ترجمة: ياسين إدوحموش
تدقيق: رعد طالب
مراجعة: آلاء عبد الأمير
تصميم: مرتضى ضياء
حدث الأمر في العاصمة واشنطن خلال ندوة حول الارهاب، أو بعبارة أدق، محاربة الارهاب، نظمتها وكالة استخبارات الدفاع الأمريكية. كان غالبية من شاركوا يعملون في وكالات الاستخبارات الأمريكية المتنوعة والمختلفة والتي كانت كلها بدرجات متفاوتة معنية بالحرب على الارهاب. لكن بعد الحرب الباردة، انتقل معظم عملاء الاستخبارات هؤلاء نحو ميدان “التهديدات الجديدة” الآخذ في النمو، وهذه الأخيرة تتضمن الانتشار النووي واسلحة الدمار الشامل والجريمة المنظمة. استمع هذا الجمع الفريد من نوعه، المكون من اشخاص متطابقين في لباسهم، بانتباه إلى حديث مجموعة من المتحدثين حول مكافحة الارهاب. لكن، في وقت متأخر من اليوم، بينما أوشك آخر متحدث على إلقاء كلمته، اعتلى شخص غير مألوف المنصة حاملاً في يده حقيبة يد وكيس. بشعره الطويل وقبعته السوداء ولحيته الكثيفة ونظارات شمسية، ومرتديا سروالاً ممزقاً مع سترة جلدية، وقف هناك وبدا كأنه نقطة سوداء في صفحة بيضاء بين عملاء الاستخبارات البيروقراطيين. فجأة، وبسرعة خاطفة فتح الغريب الحقيبة والكيس ورمى قنبلتين يدويتين نحو الحشود ثم صوب بندقية من طراز م16 نحو الجمهور المرعوب.
لكن لم يحدث أي انفجار، والـ م 16 بقيت صامتة، بعدها تناول الرجل الميكروفون بهدوء وبدأ يخاطب الجمهور. بيد أن المستمعين، أو جلّهم على الاقل، تعرفوا في الحال على صوت مألوف؛ ففي الواقع لم يكن هذا الشخص سوى مدير وكالة الاستخبارات والذي كان عميداً في الجيش، متنكراً على شكل إرهابي ليبين مدى السهولة التي يمكن من خلالها لأي كان الدخول إلى المبنى الذي انعقدت فيه الندوة (حرم جامعة جورج واشنطن، حيث لم توضع أي تدابير أمنية) وقتل صفوة مكافحي الإرهاب الأمريكان. بعد خلعه لزيه، قال العميد هذه الكلمات النبوئيّة: “يوما ما، سيهاجم الإرهابيون مبنى كهذا في واشنطن أو نيويورك، وسيقتلون مئات الاشخاص ويوجهوا لنا ضربة نفسية لم يسبق لها مثيل. السؤال الذي يطرح نفسه ليس ما إذا كان الهجوم سيقع فوق الاراضي الامريكية، بل متى وأين. أيها السادة الكرام، الأمر عائد لكم لتكونوا على أهبة الاستعداد، سلامة اراضينا بين أيديكم”. الندوة عقدت سنة 1998، وبعد مرور ثلاث سنوات، وضع تسعة عشر رجلاً حداً لحياة نحو 3000 شخص في واحدة من أبشع الهجمات الإرهابية التي عرفها التاريخ عندما ضربوا مدينتي نيويورك و العاصمة واشنطن. حتى مبنى البنتاغون بنفسه، مقر وكالة استخبارات الدفاع، لم يسلم من الهجوم، إذ لم تنمكن اجهزة المخابرات الامريكية بسبب تقصيرها من الحيلولة دون وقوع العملية.
ومع الإدراك المتأخر بدا أن ما حدث كان أمراً سريالياً؛ أولاً بسبب التحذير الدي أصدره رئيس الاستخبارات، و ثانياً بسبب عدم قدرة موظفيه على اتباع نصيحته على الرغم من حساسيتها. إضافة الى ذلك، كان هناك انفصاماً بين الصورة المثيرة للإعجاب لمتعصب هامشي -كنسخة حية لرسم كاريكاتوري لثائر يرتدي رداءً أسود وفي يده قنبلة– مستعد لتحويل المكان إلى أشلاءٍ، وبين الخطب الرنانة حول اقتراب إرهاب التكنولوجيا عالية التقنية، أو المعروف بإسم “الارهاب المفرط” الذي تصاغ من أجل القضاء عليه جميع السياسات الجديدة.
