بواسطة الدراجات النارية والحافلات الصغيرة، وبإستخدام هويات مزورة وإتصالاتٍ مضطربة. هذه هي الطريقة التي ترك من خلالها الجاسوس والقائد العسكري السابق الدولة الإسلامية.
مع كل الإهتمام الذي يحيط بتنظيم داعش، يبقى ما هو معروف عن هيكليته الداخلية قليلاً نسبياً. لكن رجلاً يزعم بأنه قد كان عضواً فيما يعرف بإسم “خدمات أمن الدولة الإسلامية” قد تقدم ليعطينا فكرة عن ذلك المشهد الداخلي. تستند هذه السلسلة على معلومات جُمعت على مدى أيامِ من المقابلات مع جاسوس داعش هذا.
الجزء الرابع: الفرار من الدولة الإسلامية
إسطنبول ـ نظر أبو خالد إليّ عبر الطاولة الموضوعة في الجزء الخارجي من مقهى لتدخين الشيشة في منطقة “لاله لي” السياحية في إسطنبول. وعبر الشارع، تنعطف السيارات نحو بعضها البعض في كلّ ثانية من ذلك التقاطع المزدحم، فيما تُعلن المتاجر الواقعة تحت الأرض تقريباً، والتي تكاد واجهاتها أن تكون نصف مدفونة تحت مستوى الرصيف، عن كُلّ شئ بدءاً من الهواتف المحمولة، ومعاجين الأسنان، وحتى أحدث صيحات الموضة في ملابس النساء ـ أو، على أية حال، تلك البضائع المقلدة الرخيصة المعروضة لأولئك الذين لا يعرفون الفرق أو لا يهتمون كثيراً بذلك. ووسط ضجيج هذه المدينة العالمية، جاءت دعوة المؤذن للصلاة، تزامناً مع تيارٍ متواصل من موسيقى البوب الأوروبية الفظيعة التي كانت تُبث من خلال مُكبر الصوت في المقهى، والذي طالبنا عبثاً بإخفاض صوته.
على الرغم من قيام تنظيم داعش بالضرب داخل العُمق التركي قبل إسبوع، فإن المنظمة التي تُطلق على نفسها إسم الدولة الإسلامية، لا تزال بعيدة جداً. في الواقع، أخبرني أبو خالد بأن الأشخاص الذين يديرون التنظيم يريدون من رعاياهم أن يعيشوا في عالمٍ خاصٍ بهم، مجرد عقول أسيرة في مجتمعٍ مُنغلق. لكن العالم الحقيقي مكانٌ صغير جداً، حيث قال هذا المُنشق عن جهاز إستخبارات تنظيم داعش بأنه لم يكن الوحيد الذي ساورته الشكوك والإضطرابات.
قال أبو خالد، “لقد بدأ الناس بالإستياء حيال كل ذلك الكذب. إذا ما أردت قراءة الأخبار، فليس هنالك تلفاز، بل مجرد صحيفة لتنظيم داعش، أو أخبار الدولة الإسلامية. وهي تقول بأننا لا نزال في كوباني.” وهي المدينة الكردية التي تمت إستعادتها من تنظيم داعش بمساعدة قصف غارات جوية شنتها الولايات المتحدة الأميركية العام الماضي.
يتنافس الكذب المنتشر في أرض الخلافة مع مناخٍ من تبادل الإتهامات والإستنكار المتواصل: حيث يتم بث دقيقتين من الكراهية الموجهة ضد الجميع كل يوم. وعادة ما يكون موجهي التهم من المهاجرين، أو المقاتلين الأجانب من غير السوريين، والذين لم يقضوا في حياتهم ما مقداره واحد في المئة مما قضاه معظم سكان مدينة الباب في سوريا. إنهم مجرد عصابة متغطرسة وجامحة، والنظرة إليهم كقواتٍ محتلة تزداد تدريجياً، بحسب أبو خالد.
