بقلم: مايكل ويس
التحدث إلى الفتيات، والكذب في المحكمة، وشرب البيرة، كلها من بين آلاف الأشياء التي يُمكن أن تقودك للتعذيب في الدولة الإسلامية. هذا بالطبع إذا لم تكن مشتبهاً في كونك تتجسس لصالح السي آي أي، فعندها ستفقد رأسك.
مع كل الإهتمام الذي يحيط بتنظيم داعش، يبقى ما هو معروف عن هيكليته الداخلية قليلاً نسبياً. لكن رجلاً يزعم بأنه قد كان عضواً فيما يعرف بإسم “خدمات أمن الدولة الإسلامية” قد تقدم ليعطينا فكرة عن ذلك المشهد الداخلي. تستند هذه السلسلة على معلومات جُمعت على مدى أيامِ من المقابلات مع جاسوس داعش هذا.
الجزء الثالث: وزارات الخوف
إسطنبول ـ “لديهم قفص في هذه الساحة،” قال أبو خالد، واصفاً المكان الذي يُنفذ فيه تنظيم داعش أحكامه في مدينة الباب، وهي البلدة السورية التي كان أبو خالد يخدم فيها حتى وقتٍ قريب ضمن جهاز أمن دولة ما يُعرف بالدولة الإسلامية. وهو ذات المكان الذي تجري فيه عمليات قطع الرؤوس من وقتٍ لآخر. ولكن القفص موجودٌ دائماً هناك، وهنالك شخصٌ ما في داخله على الدوام تقريباً.
“إنهم يقومون بوضع الناس في القفص لمدة ثلاثة أيام، ويعلنون عن سبب وجوده هناك،” هذا ما أخبرني به الرجل الذي سندعوه أبو خالد في واحدة من لقاءاتنا على مدى ثلاثة أيام في إسطنبول الشهر الماضي. ثم أضاف قائلاً، “في إحدى المرات، توجه رجلٌ إلى المحكمة كشاهد، وأدلى بشهادة كاذبة، فوضعوه في القفص لمدة ثلاثة أيام. وتجول أحد الأشخاص مع فتيات غير متزوجات ولسن من أقاربه، فأمضى ثلاثة أيام في القفص. أما بالنسبة للسجائر، فقد تقضي هناك يوماً واحداً، أو يومين، أو ثلاثة. الأمر يعتمد عليهم.”
كان أبو خالد يصف مكاناً تواجدتُ فيه من قبل. فقد كنتُ في مدينة الباب في رمضان عام 2012، في الأيام الأولى نسبياً من الثورة ضد نظام الأسد، عندما كانت المدينة لا تزال تحت سيطرة قوات متمردة محلية، وكنت أرى كيف كانت تلك الساحة تنبض بالحياة ليلاً عندما يتحول النشطاء والمتمردون، أو المدنيون المحليون إلى طواقم تنظيف ـ كُناس الشوارع السوريون الأحرار ـ ليقوموا بإلتقاط المخلفات والأنقاض التي يخلفها قصف النظام، أو ليعملوا في مستشفيات ميدانية تُقام في قبو المسجد المحلي، لأن المستشفى الفعلي في مدينة الباب كان قد تم إستهدافه من قبل الجيش السوري ولحقت به أضرارٌ بالغة.
حتى إنه كان هناك مقهى يبقى مفتوحاً طوال الليل في تلك الأيام حيث يُمكنك مشاهدة الأخبار الدولية، وشرب العصائر، وتدخين الشيشة، والحديث بدون توقف عن كل شئ وأيّ شئ، من دون أن تخشى إمكانية أن تكون إستخبارات الأسد تستمع إليك. كل ذلك قد إنتهى الآن، أكد لي أبو خالد. فقد تم إغلاق المقهى. لا أحد يخرج ليلاً بعد الآن بسبب فرض تنظيم داعش لحظر تجوال. والسكان المحليون يشعرون بالقلق حيال كل ما يقولونه، ولمن.
