذه المرّة قام الآراميّون بتتبّع خطى أسلافهم من الأموريّين. فيما قامت إحدى هذه الشعوب، والمعروفين بإسم الكلدان، بالنزول جنوبا مع حوضي نهر دجلة والفرات إلى جنوب ما بين النهرين. وإتّجهت شعوب أخرى بإتّجاه الجنوب الغربي، نحو سوريا، حيث قاموا بتأسيس ممالكهم الخاصّة. ومع ذلك، فقد بقي في أراضي الساميّين الاصليّة مجتمع آرامي كبير لوقتٍ طويل، على الرغم من مزاحمتهم عليها من قبل اللوفيانيّين (مجموعة عرقيّة مرتبطة بالحثيّين) والإيرانيّين المتقدّمين من الشرق. وعلى الرغم من موجات إنتشار الحضارة الهيلينيّة والديانة المسيحيّة فقد إحتفظ السكّان المحليّون في مجملهم بجذورهم الساميّة. لكنّ الواقع العرقي تغيّر بشكلٍ جذري فقط بعد وصول القبائل التركيّة في نهاية القرن الحادي عشر الميلادي. فأصبح السكّان، وعلى مدى قرون عديدة، أتراكا ومسلمين بالكامل. واليوم، فإنّ كامل الأرض في هذه المنطقة الشاسعة مسكونة من قبل الأتراك والأكراد بشكلٍ رئيسي، ولهذا لم يعد أحدٌ يتذكّر موطن الساميّين القديم بعد الآن.

المصدر: أضغط هنا

عن

شاهد أيضاً

كيف بدأ تقليد أشجار عيد الميلاد؟

كتبه لموقع انسايكلوبيديا بريتانيكا: آمي تيكانين نشر بتاريخ: 14/ 12/ 2018 ترجمة: سارة الأعرجي تدقيق: …

هل النبي محمد شخصية حقيقية؟ خلاف بين الباحثين في الدين الإسلامي

كتبه لموقع شبيغل أونلاين: ياسين موشربش نشر بتاريخ: 18/ 9/ 2018 ترجمة: إبراهيم العيسى تدقيق: …