إنهم يعتبرون أنفسهم متفوقين، وأقدس منك وفقاً للتعبير الصحيح عن ذلك. “فأولاً وقبل كل شئ، وبالنسبة للمقاتلين في تنظيم داعش ـ لاسيما الأجانب منهم ـ فإن كل شخص في مدينة الباب، وكل شخص في سوريا كافر.” سادت فترة صمت، ثم أضاف، “إنهم يُعاملون الناس بهذه الطريقة، وهذا خطأ. حتى بحسب معايير تنظيم داعش، فإن ذلك خطأ واضح. إنهم مسلمون، ويجب أن تتم معاملتهم كمسلمين.”
“الأجانب يعلمون السوريين كيفية الملبس، وكيفية العيش، وكيفية تناول الطعام، وكيفية العمل، وكيفية قص شعورهم. ربما تكون مدينة الباب المكان الوحيد في العالم الذي لا يتواجد فيه صالون حلاقة. إنها جميعاً مُغلقة الآن. يتوجب عليك أن تحتفظ بشعرٍ طويل، أو أن يكون شعرك بنفس الطول في كل جهات الرأس.حتى بالنسبة إليك،” أومأ أبو خالد مخاطباً مراسل الديلي بيست الأشعث الشعر، “فمع لحيتك هذه، سوف تقضي 30 يوماً في السجن. إنها أقصر من اللازم. لا يمكنك قص لحيتك، ولا تشذيبها. عليك أن تتركها لتنمو.”
وكما هو الحال تحت حكم الرئيس السوري بشار الأسد، فإن تنظيم داعش يقوم على أساس جوٍّ من الشك المتبادل، حيث يُمكن لنكتة شاردة أو مراقبة ناقدة أن تؤدي بك إلى القفص، أو ما هو أسوأ. يُعتبر أبو خالد ثرثاراً وهو متعجب من كونه لم يُقتل قبل أن يتمكن من الفرار. “في إحدى المرات، قال لي أحد الرجال، “هل ترى هذا النصر ضد الجيش السوري الحر؟ إنه بسبب قتال الله إلى جانبنا! فقلتُ له في حينها، “لماذا إذن لم يقاتل الله وملائكته معنا عندما كنا نقاتل الأكراد في كوباني؟”
ولهذا أخبروا أبو خالد بأنه سيفقد رأسه إذا ما واصل التحدث بتلك الطريقة.
***
لم تتوجه سخرية أبو خالد نحو تبجح المهاجرين فقط. فقد كان أبو خالد حاضراً في معركة كوباني، البلدة الكردية الحدودية في شمال سوريا والتي حاصرها تنظيم داعش طوال أشهر قبل أن يتمّ تحريرها في نهاية المطاف، بفضل سلاح الجو الأميركي بشكلٍ كبير. وقد شهد أبو خالد عن كثب مدى ضعف قتال جنود تنظيم داعش، حيث كانوا مثل قوات أف أكثر من كونهم من قوات دلتا الخاصة.
“في اليوم الأخير من شهر رمضان، أدركت لأول مرّة بأنّ مقاتلي تنظيم داعش غير مدربين بشكلٍ جيد.” حيث كان أبو خالد يقود مهمّة ضد كوباني، وعسكر مع رجاله في العراء بالقرب من صرين، وهي واحدة من البلدات المجاورة التي يُسيطر عليها التنظيم في ريف حلب. حيث قرّر مهاجمة مجموعة من القرى التي تُسيطر عليها القوات الكردية.
كان أبو خالد قائداً لثلاث وحدات في تنظيم داعش. وقد تم إرسال واحدة من تلك الوحدات إلى خلات حديد، والأخرى إلى قرية نور العلي، والثالثة إلى قرية رأس العين الصغيرة. بدأ الهجوم في الساعة الواحدة صباحاً وأستخدمت فيه القذائف، ومدافع الهاون، والدبابات.