إن وضع مفهوم لظاهرة الارهاب أكثر صعوبة مما قد يبدو للوهلة الأولى، إذ إن هذا الموضوع يميل إلى الخلط بسبب تأويلات إيديولوجية، علاوة على الميل الشديد خصوصاً من جانب الحكومات، للجوء للغة مجازية شيطانية كلما ذكر المصطلح. ولعل أفضل وسيلة لوضع هذا المفهوم هي عبر التذكير بأن الهدف من الإرهاب هو الترهيب، وهذا دور اضطلعت به قوات منظمة عبر التاريخ، سواء كانت دولة أم جيشاً، على الأقل عندما يتعلق الأمر بالأنظمة الاستبدادية، وهذا كان دائماً الحال مع الدول غير الاستبدادية. في سياقات أخرى، قد يعد الإرهاب مشروعاً، في أوقات الحرب مثلاً، حتى عندما يستخدم ضد المدنيين. وفي العصر الحديث، تتبادر للذهن تفجيرات كوفنتري، ودريزدن وطوكيو، والقنايل النووية التي ألقيت على مدينتي هيروشيما و ناجازاكي.
يعتبر الإرهاب باسم الدين أو الإرهاب المقدس ظاهرة تاريخية متكررة. ومن الأمثلة المشهورة نجد المتعصبين اليهود في القرن الأول والمعروفون أيضاً باسم ”سيكاري“*، تمكنت هذه الطائفة القاتلة من التحريض على ثورة ضد الاحتلال الروماني التي أدت، من جملة أمور اخرى، إلى تدمير الهيكل الثاني في القدس سنة 70 ميلادية وكذلك القضاء على الشتات اليهودي. أما الطائفة الاسماعيلية، المعروفة باسم ”الحشاشين“** والتي كان لها ارتباط بالدين الإسلامي، فلقرابة قرنين من الزمن، بين 1090 و 1272، جعلت من الاغتيالات السياسية للشخصيات البارزة من المسلمين عن طريق السيف علامتها البارزة. في المقابل، لم تستخدم أية طائفة مسيحية الإرهاب لمثل هذا الغرض الفاجع قط، على الرغم من أننا قد نذكر مثال جماعة ”التابورايت“ البوهيميين*** في القرن الخامس العاشر وحركة ”تجديدية العماد“*4 و”معاداة السامية“*5 التي كانت نشطة في الحملة الصليبية الأولى عام 1095، ناهيك عن مبالغات محاكم التفتيش.
تفترض المسيحية أن العالم، يوماً ما في المستقبل القريب، سيتحول تحولاً كاملاً نتيجة حدث يعلن نهاية التاريخ. ففي بدايات المسيحية كان يسود الاعتقاد بنهاية وشيكة تلوح للمجيء الثاني للمسيح (أو باروسيا)*6، كما أن فكرة حلول يوم القيامة ترتبط ارتباطاً مباشراً بمدارس تفكير مسيحية عديدة و ليست حصراً على الديانات الموحى بها. أما الأزتك فكانوا يؤمنون بأن أربع شموس (أربعة عوالم) قد أتت و ذهبت، وكان يؤرقهم الخوف بأن العالم سوف ينتهي إذا لم تستقبل الشمس قرابينها المستحقة من الدماء البشرية.
لقد تغذت الروح المسيحية في كنف اليهودية (حركة شبتاي تسفي*7 في القرن السابع، على سبيل المثال)؛ فبعد انتصار إسرائيل في حرب الستة أيام“حرب اكتوبر“، أثارت العودة إلى “الأرض الموعودة” نهضة مسيحية تمثلت في إنشاء حركة ”غوش إيمونيم“*8 التي كانت تضغط بكل ما أوتيت من قوة لاحتلال يهوذا و السامرة( الضفة الغربية). والمسيحية اليوم متجلية بين بعض الطوائف البروتستانتية الأصولية التي تعود جذورها إلى القرن التاسع عشر، من بين هذه الطوئف، نجد الحركة الإنجيلية القوية التي تتوافق بشكل خاص مع أقدار إسرائيل، بما أن أتباعها يؤمنون بأن نصر إسرائيل النهائي شرط ضروري للمجيء الثاني للمسيح. الإسلام هو الآخر له حركات من هذا القبيل، لاسيما فيما يتعلق بمجيء للمهدي المنتظر، نظير المسيح في الديانة المسيحية، كما تحتل المسيحية مكانة رئيسية عند شيعة الاثني عشر الإيرانية؛ إذ ينتظرون ظهور الإمام الثاني عشر. وعلى الرغم من أن نزاعهم يعد سياسياً، إلا أن الاحداث و العداوة التي تؤجج نار الصدامات العنيفة بين الإسلام الراديكالي والولايات المتحدة، مثل الصراع الفلسطيني-الاسرائيلي، لها أيضاً بعد مسيحي. وعلى عكس الاعتقاد السائد على نطاق واسع إلى حد ما، ليس للأمر علاقة ب”صِدام الحضارات”، وهذا الحقد واضح داخل نطاق المجتمعات و بينها على حد سواء، كما يتضح على سبيل المثال خلال الهجوم الذي نفذه راديكاليون- أغلبهم سعوديين سنيون- على المسجد الحرام في مكة عام 1979)*9، أو عملية اغتيال رئيس الوزراء الاسرائيلي ”أسحاق رابين“ عام 1995 التي اعتبرها عضو من حركة غوش إيمونيم تواطؤاً من أجل التخلي عن يهوذا و سماريا.
