كتبته لموقع صحيفة (نيويورك تايمز): مارغريت أومارا
منشور بتاريخ: 28 أيلول/سبتمبر، 2019
ترجمة: أسامة العبادي
تصميم الصورة: امير محمد
ما هي سياسات “وادي السيليكون”؟
ليس من السهل معرفة ذلك. في عام 2016، كان الحزب الديمقراطي الأميركي حليفًا لكبار شركات التكنولوجيا، حيث ذهبت غالبية الأموال التي تبرع بها موظفو الشركات التكنولوجية لمرشحي الرئاسة إلى هيلاري كلينتون، والتي اختبرت رسالتها الاقتصادية في خطابات للجماهير في (وادي السيليكون).
وبعد أربع سنوات، يُجمع غالبية مرشحي الرئاسة الديمقراطيين لعام 2020 على وصف الشركات نفسها بالاحتكارية والمدارة بالثروة والإعلانات. حتى إن المفضّلين لدى (وادي السيليكون) لا يبدون في غاية الألفة، حيث دافع بيت بوتيجيج – والذي جمع أموالًا من الرؤساء التنفيذيين للعديد من شركات التكنولوجيا – عن (سائقي أوبر وليفت) في وقفة احتجاجية حديثًا، قائلًا: “أنا هنا لأن مفردة (عمل جانبية) هي مرادف آخر لمفردة (عمل)، ما يعني أنك إن كنت تعمل في عمل جانبي فإنك عامل، ويجب أن تكون محميًا كعامل.” كما دعا أندرو يانج، الريادي في عالم التكنولوجيا، إلى تفعيل قوانين مكافحة الاحتكار، وانتقد بدوره تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على الصحة العقلية.
يؤمن الجمهوريون بأن عالم التكنولوجيا يدعم جداول أعمال ليبرالية. حيث أعلن كل من البيت الأبيض برئاسة ترامب بالإضافة إلى صانعي القرار في الـ (كابيتول هيل) بأن منصات التواصل الاجتماعي تقوم بمراقبة الأصوات المحافظة.
وفي خضم كل هذا التركيز من جلسات استماع في الكونغرس، إلى التحقيقات في قضايا الاحتكار والغرامات المفروضة من قبل هيئة التجارة الفيدرالية، فإن كبار شركات التكنولوجيا بالكاد تحتج، لدرجة أنهم لا ينحازون إلى طرف مطلقًا. كل ما يحاولون فعله هو “إيجاد توازن ما” و “زيادة درجة الوعي في النقاشات العامة”.
لكن (وادي السيليكون) له نظام سياسي محدد. ليس بالمحافظ أو المنفتح، ولا حتى المتحرر، على الرغم من النسخ مخفية الطيّات من روايات أيان راند، والتي قد تجدها منتشرة في زوايا مكاتب الشركات الناشئة في بالو ألتو.
إنه تفاؤل تكنولوجي: ذلك الاعتقاد بأن التكنولوجيا والتكنولوجيين يقومون ببناء المستقبل، وبأن بقية العالم -بما فيه الحكومات – عليه اللحاق بهذا الركب. هذه العقيدة شعلة منيرة، غير متأثرة بردود الأفعال المناهضة للتكنولوجيا. “الآن، يجب علينا سويًا أن نسخر هذا الكم الهائل من الطاقة لما فيه مصلحة البشرية جمعاء.” هذا ما قاله المستثمر فرانك شين في حديث عن الذكاء الاصطناعي في شهر تشرين الثاني/نوفمبر من عام 2018. “سوف نبني طريقًا للفضاء”، هذا ما أعلنه جيف بيزوز أثناء إزاحته الستار عن خططه لمركبة قمرية الربيع الماضي. وكما سأل إيلون ماسك مساهميه في تيسلا مؤخرًا: “هل كنت لأقوم بهذا لو لم أكن متفائلًا؟”
ولكن هذا الأمر يتخطى وادي السيليكون. للتفاؤل التكنولوجي جذور عميقة في الثقافة السياسية الأميركية، وإيمانها بالبراعة الأميركية والتقدم التكنولوجي. من الضروري استيعاب هذا التاريخ بشكل واضح عند مناقشة كيفية كبح قوى كبار شركات التكنولوجيا، والتي يبدو أن لا حدود لها.