قال أبو خالد، “أستولينا على بلدة خلات حديد خلال 45 دقيقة. قبل أن يفرّ رجالي.” فسألته، “هل قاموا بالفرار؟” فردّ بالإيجاب. “إنها حرّة”، قالوا لي، ويقصدون بأنها مُحررة. وقد بدا بأنهم لا يفرقون بين سقوط القرية والإستيلاء الدائم عليها. وفي الوقت نفسه، رفضت الوحدتان الأخرتان دخول القرى المخصصة لهم. حيث قالوا، “لقد فات الأوان، وكذا وكذا،” تذكر أبو خالد ذلك بإشمئزاز. ولذلك عادوا إلى مدينة صرين وهم يشعرون باللامبالاة أكثر من شعورهم بالهزيمة. ثم بدأت قوات التحالف بضرب مواقع تنظيم داعش في الساعة الرابعة صباحاً. قتلت الطائرات الحربية 23 من رجال أبو خالد في غضون بضع دقائق.
إستجوب أبو خالد رجاله لمعرفة أسباب عدم قتالهم في تلك الليلة. “لماذا لم تذهبوا لإحتلال القرى؟” سأل أبو خالد بعضاً من أولئك الذين ذهبوا بدون إذن، وأضاف، “أنا أقصد، بأننا كنا ثلاث وحدات، وقد شنت واحدة هجوماً، فيما لم تهاجم الوحدتان الأخرتان.”
فكانت إجابتهم بأنهم قد سئموا من إرسالهم إلى الموت المحقق.
“نحن نمتلك شاحنات نقل صغيرة ومدافع رشاشة، والأميركان يحلقون فوقنا جميعاً. فما أن غادرنا المدينة، حتى تم قصفناً. ولكن عندما عدنا إلى البلدة، فقد كنا بخير. لأن البلدة لم يسبق أن تعرضت للقصف. ومن ثم قام الأكراد بمحاصرة البلدة، ولذلك هربنا، وقمنا بتدمير جميع سياراتنا، ومركباتنا وأسلحتنا. لقد قمت بتدمير سيارتي الخاصة.”
يُقدر أبو خالد بأن تنظيم داعش قد خسر ما يقرُب من 5000 رجل في محاولته اليائسة لإحتلال مدينة كوباني. لقد ذهبوا مثل قوارض تُساق إلى الهاوية، من دون أي تدبّر إستراتيجي بشأن الطريقة الأمثل لمحاربة أقوى سلاح جو في العالم وواحدة من أبرع المجموعات المسلحة في سوريا.
قال أبو خالد، “كل من كنتُ أعرفه في تلك الفترة ميتٌ الآن. لقد أشرفت على تدريب كتيبة تركية، ضمّت حوالي 110 رجل. وقد توجّب علينا إيقاف التدريب بعد إسبوعين لأنه توجّب عليهم الذهاب إلى كوباني. وقد قتلوا جميعاً بإستثناء ثلاثة. ولم يعُد بإمكان هؤلاء الثلاثة أيضاً أن يحاربوا بعد الآن. لقد رأيتُ أحدهم قبل إنشقاقي ببضعة أيام. وقال لي، “لا أريد العودة مرّة أخرى.”
وضّح أبو خالد مدى عدم الكفاءة التي وجد بها مشاة تنظيم داعش. وإستعمل آنية المائدة الفضية لتفسير ذلك. “ههنا كوباني،” قال وهو يضع الشوكة على طاولة المقهى. ثم وضع ملعقة وقال، “وهنا أرضٌ مفتوحة، على بعد خمسة كيلومترات من أول موقع لتنظيم داعش.” وأضاف، “عندما نرسل المقاتلين إلى كوباني، فإننا كنا نرسلهم الواحد تلو الآخر، سيراً على الأقدام. فيما يتم إيصال الخدمات اللوجستية لهم ـ من سلاح وطعام ـ بواسطة دراجة. وفي معظم الوقت، لا تتمكن الدراجة من الوصول، حيث تصيبها غارة جوية. لذلك يدخل الذين يقومون بذلك إلى المنازل.”
