“يعتقد بعض الناس أن كرة القدم هي مسألة حياة او موت، أنا محبط جداً من هذا التفكير. أستطيع التأكيد أنها أكثر بكثير من ذلك.”
بيل شانكلي، لاعب نادي ليفربول
عندما قال هذه العبارة الحكيمة، يبدو أن مشجعي كرة القدم العراقيين لم يخطروا له ببال، لكنه يعتبر أكثر قول مأثور مناسب لذلك.
لا توجد لحظة ملل واحدة في تشجيع إسود الرافدين، الفريق الذي يجلب لمشجعيه المتعة والألم في آن. في كأس أسيا 2015 كالعادة كان هناك مزيج من الإثنين، مزيج من العبقرية والعاطفة والحزن. في ولونغونغ قبل إسبوع من كأس أسيا في مباراة سيئة ضد إيران، غادر الجمهور العراقي الكبير أرض الملعب غاضبين بعد إضاعة الكابتن يونس محمود لضربة جزاء مهدياً إيران الفوز بنتيجة 1_0 . بطلهم المحبوب خذلهم.
يونس محمود واحد من أعظم لاعبي أسيا، محفور في أذهان العراقيين برأسه الذهبي الذي جلب لهم الفوز بكأس أسيا 2007 ضد السعودية. يلعب الآن في كأس أسيا للمرة الرابعة وكونه المسلم السني الوحيد في الفريق سيجعل له أهمية أبعد من كرة قدم. كونه لم يلعب في أي نادي لل12 شهر السابقة ومع وجود شكوك جدية حول ما اذا كان سيربح كأس أسيا، الإسطورة العراقية لن يكون بعيداً عن نقد المشجعين العراقيين المتعصبين. عندما حاولت إحدى وسائل الإعلام مواساته بأنها مجرد لعبة “ودية” قال منزعجاً: “نحن لا نلعب مباريات ودية. كرة القدم هي كرة القدم”. هذه العاطفة هي من أوصلت العراقيين والإيرانيين الى إستراليا لكأس أسيا. طعم كرة القدم الحقيقي هو الحياة الحقيقية والموت والعاطفة المستمدة من الثقافة حيث كرة القدم هي الدَين الحقيقي.
ربح العراق مباراته الأولى ضد الأردن وخسر ضد اليابان في مباراته الثانية وكانت مباراة عصيبة، هزم فلسطين 2_0 بفضل يونس الخطير، شخصيته السحرية والمجنونة تسيطر على المباراة. للأسف بعد المباراة لم يؤدي محمود واجباته بسبب العقوبة. ربما تكون الإدارة على حق، فالبقاء بدون نادي لأكثر من سنة ربما يؤثر على بطلهم العظيم ويجعله متوتراً. الزمن فقط هو من سيحل هذه المشكلة. أكمل النجوم المشوار ولم يحبوا منافسيهم الإيرانيين، اللاعبين العراقيين لم يجدوا حرج في أخذ صور السيلفي مع المشجعات البنات. أحدى اللحظات المهمة والمختلفة في علاقة اللاعبين العراقيين مع مشجعيهم كانت بمداراة اللاعب ضرغام إسماعيل موقف أحد المشجعين الذي إقتحم الملعب ونقله خارج الملعب لئلا يعتقله أمن الملعب. وفي تناقض صارخ وتذكير بالوضع المرعب في العراق، قتلت داعش 13 طفلاً كردياً في الموصل وكانت جريمتهم أنهم شاهدوا مباراة العراق ضد الأردن.
وعندما وصل العراق الى ربع نهائي كأس أسيا، جاء دوره للعب مع إيران عدوه الأقدم. بلاد الرافدين القديمة مع بلاد فارس، في كانبيرا. في القلب العراقي في فيرفيلد غربي سيدني، جلست لتناول الشاي مع سفير كأس أسيا الاشوري إميل شيبا. دقات الطبول الإيرانية تأتي من المحل المجاور، والأعلام العراقية وصور المنتخب تظهر من نوافذ كل المحلات. في حياة أخرى كان شيبا في الجيش العراقي، في حربه ضد إيران ضمن التحالف في عاصفة الصحراء عام 1991.