فكما هو الحال مع بشار الأسد وصدام حسين، كذلك الحال مع أبو بكر البغدادي. فتنظيم داعش بالتأكيد مصاب بجنون الشك حيال مسألة الإختراق، وتبدو حملات الإعتقال البربرية التي يشنها بهدف إعتقال أفراد الطابور الخامس والعملاء الأجانب قائمة على فكرة الإستباق بدلاً من إنتظار الهجوم. يجب إبقاء حالة من الخوف لمنع الناس من مجرد التفكير في المقاومة. وفي حالات الهيجان، يقوم تنظيم داعش، لا محالة، بإلتهام بعضٍ من أفراده. “في إحدى المرات، قاموا بقطع رأس رجل كويتي قالوا بأنه يعمل لحساب الإستخبارات البريطانية M16. لقد كتبوا على جسده بأنه جاسوسٌ بريطاني ـ وقد كان رئيساً لجهاز الأمن في مدينة الباب.”
أخذ أبو خالد، بوجهٍ جامد خالٍ من التعابير، نفساً طويلاً من سيجارته المارلبورو وإرتشف بعضاً من الشاي في المقهى الإسطنبولي حيثُ كنا نتحدث.
يقول المنشق عن تنظيم داعش بأن جنون العظمة ذلك قائم على أسس تدعمه. حيث قال بأنه يعتقد بأن تنظيم داعش يُدار بالتأكيد من خلال جواسيس ومخبرين من جميع الإتجاهات. وقال بأن رجلاً روسياً وجد بأنه يعمل لخدمة فلاديمير بوتين. “كان لديهم فيديو، وقد إعترف فيه. لا إعرف إذا ما كان ذلك تحت الضغط أم لا، لكنه إعترف.” وهنالك رجلٌ آخر، فلسطيني، أتهم بالعمل لحساب الموساد. وقد تم إعدام كليهما.
سرد أبو خالد قائمة بجرائم الخيانة العظمى: “العمل لصالح الجيش السوري الحر، وهو جمعٌ يُزعم بأنه يضم جماعات متمردة معتدلة، وعقوبة ذلك الإعدام. فضلاً عن العمل مع المخابرات، السي آي أي، أو مع الأجانب ـ وعقوبة ذلك الإعدام أيضا.”
كان هنالك مثالٌ واحد على وجه التحديد لا يزال حياً في ذهنه. “في إحدى المرات قاموا بإعدام أحد الرجال، لأنه كان يقوم بإلقاء شرائح هاتف SIM cards بجوار المناطق التي يُبقي فيها تنظيم داعش خدماته الحكومية.” سألته،”شرائح هاتف؟” وواصل أبو خالد تسميتها بهذا الإسم. لكن، سرعان ما تبين بأنه كان يُشير لأجهزة تعقب ـ ربما تعتمد على نظام GPS، أو ربما نوعٌ ما من RFID، أو رقائق تحديد تردد الأشعة الراديوية، التي تبعث إشارات يُمكن إلتقاطها بواسطة الطائرات والطائرات بدون طيار التابعة للتحالف. قال أبو خالد، “كانت تلك لمساعدة طائرات التحالف على رصد الأهداف.” ثم أضاف، “فألقوا القبض على الرجل. فقطعوا رأسه وتركوا جسده ورأسه لتتعفن في الساحة لمدة ثلاثة أيام. لقد ثبتوا رأسه على عصا.”
***
يسيّر تنظيم داعش، مثله مثل كل الممالك والديكتاتوريات الأخرى، شرطة آداب لدعم قواعد الشريعة، وهو ما يطلقون عليه إسم “الحسبة”.
إذا لم يُعجبك الخبز العربي في المطعم المحلي الذي ترتاده؟ عليك إستعداء الحسبة. إذا ما إعتقدت بأن المكان غير نظيف أو تعجّ به الطفيليات؟ إتصل بالحسبة. ثم قال، “إنهم أشداء للغاية. فإذا ما وجد بأن مطعمك غير نظيف، فسيقومون بإغلاقه لمدة 15 يوماً حتى تمتثل للقوانين.”