بدأت ملامح لغة التفاؤل التكنولوجي بالظهور في خطاب السياسة الأميركية بعد الحرب العالمية الثانية. “العلم، الجبهة الأزلية” هو عنوان التقرير المفعم بالتفاؤل التكنولوجي من عام 1945، والذي كتبه فانيفر بوش، وهو المستشار العام العلمي لكل من فرانكلين روزفيلت وهاري ترومان، والذي كان الدافع الأساسي للإنفاق الحكومي غير المشهود على البحث والتطوير بعد الحرب العالمية. حولت موجة التمويل الحكومي هذه مدينة سانتا كلارا فالي وجامعة ستانفورد بالأخص إلى مركز قوة هندسية. كما ملأ داويت آيزنهاور البيت الأبيض بمستشارين أطلق عليهم اسم “علمائي”. في حين صرح جون كينيدي أثناء الإعلان عن لقطة القمر الأميركية عام 1962 ما نصه: “الإنسان، وفي سعيه نحو المعرفة والتطور، عازم ولا يمكن ثنيه عن ذلك.”
في خطاب من عام 1963، وبينما كان ديفيد باكارد – وهو أحد مؤسسي شركة هيوليت باكارد – يعيد النظر إلى حياته خلال فترة الكساد، متعجبًا بالعالم الذي كان يعيشه في تلك الفترة، ومعزيًا الفضل الأكبر إلى الابتكارات التكنولوجية التي لم توقف عجلة تقدمها التدخلات البيروقراطية، تحدث قائلًا: “الراديو والتلفزيون والآلة الطابعة، بالإضافة إلى التنوع الهائل في المنشورات من كل الأنواع، كلها من شأنها أن توصل لغالبية الناس في كل مكان في العالم معلومات بتفصيل كبير عما يدور في أي مكان آخر. وبهذا تتسع الآفاق، وتتولد طموحات جديدة.”
اختلف المزاج في سبعينيات القرن الماضي. حيث انحسر الإنفاق الحكومي العسكري، ولم تعد الخبرات الحكومية مقبولة. مما دفع ريتشارد نيكسون إلى التخلي عن مجلس المستشارين العلميين، وشجع رياديي الأعمال من القطاع الخاص على ملء الفراغ.
وفي الثمانينيات، برز جيل جديد من التقنيين من تلقاء أنفسهم. أولئك هم الرجال والنساء الذين بنوا شركات مثل (أبل) و (أتاري) والذين كانوا لا يزالون مؤمنين بالتكنولوجيا. ضع جهاز حاسوب فوق كل طاولة مكتب واجعل التواصل الشبكي ممكنًا، أو هذا ما اعتقدوا به، وبذلك يمكنك معالجة إخفاقات المجتمع والظلم. ولكنهم كانوا يختلفون جذريًا في غالب الأحيان مع سياسات الجمهوريين الذين قادوا الموجة الأولى من التكنولوجيا المتطورة في وادي السيليكون. حيث مزقت حرب فيتنام وفضيحة ووترجيت ثقتهم بالحكومة. لم تعد الحكومة أهم راعٍ وزبون لشركات التكنولوجيا.
كان الازدراء واضحًا. حيث أعلن ستيف جوبز في عام 1984: “لم أصوت أبدًا لمرشح في الانتخابات الرئاسية. لم أصوت ولو لمرة في حياتي.” فيما كان تشارلي سبورك رئيس الشركة المصنعة (ناشيونال سيميكوندوكتر) أكثر صراحة وقال: “كنت معاديًا للحكومة، وأنظر للسياسيين كلهم على أنهم مجموعة أوغاد.” وحينما ذهب أقطاب عالم التكنولوجيا كالسيد جوبز والسيد سبورك إلى واشنطن، قدموا عريضة تضمنت إعفاءاتٍ ضريبية ورفعًا للقيود على التكنولوجيا، ولم يكن هدفها الاستثمارات العلمية كما في الحقبة السابقة. عكست تعليقاتهم حالة كراهية أوسع تجاه الحكومة، الأمر الذي كان له أهمية أكبر بكثير في فهم وادي السيليكون من التفكير الاقتصادي المتحرر.