“بعد الحرب العراقية الإيرانية ب3 سنوات فقط تم تجنيدنا أنا وأخوتي مرة أخرى. كنا متعبين من الحرب بسبب العقوبات حتى الجيش لم يكن يمتلك مؤونة،العديد منا رجعوا الى البيوت، قلوبنا لم تكن هناك. لم يكن هناك ما يفعلونه معنا. الحرب إستمرت ل20 يوماً فقط، لا تنسى أن التجنيد في الجيش في العراق إلزامي ولا يمكن تجنبه”
بعد أن تعب من الحرب سافر الى الأردن لدراسة اللاهوت وزوجته التي كانت في إستراليا قدمت له الدعم. عاش بسلام نسبي في فايرفيلد وأصبح الشاعر الأشوري المعروف وعمل بمهمة إستراليا لمساعدة الشباب المعرضين للخطر والمشردين والواصلين الجدد. وكان أيضاً ضابط إتصال مجتمعي مع الطلبة من خلفيات عربية. إنه ممتن للفرص التي قدمتها إستراليا له ولعائلته: “إبنتي ثالث أفضل مبارِزة بالسيف على مستوى إستراليا وهذه السنة ستمثل إستراليا في بطولة أسيا للمبارزة المقامة في أبو ظبي وبعدها في بطولة العالم المقامة في أوزبكستان، قدمت لها جمعية المبارزة العراقية الكثير من العروض لكنها تُفضل تمثيل إستراليا، إبني ذهب لتشجيع المنتخب الإسترالي وليس العراقي”
شاهدت هذه الظاهرة في عدد من الجاليات الأسيوية في إستراليا، الأطفال يشجعون المنتخب الإسترالي والأباء يشجعون منتخبات بلدانهم. العديد من المشجعين العراقيين في كل مباراة يرتدون القمصان التي تكون نصف إسترالية نصف عراقية. فخورين بنصف هويتهم العراقية وفخورين بكونهم إستراليين. سألت إميل عن السبب الذي يجعله مستمراً في تشجيعه للعراق على الرغم من الإضطهاد الذي تعرض له شعبه الأشوري المسيحي في العراق. أجاب: “أنا من السكان الأصليين للعراق. لا أستطيع أن أتخلى عن دمائي. السياسيين يجيؤون ويذهبون لكن كل العراقيين إخوتي الذين يشاركوني نفس الأرض.”
قبل أيام من المواجهة بين العراق وإيران إلتقيت بأبرار الصالح سفيرة الجالية العراقية في سيدني. غادرت عائلة أبرار الناصرية عندما كان عمرها 18 شهراً وقضت طفولتها في إيران قبل الإنتقال الى إستراليا. قوة المنتخب العراقي واضحة بالنسبة لها: “شعبنا لا يجد السعادة خارج كرة القدم. إنها الشيء الوحيد الذي يمكنه جلب السعادة لقلوبنا، كرة القدم تعني الكثير: إنها تلعب في كل عتبة دار، في كل شارع، كل سقف. إنها كالبرازيل، إنها في قلوبنا، سألتها عن الكابتن يونس وأهميته وأجابت بوقار: “في عام 2007، كان العراق يمر بمرحلة من سفك الدماء والشقاق وعدم الأمان مما جعل الناس يقتنون السلاح في بيوتهم، منحنا يونس ركلة جميلة جعلتنا سعداء ووحدتنا، لقد أعادتنا لوحدتنا في الوقت الذي فرقتنا فيه السياسة والدين.”