كما أن ما تستهلكه في أرض الخلافة منظمٌ بشكلٍ كبير بالتأكيد. الكحول حرام، وإذا ما وجدت وأنت تشرب، فمن المُرجح أن يتم جلدك 80 جلدة هناك في الساحة المركزية من مدينة الباب كعقاب.
قال أبو خالد، “تتجول الحسبة في الأرجاء لتتفقد ما يفعله الجميع. في مدينة الباب، ربما يتواجد 15 أو 20 منهم. ليس عددهم بالكبير، ولكنك ستراهم في كل مكان. لديهم شاحنة صغيرة ومكبّر صوت ويصرخون: “إنه وقت الصلاة! إذهبوا إلى المسجد! أسرع! إغلق محلك. أنتِ، أيتها المرأة، غطّي وجهك!”
“تعيش النساء في خوف في مدينة الباب،” قال أبو خالد، “بالإمكان رؤية إمرأة تسير في الشارع، وأحياناً يصعُب عليها أن ترى في الليل بسبب النقاب ـ الخمار الذي يغطي وجهها بالكامل. من الصعب جداً أن ترى من خلال النقاب في النهار، والأمر يزداد سوءا في الظلام. ثم تسمع، “غطّي رأسك! إذهبي إلى المنزل!”
لكن تنظيم داعش لا يستطيع الإعتماد على الخوف كلياً في حكمه، لأنه يحتاج لإستقدام مجندين جدد طوال الوقت، لذلك فإن التلقين جزء كبير من برنامجه. لذا فإنه يقبل متطوعين من الجيش السوري الحر المكروه، ومن مختلف الميليشيات الإسلامية، أو من جبهة النصرة، فرع تنظيم القاعدة في سوريا والذي إنشق عنه تنظيم داعش في عام 2014. لكن التنظيم يجعل حاجز الدخول إليه عاليا ويحدد من خياراتهم في التكليف. فعلى الشخص الذي ينضم إليهم بعد أن خدم في مجموعة مناوئة حضور معسكر إعادة تأهيل على الطراز الماوي لمدة ثلاثة أشهر، وعليه إعلان “التوبة”. ومنذ ذلك الحين، ستفرض عليك قيود مدى الحياة لما يُمكنك القيام به، والأماكن التي بإمكانك الذهاب إليها.
“لا يُمكنك البقاء أو العودة إلى مدينتك الأم. دعنا نفترض أنني من مدينة الباب وكنت أعمل لصالح الجيش السوري الحر. والآن، أريد الإنضمام إلى صفوف داعش. حسنٌ، سيتوجب عليّ الذهاب إلى المعسكر لمدة ثلاثة أشهر، وبعد الأشهر الثلاث تلك، سيقومون بإرسالي إلى مكانٍ آخر لمدة سنة واحدة، وليس لي حق العودة إلى مدينة الباب بعد ذلك.”
ولأن الخلافة تريد إنشاء أجيال مستقبلية من الجلادين الراغبين في ذلك، فإنها حريصة جداً على تثقيف الشباب بفكرها أيضاً.
وجّهَ التنظيم الدعوة للمعلمين السابقين في سوريا لتعليم الطلاب مرة أخرى في المدن التي يُسيطر عليها، ولكن سيتوجب عليهم أخذ دروس لمدة ثلاثة أشهر، وأن يعلنوا توبتهم لأنهم عملوا مع النظام السابق. والتعليم المنزلي حرام لأن المناهج لا يُمكن السيطرة عليها. يَعرف أبو خالد مُدرساً للغة الإنجليزية تم إعتقاله لقيامه بتدريس الطلاب في منزله.
