كتبه لمجلة “فيلوسوفي ناو”: لوشلان بلوم
العدد: 123/ 2017
ترجمة: ياسين إدوحموش
تدقيق ومراجعة: نعمان البياتي
تصميم الصورة: أسماء عبد محمد
يتساءل لوشلان بلوم ما الذي سيقوم به الكُتَاب عندما تصبح أجهزة الكمبيوتر كُتاباً أفضل من البشر.
لقد أصبح البحث عن الحقائق، على مدى القرن الماضي، الهدف الرئيس للتقدم البشري، وأضحى التصور السائد أن الحقائق مهمة، في حين أن الخيال، يعتبر في أحسن الأحوال، زائداً عن الحاجة، ولكن، ثمة أدلة متزايدة على أننا بصفتنا بشراً نعيش حياتنا في عالم من القصص الخيالية؛ يبدو أننا مُكيفون مسبقاً لقبول القصص وجعلها جزءاً لا يتجزأ في صميم نسيج مجتمعاتنا، كقصص القومية أو المجتمع أو الاقتصاد أو الدين على سبيل المثال، ومع ذلك فإن القدرة على تحديد الحقائق عادة ما ينظر إليها الآن على أنها السمة الإنسانية الأكثر أهمية: الحقائق مهمة، والخيال زائد عن الحاجة؛ إن قراءة كتاب أو مشاهدة فيلم في إحدى الأمسيات شيء يمكنك القيام به للاسترخاء بعد يوم شاق من الإنتاجية، بعد يوم شاق من تمييز الحقائق مهما كان مجال العمل الذي تشغل فيه.
ولكن، كما يدعي المؤرخ الفيلسوف “يوفال نوح حراري” في إحدى مقابلاته: “نحن نتعاون مع ملايين من الغرباء إذا، وفقط إذا، كنا جميعنا نؤمن بنفس القصص الخيالية؛ إن القوة البشرية العظمى تستند حقاً على الخيال؛ إننا، على حد علمنا، الحيوانات الوحيدة التي يمكن أن تخلق قصصاً خيالية وتؤمن بها، كما يستند جميع التعاون البشري واسع النطاق على الخيال”.
هنا أريد أن أجادل بأن الصعود المقبل للذكاء الاصطناعي يمثل تهديداً لأسلوب حياتنا، ليس فقط لأنه من المحتمل جداً أن نصبح أسوأ بكثير من الآلات في تمييز الحقائق، ولكن أيضاً لأننا سنصبح، في جميع الاحتمالات، أسوأ من الآلات في خلق القصص.
توصيات لأجل عديمي الفائدة
سوف تتفوق علينا خوارزميات التعلم الآلي المرتبطة بشبكات عالمية، من أجهزة الاستشعار ومصادر البيانات على نحو متزايد، عندما يتعلق الأمر بتمييز ما هو صحيح من حيث الوقائع، سواء أتعلق الأمر بحركات سوق الأسهم، أم أفضل طريقة لإدارة شركة، أم الحالة العاطفية لشخص ما؛ في الوقت الحالي، يتطلب الأمر من المحترفين سنوات من التدريب المهني لتمييز الحقائق في مهنتهم، وفهم ما يعد مشكلة حقيقية وما يعد غير ذلك، لذلك، إذا لم يتم تدريب أي شخص في المستقبل، بحكم أن الآلات يمكنها تحليل المعلومات بشكل أفضل من أي إنسان، فكيف يمكن لأي شخص أن يناقش بشكل معقول ما يعتبر حقيقة وما يعتبر غير ذلك؟ في هذا الصدد، يتحدث يوفال نوح حراري عن صعود “طبقة غير مجدية” غير قادرة على القيام بأي شيء أفضل من الآلات؛ وعلى الرغم من عدم وجود يقين حول الدور الذي ستضطلع به التكنولوجيا، يبدو أنه لا يمكن إنكار أن السواد الأعظم من الناس، من أطباء الأشعة إلى خبراء الاقتصاد، لن يحتاجوا في المستقبل ليقوموا بهذا النوع من الوظائف القائمة على الحقائق التي نقوم بها اليوم، ومن المرجح أن يكون هذا التحول جذرياً عندما يتعلق الأمر بالشكل الأكثر قبولاً للخيال، أي الرواية.