ضخّم القادة الأميركيون هذه الرسالة وعزّزوها. حيث قال رونالد ريغان في تصريح له عام 1988: “روّاد الأعمال وشركاتهم الصغيرة هم المسؤولون الأساسيون عن كل النمو الاقتصادي تقريبًا في الولايات المتحدة. هم المحركون الأساسيون للثورة التكنولوجية.”
تطور التفاؤل التكنولوجي جنبًا إلى جنبٍ مع الحزبين الأساسيين في الولايات المتحدة. لكن صغار المحافظين في الحكومة أحسوا بالإهمال من قبل جورج هربرت واكر بوش، حيث انتهج الحزب الجمهوري نظامًا محافظًا اشتراكيًا. كما تبنّى جيلٌ جديد من صانعي القرار الديمقراطيين أولويات شركات التكنولوجيا المتقدمة. حيث عمل بيل كلينتون مع وادي السيليكون لهيكلة سياسة الإنترنت، ودعا لرأب “الفرقة الرقمية” كحل لانعدام التكافئ الاقتصادي. كما اتّبع باراك أوباما النبرة ذاتها. حيث صرّح في خطابٍ له في قمة للأمن الرقمي في جامعة ستانفورد عام 2015 قائلًا: “يا لها من كاتدرائية رائعة تلك التي ساعدْتم جميعًا في بنائها.”
ولذلك، فإن مارك زاكربيرج حينما يتحدث عن: “تقريب العالم من بعضه،” فإنه يبني على نظام عقائدي قائم لعقود من الزمن، مدعوم من صانعي القرار من كلا الحزبين، والمبني على أن الحواسيب المتصلة بشبكة هي أدوات للتحرر (حتى وإن كان من غير الواضح تمامًا من الذي يتحرر من ماذا)، وبأن المزيد من التواصل والشفافية، بالإضافة إلى تكنولوجيا أكثر قوة سوف “تجعل من العالم مكانًا أفضل” (حتى وإن كان من غير الواضح بشكل تامٍ ما هو الأفضل ولمن). حينما يبدو بأن أكثر الشركات التكنولوجية تأثيرًا تتجاهل مطالبات السياسيين بإعادة الهيكلة، وبالرغم من تهديد الغرامات وإجراءات مكافحة الاحتكار، فإنهم يتبعون خطى أبطالهم، الذين آمنوا بأن أفضل ما يمكن للحكومة تقديمه للتكنولوجيا هو التنحي عن طريقها.
وعلى الرغم من ردود الأفعال العنيفة من كلا الحزبين في الكونغرس تجاه شركات التكنولوجيا الكبرى، فإن صانعي القرار لم يحيدوا عن اعتقادهم الجوهري بالتفاؤل التكنولوجي. حيث يتطلع السياسيون وصانعو القرار إلى شركات التكنولوجيا لتحريك الاقتصاد، وربما حتى لـ “إنقاذ” المدن التي كانت تعتمد على الصناعة واستخراج الفحم، من خلال تقديم دورات البرمجة وإنشاء مراكز (أمازون) لتوصيل المنتجات. حينما يطالب الكونغرس بأن تجد شركات التواصل الاجتماعي حلولًا فنية لازدياد خطاب الكراهية أو التدخلات في الانتخابات الرئاسية، فإن هناك نصًا ضمنيًا: الحل لا يكمن في تكنولوجيا أقل، وإنما في تكنولوجيا أفضل.
لا يزال هناك الكثير مما يدعو للإشادة بالتفاؤل التكنولوجي في أميركا، ولكن الزوايا العمياء لوادي السيليكون واضحة بشكل مؤلم. حيث جعل النفور من السياسة من القادة التكنولوجيين غير مجهزين للتعامل مع العوائق السياسية التي تقف في طريق أحلامهم المتفائلة بالتكنولوجيا – كإقناع الحكومات المحلية بتمويل البنى التحتية التي تخدم السيارات ذاتية القيادة، أو التوصل إلى إجماع حول التغير المناخي، والتي من دونها قد تكون تكنولوجيا الوقود النظيف عديمة الجدوى.
لا تحتاج أميركا مزيدًا من “العلم، الجبهة الأزلية.” ولكنها بحاجة إلى المزيد من الحلول المتجددة التي من شأنها أن تعالج البعض من أعظم تحديات العالم، وإلى الاعتراف بأنه سيتعين على كل من الحكومة وعالم الصناعة تعديل أولوياتهم لتحقيق ذلك.
المصدر: هنا