كما توجد أيضاً إمتيازات وإعفاءات واضحة لأولئك الذين يمتلكون القليل من السلطة في الدولة، أو طبقة النومينكلاتورا في الدولة الإسلامية. [طبقة النومينكلاتورا هي الطبقة الحزبية الحاكمة في الاتحاد السوفييتي السابق، المُترجم]
كان أبو خالد، مثل بقية أعضاء تنظيم داعش، يتلقى مبلغا قدره 100 دولار أميركي شهرياً، تُدفع له بالعملة الأميركية، وليس بالليرة السورية، على الرغم من أن الأخيرة هي عملة التعامل اليومي في مدينة الباب. تتواجد محلات صرافة العملة في المدينة حيث يستطيع موظفو تنظيم داعش أخذ رواتبهم بهدف التحويل، على الرغم من ندرة الحاجة للقيام بذلك، نظراً للخدمات المجانية التي تُرافق العمل مع التنظيم.
قال أبو خالد، “لقد قُمتُ بإستئجار بيت، وقد كان التنظيم يدفع الإيجار. وكان ذلك يُكلف 50 دولاراً أميركياً في الشهر. لقد كانوا يدفعون الإيجار وقوائم الكهرباء. فضلاً عن ذلك، أنا متزوج، ولذلك كنت أحصل على مبلغ 50 دولار إضافية شهرياً لزوجتي. إذا ما كان لديك أطفال، فستحصل على مبلغ 35 دولار أميركي لكلٍ منهم. وإذا كان لديك والدين، فإنهم يدفعون 50 دولار أميركي لكلٍ من الوالدين. إنها دولة رفاه.”
“هذا هو سبب إنضمام عددٍ كبير من الناس إليهم،” قال أبو خالد، “كنت أعرف عامل بناء. كان يتقاضى مبلغ 1000 ليرة سورية في اليوم. هذا لا شئ. الآن، وبعد إنضمامه إلى تنظيم داعش، فإنه يحصل على 35000 ليرة سورية ـ 100 دولار أميركي لنفسه، و50 دولار لزوجته، و35 دولار لكلٍ من أبنائه. إنه يجمع بحدود 600 إلى 700 دولار شهرياً؛ لذلك تخلى عن مهنة البناء. إنه مجرد مُقاتل الآن، لكنه إنضم من أجل المال.”
يبحث تنظيم داعش عن دولة مُرتبة؛ لذلك يحتفظ بديوان الخدمات، أو مكتب الخدمات، الذي شبهه أبو خالد بالمجلس البلدي. هناك، أيضاً، البيروقراطية مثيرة للإعجاب. حيث يتضمن ديوان الخدمات قسم الصرف الصحي، وقسم إدارة الحدائق، وقسم منح تراخيص البناء، وقسم الطاقة الكهربائية. كما يدير التنظيم أيضاً قسم الزراعة، لزراعة الحقول التي إشتراها التنظيم، أو تمت مصادرتها في أحيانٍ كثيرة من أعداء الدولة.
أي شخص مطلوب من قبل تنظيم داعش ويتمكن من الهرب تتم مصادرة جميع أمواله وأصوله. قال أبو خالد، “الأرض، والمنازل، والمتاجر، وكل شئ. كان المبنى الذي أقطن فيه في مدينة الباب يعود لرجلٍ إتهموه بالعمل لحساب النظام؛ لذلك قاموا بالإستيلاء على المبنى بالكامل. وجاءوا بإشعار إخلاء لجميع من كان يعيش هناك، جاء فيه، “لديكم 24 ساعة لمغادرة المبنى.”
يتوجب على جميع الشركات دفع الضرائب ـ وهناك جمع لذلك شهرياً، يُدار من قبل ما يعرف بالجباية، أو دائرة الإيرادات الداخلية لتنظيم داعش، والذي سيكون من الغباء أن تتهرب منهم أو أن تحاول خداعهم. كما تقوم الحسبة أيضاً بدوريات مثل المنفذين الغوغاء لتفقد جميع الشركات المحلية والتأكد من أنهم يتقاضون مبالغ مناسبة عن السلع والخدمات، ويحتفظون بدفاتر حسابات دقيقة. قال أبو خالد، “يتوجب عليك دفع نسبة مئوية، مثل 2.5 في المئة من إجمالي مبيعاتك لتنظيم داعش.” سألته، “هل تقشط الحسبة سطح الدخل؟” فردّ أبو خالد بالإيجاب.