ينظر ممارسو الإرهاب الديني إلى الإرهاب على أنه عمل غيبي، إذ يعطي الموافقة الكاملة لمنفذيه ليصبحوا بذلك صكوكاً إلهية، بما أنه مبرر من طرف السلطات الدينية. كما أن عدد وهوية الضحايا ليس بذي أهمية، ولا وجود لقاضٍ أعلى مرتبة من القضية التي يضحي الإرهابي بنفسه من أجلها. لقد حصل مرتكبو الهجوم الأول على مركز التجارة العالمية عام 1993، والذي كان نجاحاً جزئياً، أولاً على فتوى من الشيخ ”عمر عبد الرحمن“ المسجون حالياً في السجون الامريكية.
على الرغم من هذا الخروج عن الموضوع نحو الدين -أو على الاقل مظهر منه- فإن الارهاب يعد محور اهتمامنا الرئيسي في هذه الدراسة، والذي قد يختزله الكثير من القراء المعاصرين في الإرهاب الإسلامي. دعونا نذكر في هذا الصدد أن المسائل الدينية والسياسية ترتبط ببعضها ارتباطاً وثيقاً في الإسلام، فجذور هذا الجانب المميز يمكن تتبعها إلى أيام الإسلام الأولى عندما كان القائد الأعلى -لكي نستخدم مفردات معروفة- قائداً سياسياً ودينياً في آن واحد، لكن تم التخلي عن هذا التصور المثالي في وقت لاحق، وانبثق جهاز سياسي مختلف عن النظام الديني والقانوني. إلا أن هذا التصور بقي في الفكر الاسلامي بنية فريدة من نوعها؛ إسلام منبثق من القرآن يتمثل في مفهوم الدين و الدولة. الكنيسة المسيحية من جهتها نشأت في ظروف مختلفة تماماً، فحتى عندما أصبحت المسيحية الديانة الرسمية للإمبراطورية الرومانية في القرن الرابع بقي الجهازان الديني و السياسي منفصلين، على الرغم من أن الكنيسة كانت تميل لفرض سلطتها على القادة المؤقتين في العصور الوسطى.
*السيكاري“ضاربوا الخناجر“ : هي حركة دينية سياسية انشأها يهوذا الجليلى في الفترة بين عامي 7366 ق.م أطلق عليها اسم سيكاري وهم يمثلون الاتجاه الأصولي السياسي لليهودية وتضم هذه الحركة مجموعة من اليهود المتطرفين دينياً وقد تشكلت هذه الحركة من تنظيم سري جاء من طائفة الزيلوت يعتبرها البعض أول منظمة إرهابية عرفها التاريخ وقد اورد ذكرها المؤرخ اليهودي يوسيفوس فلافيوس في كتابه تاريخ الحروب اليهودية مع الرومان الذي صدر في عام 78 للميلاد…المدققة
**الحشاشون: هي طائفة إسماعيلية نزارية، انفصلت عن الفاطميين في أواخر القرن الخامس هجري/الحادي عشر ميلادي لتدعو إلى إمامة نزار المصطفى لدين الله ومن جاء مِن نسله، واشتهرت ما بين القرن 5 و7 هجري الموافق 11 و13 ميلادي، وكانت معاقلهم الأساسية في بلاد فارسوفي الشام بعد أن هاجر إليها بعضهم من إيران. أسّس الطائفة الحسن بن الصباح الذي اتخذ من قلعة آلموت في فارس مركزاً لنشر دعوته؛ وترسيخ أركان دولته . كانت الاستراتيجية العسكرية للحشاشين تعتمد على الاغتيالات التي يقوم بها “فدائيون” لا يأبهون بالموت في سبيل تحقيق هدفهم. حيث كان هؤلاء الفدائيون يُلقون الرعب في قلوب الحكّام والأمراء المعادين لهم، وتمكنوا من اغتيال العديد من الشخصيات المهمة جداً في ذلك الوقت؛ مثل الوزير السلجوقي نظام الملك والخليفة العباسي المسترشد والراشد وملك بيت المقدس كونراد….