إننا نقترب بالفعل من حالة يكون فيها فهم الآلة لما نقرأه أبعد بكثير من فهم المؤلِف في العديد من المجالات؛ يمكن لشركة أمازون بالفعل تجميع بيانات من الملايين من أجهزة القراءة (كيندل) وتحليل كيفية تفاعل قارئ معين مع نص من حيث الأجزاء التي نقرأها بسرعة وأين نُبطئ أو نتوقف، واستقراء هذه البيانات لتقديم توصيات تستند إلى شخصيتنا.
سوف يصبح هذا التحليل للتفاعل بين القارئ والنص أكثر دقة كلما أضفنا المزيد من القراء والمزيد من القدرة الحوسبية في النظام، كما كتب حراري في مقال نُشر في صحيفة (فاينانشيال تايمز) قائلاً: “قريباً، سوف تقرؤك الكتب أثناء قراءتك لها، وفي حين ننسى بسرعة معظم ما نقرؤه، لن تحتاج برامج الكمبيوتر أبداً للنسيان” (26 أغسطس 2016).
سرعان ما ستعرف الخوارزميات بالضبط أي المسائل تُثيرك، وستعرف ما تستمتع بقراءته أفضل منك، سواء أردت حكاية مثيرة حول مبارزات السيوف والشعوذة، أو رواية فلسفية مفيدة، فإن الذكاء الاصطناعي المتطور سوف يفهم بدقة القصص التي ستتفاعل معها، وسيكون قادراً على تفصيل توصيات لك شخصياً.
الخطوة القادمة للتأليف
إذا أخذنا هذه الفكرة إلى أبعد من ذلك، يمكننا أن نرى أنه ليس من غير المرجح أنه بمجرد أن تصبح أدوات التعلم الآلي متاحة، فإننا سنقوم بعد ذلك بإعادة تصميمها بحيث تصبح الآلات أنفسها كُتابا، قد لا “تفهم” الخوارزميات ما الذي تكتبه، لكنها ستكون قادرة على احتساب ما ستكتب بالضبط لإثارة اهتمامنا، وسوف تبني روايات مخصصة وفقاً لذلك.
في نوفمبر 2016، أعلنت شركة (غوغل) عن تحسينات لخدمة الترجمة الخاصة بها والتي تجعلها أقرب من أي وقت مضى إلى طريقة استخدام البشر للغة، من خلال تحليل النص على مستوى العبارة بدلاً من كلمة بكلمة، وكما كتب “باراك توروفسكي”، مدير الإنتاج في خدمة الترجمة في (غوغل)، على مدونة قائلاً بأن “الترجمة العصبية أفضل كثيراً من التقنية السابقة، لأننا نترجم جمل كاملة على حدة، بدلاً من أجزاء من الجملة … وهذا يجعل الترجمات عادة أكثر دقة، وأقرب إلى الطريقة التي يتكلم بها الناس اللغة”.
بمجرد أن يتم تنقيح هذا النهج وتطويره، من غير المستبعد بالتأكيد أن تكون الآلة قادرة على إنتاج كتاب كامل، بل أكثر من ذلك، يمكن للآلة أن تكتب كتاباً بشكل فوري تقريباً، بل يمكن أن تكتب مائة كتاب، بل الملايين؛ كتاب لكل عميل حسب الطلب، وسلسلة لا نهاية لها من التتمات المصممة خصيصاً لك، رواية مصممة حسب القياس لشخصيتك الفردية الآن، قراءة مثالية لمزاجك في أي الوقت.