كما يفرض تنظيم داعش أسعاراً يختارها بنفسه لقاء الكهرباء النادرة. “عليك أن تدفع ثمن الماء. وعليك أن تدفع خدمات المدينة، كالتنظيف ورفع القمامة. فضلاً عن ذلك، فإذا ما قمت بجلب أي شئ من خارج الدولة الإسلامية، فسيتوجب عليك دفع الضرائب. أي فواكه أو خضروات ـ من تركيا أو مناطق نفوذ الجيش السوري الحر ـ عليك أن تدفع الضرائب.” كما يفرض تنظيم داعش غرامات مالية عن جميع المخالفات المدنية، لا سيما التهريب وتدخين السجائر.
كان ذلك موضوعاً مؤلماً بالنسبة لأبو خالد، مدمن التدخين الميؤوس منه، لكنه يعترف بأنه مصدر ضخم للدخل بالنسبة للخلافة. السجائر محظورة لأنها تضر بالصحة، مثل الكحول. لكن، ولأن كل سوري تقريباً يرغب في التدخين، أدرك تنظيم داعش بأن في إمكانه الحصول على كسبٍ سريع من الممنوعات التي لا مفرّ منها. قال أبو خالد، “لقد جاء أحد السعوديين لرؤية جاري. لقد طرق باب جاري ومن ثم طرق بابي. كان لدي منعش هواء من أجل روائح السجائر. فسألني، “أين هو جارك؟” فأخبرته بأنني لا أعلم. ثم قال، “هنالك رائحة لطيفة في منزلك، أيها الرجل. أنا أعلم بأن لديك بعض السجائر ـ رجاءً، هل يمكنني الدخول والتدخين؟”
يتلاقى الغموض القرآني مع البراغماتية الإقتصادية في جميع المرافق الإدارية لتنظيم داعش. ففي التعامل مع الآثار، على سبيل المثال، تعود الكثير من الآثار في العراق وسوريا لأيام أنبياء الكتاب المقدس، حيث يعلن تنظيم داعش بأن أي فن من عصور ما قبل الإسلام كان “يُعبد” فيما مضى من المفترض أن يتم تعليمه بهدف التدمير، لكن أي شئٍ آخر ـ مثل النقود البابلية أو الرومانية ـ فإنها صالحة للبيع في السوق السوداء الدولية، والتي لا تفتقر لمشترين متحمسين. ولا شك في أن ذلك قد ساعد منطق تنظيم داعش الآثاري بأن القطع الأثرية الأصغر لا تكون وثنية في العادة، وأن المعالم والتماثيل الضخمة التي لا يُمكن نقلها بهدوء إلى تركيا أو إقليم كردستان العراق هي هدف للتدمير.
العديد من التنازلات ونقاط التعقل يجب أن يؤخذ بها بهدف الحفاظ على الدولة في ترف. أشار أبو خالد إلى مثالين مهمين قام فيهما تنظيم داعش بإجراء مقايضات، وإبتزاز، مع أعدائه المعلنين.
النفط، بطبيعة الحال، هو مصدر كبير للدخل. حيث يسيطر التنظيم على جميع حقول النفط شرق سوريا، ممّا يجعله مورّدا رئيسياً للطاقة في البلاد، ومبتزاً مقابل الوقود. يُعتبر معبر باب السلامة ـ وهو الوسيلة الوحيدة التي يمتلكها تنظيم داعش الآن للدخول إلى شمال سوريا ـ المسؤول عن إطعام كامل أرض الخلافة، من حلب وحتى الفلوجة. قال أبو خالد، “ولك أن تتخيل عديد الشاحنات التي تجتازه كل يوم.”