كان يُطلب منهم البقاء داخل المنزل وعدم القيام بأيّ شئ. ويبقون هناك لمدّة يومٍ أو يومين. ثم، لا شك أن يقوم أحدهم بإخراج رأسه من النافذة. ثم قام أبو خالد بضرب الطاولة بعنف، “ثم يتم قصف المنزل ويُقتلون جميعاً.” ثم أطلق ضحكة ساخرة، وقال، “لقد بدأ الناس يعتقدون بأن هنالك مؤامرة من تنظيم داعش لقتل الجميع.”
كما وجد أيضاً بأنه من المُلفت للنظر، أنه وطوال الأشهر العديدة لحصار كوباني، كان مقاتلو تنظيم داعش يجيئون ويذهبون كما يحلو لهم عبر الحدود السورية ـ التركية. كما أن ثاني أكبر جيش في حلف شمال الأطلسي، والذي نشر جنوداً، ودبابات، وناقلات جند مدرعة على مسافة بصقة، والتي تفصله عن واحدة من أشد مناطق النزاع ضراوة في سوريا، لم يفعل شيئاً تقريباً، عدا قيامه بتوجيه خراطيم المياه بين الحين والآخر على الأكراد الذين يحاولون الفرار إلى تركيا.
قال أبو خالد، “أنا لا أعرف طبيعة العلاقة بين تركيا وتنظيم داعش. فخلال معركة كوباني، وصلت شحناتٌ من الأسلحة للتنظيم من تركيا. وحتى الآن، يذهب المصابون بإصاباتٍ بالغة إلى تركيا، بعد أن يقوموا بحلق لحاهم، وقص شعورهم، والذهاب إلى المستشفى. في كوباني، أطلعني أحدهم على صور يظهر فيها رجال من تنظيم داعش وهم يتناولون البطاطا المقلية والهمبرغر في مطاعم ماكدونالدز. أين إلتقطوا مثل تلك الصور؟ في تركيا.”
قضى أبو خالد الكثير من الوقت في جنوب تركيا ويقول بأن المتعاطفين مع تنظيم داعش لا يحاولون حتى إخفاء جهود نشر هذه العقيدة هناك. ففي بلدة كيليس الحدودية، هنالك مسجدان رئيسيان، بحسب أبو خالد. “هذا المسجد تابع للدولة الإسلامية. وعندما تذهب إليه، يقول الجميع، “هل تريد الذهاب إلى سوريا؟” لأنهم يقومون بترتيب السفر إلى هناك ذهاباً وإياباً. والمسجد الآخر تابع لجبهة النصرة، التابعة لتنظيم القاعدة في سوريا.”
أثناء غزو الموصل في حزيران ـ يونيو من عام 2014، إحتفظ تنظيم داعش بـ 49 رهينة، بما في ذلك دبلوماسيين، وجنود، وأطفال، بعد مداهمته للقنصلية التركية هناك. وقد تم الإفراج عنهم، بعد ثلاثة أشهر، من دون تقديم تفسير واضح من كلا الجانبين، ممّا يُثير الشكوك في أن أنقرة قد قامت بدفع فدية مالية أو أنها قد قامت بصفقة تبادل أسرى مع تنظيم داعش. قال أبو خالد بأنه يعرف على وجه اليقين بأن صفقة تبادل قد جرت لأنه إلتقى بإثنين من الجهاديين الذين تمت مبادلتهم مقابل الأسرى التسعة والأربعين.
“كانوا أسرى من الجيش السوري الحر،” قال أبو خالد، “وقد تم إحتجازهم لمدة سبعة أو ثمانية أشهر. لكن، ومباشرة بعد إعتقال تنظيم داعش للأتراك، وفي غضون 24 ساعة، أخبرني هؤلاء الرجال بأنه “قد تم نقلهم إلى عهدة المخابرات التركية، التي قامت بأخذهم على متن طائرة إلى إسطنبول.” لم يتم التحفظ على معتقلي تنظيم داعش في أحد السجون، كما يقول أبو خالد وفقاً لما أخبره به مخبروه، وإنما في “مبنى جميل” مع حراسة على مدار الساعة. “لقد تلقوا رعاية جيدة، ومن ثم جرت مبادلتهم.”