المدققة
***التابورايت البوهيميين: حركة مسلحة وجدت سنة 1420 في اوربا تواجدوا في قلعة محصنة جنوب براغ، كانوا صارمين في تطبيق الكتاب المقدس المسيحي، رأسها في انطلاقها القس نيكولاس بيليهيموف، قاموا بهجمات عديدة على الكنائس التي يعتبرونها مهرطقة ومنحرفة عن الكتاب والمقدس وتدميرها تماما ..تم انتهاء الحركة بعد حملات مشتركة عليها من العديد من المدن الاوربية والممالك سنة 1452..المدققة
*4 تجديدة العماد: وهي حركة مسيحية إصلاحية، ظهرت في أوروبافي القرن السادس عشر على شكل جماعات متفرقة في ألمانيا وهولندا وسويسرا في فترة متزامنة مع بداية الإصلاح البروتستانتي. ولكنها كانت تقوم أيضا بمارسة السلطة بشكل وحيد في إبعاد الخطاة الذين لا يبدون مظاهر التوبة. عرف مجددي المعمودية بموقفهم الرافض للسلطة الكنسيَّة مما أدى بهم للتورط في حرب الفلاحين التي وقعت في جنوب ألمانيا…المدققة
*5 معاداة السامية anti-semitism (أنتى-سيميتيزم ) ، مصطلح يشير لعداوة عنصرية لليهود و ثقافتهم. معادة السامية أخذت فى فترات تاريخية صورة اعمال اجرامية منظمة ضد اليهود او ناس من خلفيه يهودية…المدققة
*6 الباروسيا (Parousia) : هي كلمة يونانية قديمة تعني الحضور أو القدوم أو الزيارة. يأتي الاستخدام الرئيسي لهذه الكلمة في علم اللاهوت بمعنى القدوم الثاني للمسيح أو عودة المسيح، واستخدمها البعض في إشارة إلى أحد القيامة (أي قيامة يسوع) لذا لم يعد استخدامها قاصرا فقط بمعنى القدوم الثاني والنهائي للمسيح..المدققة
*7 شبتاي تسفي أو سبطاي سوي ولد في إزمير غرب الأناضول سنة 1626 ومات بمدينة Dolcigno بألبانيا سنة 1675.
يرجع إليه إيجاد مذهب دونمة في تركيا، ولد لأب إشكنازي يشتغل بالتجارة، وكان إخوته أيضاً من التجار الناجحين. استنبط الحاخام الشاب سبطاي من النصوص الدنية العبرانية حسب منهج القبالاه أن ظهور المسيح سيكون سنة 1648 فاعلن نفسه مسيحا في ذلك التاريخ. تمت محاكمته من قبل السلطان العثماني محمد الرابع مما اضطره لاعلان اسلامه….المدققة
*8 غوش ايمونيم: ترجمة اسم هذه الحركة الدينية السياسية الإسرائيلية “كتلة الإخلاص والثقة ” وقد تأسست إثر حرب تشرين الأول عام 1973 وعلى وجه التحديد، في شهر شباط عام 1974. في بداية عام 1982 حاولت شبكة سرية اشترك فيها غوشيون تفجير ما أسموه “بالرجس ” قبة الصخرة والمسجد الأقصى، لاستنفار ملايين المسلمين في العالم للجهاد واندلاع حرب ياجوج ضد ماجوج وانتصار إسرائيل في آخر المطاف وذلك سيمهّد مجيء المسيح ويسرّع فيه..المدققة
*9 الهجوم على المسجد الحرام في مكة: هجوم قام به مجموعة من الارهابيين بقيادة جهيمان العتيبي وقام باحتلاله لتتدخل بعدها القوى الامنية السعودية بالاضافة الى قوة فرنسية لتحرير المسجد الحرام ..المدققة
المصدر: كتاب “تاريخ الإرهاب: من القِدَم إلى تنظيم القاعدة” 2007، جيرار شاليان و أرنود بلين