مع ذلك، فإن التحكم بمعبر باب السلامة على الجانب السوري يتم من خلال متمردين غير تابعين لتنظيم داعش، وبالطبع على الجانب التركي من قبل الحكومة في أنقرة. لماذا لا يقوم أيٌ منهما بإغلاق المعبر ببساطة وحرمان تنظيم داعش من مصادر الدخل؟
“لأنه ليس هنالك خيارٌ آخر. تنظيم داعش يمتلك وقود الديزل والنفط. آخر مرة، قبل رمضان بقليل، أغلق الثوار معبر تنظيم داعش.” فرد التنظيم بإيقاف إنبوب النفط. “فإرتفعت أسعار النفط في سوريا. وتوقفت المخابز بسبب عدم توفر وقود الديزل. وكذلك السيارات، والمستشفيات، لقد توقف كل شئ.”
يمتلك تهريب مصادر الطاقة لتنظيم داعش تأثير المغلوب. يقول أبو خالد بأن كل شئ في سوريا الآن يعمل على مولدات الطاقة. “لديّ مولدٌ ضخم، ويمكنني تشغيل منطقة صغيرة، والناس يدفعون لي مقابل الطاقة.” ولأنه يستطيع شراء وقود الديزل بأسعارٍ مخفضة بسبب عضويته في تنظيم داعش ـ حوالي سُدس ما يدفعه المواطنون العاديون ـ فقد أصبح بارونا صغيرا للطاقة في منطقته.
ومن المعروف أيضاً قيام تنظيم داعش ببيع نفط الأسد إليه مرة أخرى. “في حلب، يحصل الناس على التيار الكهربائي لمدة ثلاث أو أربع ساعات يومياً. حيث تقع محطة توليد الكهرباء في السفيرة، وهي منطقة يسيطر عليها التنظيم، بالقرب من مطار كويرس؛ لذلك يدفع النظام سعر الوقود اللازم لتشغيل المحطة. كما يدفع رواتب العمال هناك لأنهم متخصصون ولا يُمكن إستبدالهم. ويأخذ تنظيم داعش 52 في المئة من الكهرباء ويأخذ النظام 48 في المئة. هذه هي الصفقة التي عقدوها مع الأسد.”
ومن أجل جميع وسائل الثراء الذاتي، لم ينسَ تنظيم داعش أمر الصبية. فقد أسس شبكة ضمان إجتماعي لأولئك الذين يحكمهم ضمن دولته، وهو محور من قانون الرعاية بأسعارٍ معقولة للبغدادي نفسه.
يحصل أعضاء تنظيم داعش على الأدوية والعلاج الطبي مجاناً، وأي شخص يعيش في أرض الخلافة يُمكنه التقديم على الرعاية الصحية المجانية، إذا ما دعت الحاجة. قال أبو خالد، “يمكنك الذهاب إلى الطبيب أو المستشفى من دون مقابل. وإذا لم تستطع الذهاب لطبيب أو مستشفى في أراضي الدولة الإسلامية، وإذا ما توجب عليك الذهاب إلى الخارج، فإنهم سيدفعون لك. بغضّ النظر عن المبلغ. إذا كنت مصاباً بالسرطان وتحتاج للخضوع للعلاج الكيميائي في تركيا، فإنهم سيدفعون ثمن كل شئ، بما في ذلك تكلفة الإقامة في فندق. حتى إذا كان ذلك يعني عشرات الآلاف من الدولارات.”
لا يكاد الأطباء في مدينة الباب يشتكون من الخسائر لأن الطب واحد من أكثر المهن ربحاً يمكن للشخص أن يمارسها في الدولة. يتلقى الأطباء راتب قدره 4000 أو 5000 دولار أميركي شهرياً لمنعهم من الهرب إلى تركيا.