****
في نهاية المطاف، أصبحت الوحشية وعدم الكفاءة والأكاذيب أكثر بكثير من طاقة أبو خالد على التحمل. لكنه كان يشغل منصب وكيل أمن الدولة، في جهاز أمن دولة الخلافة؛ لذلك، لم يكن بإمكانه الفرار ببساطة من قبضة التنظيم، فكان عليه التخطيط والإعداد لعملية هروبه، وأن يأمل في ألاّ يتم إلقاء القبض عليه والتخلص منه في مرحلة التخطيط والإعداد.
قال أبو خالد، “عندما تكون في الخدمة السرية، فإن كل شئ تحت السيطرة. لا يمكنك ترك أراضي الدولة الإسلامية ببساطة. وقد كان الأمر صعباً بالنسبة لي على وجه التحديد لأن كل الحدود مُسيطرٌ عليها من قبل مخابرات الدولة. وقد عملت على تدريب أولئك الرجال! ومعظمهم يعرفني. لقد كنتُ معروفاً جداً في مدينة الباب. وقد كان ذلك أيضاً ما تمكنت من الخروج بفضله.”
كان إنشقاق أبو خالد حدثاً قريباً جداً. وقد بدأ الأمر مع صديقٍ له في مدينة الباب يقوم بعملٍ غير قانوني يتضمن طباعة هويات مزورة، من ذلك النوع الذي لا يزال يُصدره نظام الأسد. حيث أن طريقة عمل مراقبة حدود تنظيم داعش تعني إنك إذا ما كنت مجرد مدني، فإنك على الأكثر ستكون قادراً على المجئ والذهاب كما يحلو لك، بشرط أن تمتلك بطاقات هوية شخصية. كان جواز سفر “أبو خالد” لا يزال في حوزة “الموارد البشرية” في الرقة. لذلك كان أبو خالد بحاجة لأوراق مشابهة لتلك الوثائق الأصلية. أطلعني الرجل على الهوية التي حصل عليها لقاء 20 دولار أميركي. وقد حملت صورة شخصية له تظهره تماماً كما كان يجلس أمامي في إسطنبول: حليق الذقن. وقال بأنه قد إلتقطها قبل فترة من إنضمامه لصفوف التنظيم. وقد شدّد على ألاّ تحمل تلك الوثيقة حتى شبح تشابه مع المظهر الذي تبنّاه لمدّة عامٍ تقريباً كجهادي.
قرّر الرجل أن يخطو الخطوة في أوائل أيلول ـ سبتمبر. وقد ذهب منفرداً، على الأقل في بادئ الأمر. “عندما غادرت، لم أخبر زوجتي. أخبرتها فقط بأنني أريد الذهاب إلى الرقة. “لدي شئ للقيام به في الرقة”، قلت لها وقد تركت سلاحي في المنزل ـ بندقية الكلاشنكوف AK. وأخذت معي مسدسي. إذا ما كنت عضوا في تنظيم داعش، فعليك أن تكون مسلحاً في الشارع. إرتديت بزّتي النظامية، وغادرت المنزل في السابعة صباحاً. ذهبتُ إلى منزل صديقي، نفس الشخص الذي زودني بالهوية. فقمتُ بتغيير ملابسي، وتركتُ سلاحي في منزله. أعطاني الرجل الهوية الجديدة. قمت بقص لحيتي، ليس بشكلٍ كامل، لأنني لم أرغب في أن يتمّ القبض عليّ بسبب حلق اللحية. لكنني بدوت قريباً من الصورة في الهوية.”
إستقلّ أبو خالد دراجة نارية من مدينة الباب وإنطلق بها إلى مدينة منبج. ومن هناك، إستأجر حافلة صغيرة أخذته إلى مدينة حلب. يقول أبو خالد إنه كان في إمكانه إستئجار حافلة من مدينة الباب في الواقع، لكن وبسبب حقيقة إمتلاك تنظيم داعش لعناصر أمن يقومون بإيقاف الحافلات عند كل محطة للتحقق من هويات المسافرين. فقد كان متأكداً بأنه سيتم التعرف عليه في مدينة الباب. لكن العملاء الأمنيين في مدينة منبج لم تكن لديهم أيّة فكرة عن هويته. “أعطيتهم الهوية المزورة.” فسمحوا له بإستقلال الحافلة.