في ظل هذه الظروف، سيكون من المستحيل على أي مؤلف بشري التنافس على المستوى التجاري؛ من المؤلف الذي يمكن أن يكسب قوت عيشه؟ كيف يمكن لمؤلف بشري أن يؤلف كتاباً من أكثر الكتب مبيعاً، في وقت تستطيع فيه آلة تأليف مليون رواية شخصية مصممة بشكل مثالي في لمح البصر؟ سوف تتعرف الخوارزمية على ما قرأته مسبقاً، وما الذي تتوق إلى قراءته، وما سيبدو لك جديداً وحديثاً، وما سيبدو قديماً، من سيكبد نفسه عناء قراءة عمل من الأعمال الأقل شخصية؟ حسناً، قد تكون هناك ثقافة فرعية تستمتع بالكتب الحرفية، المصنوعة يدوياً من قبل مؤلف بشري، لكن في نهاية المطاف لن تكون هذه الكتب ممتعة للقراءة، إذ ما الهدف من وراء كتابة الروايات الخيالية في عالم يمكن فيه للآلات أن تقوم بذلك بشكل أفضل؟ هل سيضع ذلك نهاية للرغبة البشرية في تأليف الرواية من خلال فعل الكتابة؟
فأس لكسر البحر المتجمد في الداخل
“الحقيقية إن الشعر ليس الكتب الموجودة في المكتبة… الشعر هو التقاء القارئ مع الكتاب، واكتشاف الكتاب”
جورج لويس بورجس، الشعر (1977)
تتمثل إحدى الاحتمالات في أننا سنستخدم الأدوات التي يوفرها الذكاء الاصطناعي لصياغة شكل جديد من أشكال الكتابة، وعلى أي حال، فإن عملية الكتابة لا تتعلق بمسألة أن نصبح أفضل في الطباعة، أو تحرير النسخ، أو تعلم سلسلة من قواعد الحبكة أو مفاهيم تطوير الشخصية، بل إنها (بل يجب أن تكون) متعلقة بالتحديد بتلك الأشياء التي تتطور فيها الآلات الآن، وهو الضغط على أزرارنا العاطفية، فالسؤال المطروح لا يتعلق بما إذا كانت الآلات ستصبح أفضل من البشر في إثارة استجابة معينة، والذي نفترض أنه سيحدث، بل بالأحرى الاستجابات التي نختار الآلات لإثارتها؛ لذا أقترح أن وظيفة المؤلف في عصر الذكاء الاصطناعي تتمثل في تحديد أفضل مجموعة من الاستجابات بغية خلقها، فبالنسبة للبعض، ستكون الروايات التي يختارونها، عبارة عن روايات رخيصة، تحتوي على إثارات شكلية وبسيطة، ولكن بالنسبة للآخرين – لأولئك الذين يبحثون عن الإلهام أو وعي أعمق للعالم – فإن الأدوات اللازمة لإنشاء خيال مكتوب آلياً ستكون جزءاً أساسياً من الأدب واستكشافهم للوعي.
“أعتقد أنه يجب علينا فقط قراءة النوع من الكتب التي تجرحنا بل وتغرس خناجرها فينا، وإذا كان الكتاب الذي نقرأ لا يوقظنا بضربة على الرأس فإذاً لماذا نقرأه؟ كي يجعلنا سعداء، وأنت تكتب؟ يا إلهي كم سنكون سعداء، خصوصاً إن لم يكن لدينا كتب؛ إن أنواع الكتب التي تجعلنا سعداء هي بالذات تلك التي يمكننا كتابتها نحن بأنفسنا إذا ما أردنا ذلك، ولكن نحن بحاجة إلى الكتب التي لها وقع الكارثة، الكتب التي تُحزننا بعمق مثل وفاة شخص نُحبه أكثر من أنفسنا، مثل أن نُنفى بعيداً في غابة بعيدة عن الجميع، وكأنه الانتحار؛ يجب أن يكون الكتاب بمثابة الفأس الذي يكسر جمود البحر القابع في أعماقنا، هذا هو اعتقادي. (فرانس كافكا، رسالة إلى أوسكار بولاك، 27 يناير 1904).
سوف تمنح التكنولوجيا عما قريب القدرة على تمكين القراء الأكثر مغامرة من صياغة مسارهم الخاص من خلال أدب يتطور باستمرار، وبمساعدة أدوات الكمبيوتر، يستطيع الناس حتى كتابة نصوصهم المقدسة، وكتبهم التي تبعث فيهم الصحوة؛ تخيل لو أن كل كتاب قرأته منحك لحظة من الصحوة – أي كان بمثابة الفأس الذي يكسر البحر المتجمد القابع في أعماقك – بدلاً من قضاء ساعات من خلال تصفح الكتب التي ندرك، بعد فوات الأوان، أنها مضيعة للوقت؛ يمكن أن يحدث هذا إذا أصبحت عاداتنا في القراءة جزءاً من عملية الخلق – إنها استكشاف أساس لا نهاية له لإمكانية اللغة.
المصادر: هنا