لهذه الأسباب، قال أبو خالد بأن سوريا عبارة عن “جهاد خمس نجوم”، على الأقل مقارنة بالعراق. وأضاف، “هناك، لا يوجد شئ، لكن تعال إلى مدينة الباب، هنالك مقاهٍ، وأشياء لطيفة. سيكون في إمكانك الحصول على حياةٍ كريمة.”
لماذا إذن، يرغب هو، أو أيّ شخصٍ آخر، ومع كل هذا، في أن يهرب؟ فأجاب أبو خالد، “بسبب ما رأيته في المزرعة.”
***
“أنا أعرف شخصاً لديه مزرعة. في كل يوم، وكل نهاية إسبوع يذهب فيها إلى المزرعة، فإنه يعثر على جثث تحت الأرض. كانت تلك جثث الناس الذين تم قتلهم وألقى بها تنظيم داعش في مزرعته.” وكلما حفر المزارع الأرض، كما لو كانت أرض معركة فردان في حلب، كلما عثر على المزيد من الجثث. “كان الفلاح يحفر ويحفر ليكتشف يداً أو قدماً.”
ذهب أبو خالد، بطلبٍ من المزارع، لرؤية أمير الباب وتقديم الشكوى إليه بخصوص مشكلة التخلص من البقايا البشرية. فقال الأمير بأنه سوف يتحقق من الأمر ويعود إلى أبو خالد في الوقت المناسب. “وبعد أيامٍ قليلة، رأيت الأمير في الشارع، فسألته، “ما الذي حصل؟” فقال لي، “لسنا نحن، نحن لا نعرف من الذي دفن تلك الجثث.” فهل صدّق أبو خالد الأمير؟ بالطبع لا. فأضاف قائلاً، “لكن لا يُمكنك أن تتهم الأمير بالكذب.”
وبعد بضعة أيام، أخبر المزارع أبو خالد بأنّ لديه شيئاً ما ليريه إياه. وقال بأنه في حين كان تنظيم داعش يحفر قبوراً ضحلة لفرائسه في السابق، فإنه قد بدأ بالإلقاء بها هكذا على سطح التربة. “في جميع أنحاء المزرعة، وقرب أشجار الزيتون. كانت هنالك جثثٌ في كل مكان.”
فذهب أبو خالد لرؤية الأمير مرة أخرى وقال له بأنه يجب أن يأتي ويرى الأمر بنفسه. فوافق الأمير، وأخبر أبو خالد بأن يُرافقه في سيارته ـ نوع BMW X5، على وجه الدقة ـ وتوجها معا إلى الضريح الزراعي.
سألته، “هل يقود أمير مدينة الباب سيارة من نوع BMW؟”
فقال أبو خالد، “نعم”. ثم أضاف، “لقد قلت له، يا رجل! لديك سيارة جميلة. فقال لي، “الحمد لله، الدولة الإسلامية غنية جدا.”
عثر أبو خالد على الجثث في الحال. لكن الأمير كان مُصراً، وقال بأن تنظيم داعش لم يكن مسؤولاً عن تلك الوفيات. مع ذلك، فإن أبو خالد يمتلك الآن دليلاً على أن ذلك باطل. فقد كان نفس الرجل الذي تم إلقاء القبض عليه وقطع رأسه بسبب وضعه “شرائح الهاتف” حول المواقع الإستراتيجية في مدينة الباب، بهدف الرصد من قوات التحالف كما يُفترض، أحد تلك الجثث. قال أبو خالد، “كنت أعرف بأنه هو، لأنه كان يرتدي بدلة رياضية ماركة أديداس باللونين الأبيض والأسود. فأخبرت الأمير قائلاً، “هيا بنا يا رجل، الأمر لك.”
وبعد مرور أربعٍ وعشرين ساعة، إستدعى الأمير أبو خالد وقال له، “سنقوم بشراء تلك المزرعة. إسأل المزارع كم يريد مقابل ذلك.”
المصدر: هنا