وما أن وصل أبو خالد إلى حلب ـ الأراضي التي يُسيطر عليها المتمردون، وليس تنظيم داعش ـ حتى إتصل بزوجته على الفور. “أخبرتها بأن “عليها أن تغادر في ظرف ساعة واحدة.” وأخبرتها أن تقوم بجمع متعلقاتها الشخصية، وبعض الملابس التي ترتديها، في حقيبة صغيرة، وأن تأخذ سيارة أجرة. وفي غضون 45 دقيقة، كانت في الطريق إلى حلب، مع والدتها، وشقيقها، وشقيقتها. وبعد مرور ساعتين أو ثلاث، كانوا جميعا هناك.”
اليوم، أسّس أبو خالد بنفسه قوة مقاتلة جديدة ـ لمقاتلة تنظيم داعش ونظام الأسد على حدٍ سواء. ومن الواضح أن لواء أحرار الشام الإسلامي قد ساعده في تمويل البدء بجيشه، على الرغم من قوله بأن كتيبته لا تزال مستقلة. “لقد أعطونا 10.000 ليرة سورية، وهذا يعني تقريبا 20 دولار أميركي لكل جندي.” وهذا هو الحد الأدنى للراتب الشهري اللازم للإبقاء على ميليشيا صغيرة في سوريا.
قال أبو خالد، “هنالك لوائين من تنظيم داعش يقاتلاننا في شمال حلب. وأنا أعرف أمير كلٍ منهما. أحدهما من المغرب، والآخر من ليبيا. وأنا أعرف كيف يفكران وكيف يقاتلان.”
سألتُ أبا خالد مرة أخرى عن سبب بقائه في سوريا، خصوصاً مع الهدف المعلّم على ظهره ـ والذي يستهدف زوجته وعائلتها أيضا.
فإذا ما كان في إمكانه الوصول إلى إسطنبول من دون مضايقات، فإن زوجته قد تفعل ذلك أيضاً. وسألته مرة أخرى: ألا يريد قسطاً من الراحة، بعد كل ما مرّ من خلاله؟ فهزّ رأسه بالنفي، وقال، “أنا لستُ خائفاً من الموت.”
تجولت مع أبو خالد من منطقة “لاله لي” وحتى منطقة “السلطان أحمد” في إسطنبول. فطلب مني زيارة المسجد الأزرق، ذلك الصرح العثماني الشهير. قد تكون تلك المرة الأخيرة التي سيتمكن فيها من رؤيته، ولهذا وجدتُ نفسي ملزماً بتنفيذ ذلك. وكان على جميع الزائرات، وكما تُشير علامات الإرشاد الموجودة في كل مكان، إرتداء الحجاب إحتراماً للمكان. لكن وما أن إجتزنا ساحة جامع السلطان أحمد، حتى شاهدنا إمرأة في العشرينيات من عمرها. وكانت ترتقي السلالم حاسرة الرأس. ولكن أحداً لم يمنعها من الدخول. نظر أبو خالد إليها، وقال كما لو أنه قد تلقى وحياً مُلهماً، “سوف تعود سوريا هكذا مرة أخرى يوماً ما.”
تجولنا حول باحة المسجد الأزرق لفترةٍ وجيزة قبل أن نخرج متجهين إلى ميدان سباق الخيل. توقف أبو خالد لثانية وحدّق في السماء. ثم قال، قبل أقل من إسبوع، قصفت طائرة حربية روسية موقعاً لا يبعُد كثيراً عن منزله الجديد في حلب، فإهتزت جدران منزله. ثم أضاف، “لقد علّم بشار كل سوري أن يحدّق في السماء. ههنا لا توجد طائرات.”
المصدر: هنا