أبرار الصالح سفيرة الجالية العراقية في سيدني
ربح العراق كأس أسيا 2007 بقيادة المدرب البرازيلي جورفان فييرا. قال مستقيلاً:” اذا كان عقدي لست أشهر وليس إثنين، سيكون لزاماً أن يأخذوني الى المستشفى بسبب جنون الناس!”. مرتديةً حجاب رأس ملون وبحماس تحاول أبرار تنظيم مجموعة من النساء والعوائل العراقية للذهاب لتشجيع العراق في ربع النهائي ضد إيران. تقول أبرار:” من الصعب أن أشرح لك مدى حماس وحرص النساء للذهاب الى كانبيرا.” “لم يسبق أن حصل شيء كهذا في إستراليا.”
نادراً ما تغادر تلك النساء غرب سيدني، مع تدخل الرئيس التنفيذي لشركة كابيتل لكرة القدم هيذر ريد إنهم كانوا قادرين على السفر جنوباً مع قوافل المشجعين العراقيين والأيرانيين الذين تجمعوا في كانبيرا لربع النهائي والتي تحولت لتجمعات درامية.
المدرب العراقي (والاعب الدولي سابقاً) راضي شنيشل أحس بالشعور بالمناسبة بشكل تام:” هناك تاريخ بين العراق وإيران لكن دعونا نلعب مبارة جودة وننسى العواطف. نريد أن نعطي إنطباع جيد عن كرة القدم في أسيا، عن الجودة في أسيا.” مُهد الطريق للعراق للحماس والتشجيع والمدرجات كانت تعج بهتاف المشجعين من الفريقين. الطبول تُقرع والأغاني تُغنى والرقص لا يتوقف.
الفريق العراقي متعدد الثقافات من شيعة وسنة وكرد وأشوريين وكلدانيين ومندائيين لم يلعب في بلده لأكثر من 20 عام بسبب الوضع الأمني في العراق.
بعد سنين من الهجرة بسبب العنف الطائفي، اللاعبين العراقيين أتوا من كل العالم وإجتمعوا في إستراليا من ضمنهم اللاعب أمريكي المولد وأحد نجوم الدوري الأمريكي جيستن ميرام. كرة القدم العراقية لم تختلف وهذا الفريق ملتف حول رجل واحد. بعض أعضاء الفريق كانوا في سن المراهقة المبكرة عندما أحرز يونس الهدف في كأس أسيا عام 2007. في خطواتهم الأولى كشباب حاولوا إعادة إحراز هدفه في 2007 والآن كبروا ولعبوا مع بطلهم.
على الرغم من حقيقة أنه لا يلعب كرة قدم بإنتظام، المدرب العراقي لديه قائد فريق وفيٌ لقيادة مجموعة من اللاعبين ممن لا يملكون وطناً تأسس حديثاً. فريق فيه أحد أهم نجوم كرة القدم في أسيا. وككل الأبطال فقد ربح المعركة. العراق وإيران كلاهما أحرز أهداف واللاعب الإيراني ميهرداد بولادي أحرز هدفاً بقرار الحكم بين ويليامز بإعطائهم ضربة جزاء في المباراة الودية السابقة، ومحمود ينتظر الرد.
أتت اللحظة وأتى الرجل_يونس محمود وجعل 33 مليون يقفزون فرح، مسدداً ضربة رأس وضعت العراق في المقدمة. تعادل إيران جعل المباراة تتمدد الى وقت إضافي، المجموعتين من المشجعين مروا بلحظات من الحماسة الهيستيرية. سجل العراق مرة أخرى وتبعته إيران بتعادل أخر بعد الوقت الإضافي إنتهت المباراة بنتيجة 3_3. في ظروف متوترة بشكل لا يصدق، ايران كانت 5_4 عندما وقف محمود لتسديد ضربة الجزاء.
ما حصل بعد ذلك لا يصدق. أحد رؤوساء التحرير الأكراد قال بوجه متجهم:” يونس يحتاج الى حماية شرطة اذا لم يسجل هدفاً.” بالنظر الى الرهانات عليه. ذهب محمود الى المكان الذي تحتله الأساطير. كان على معرفة باهمية النتيجة وقال بعد المباراة:” بعد إضاعتنا للفرصة ضد إيران في ولونغونغ، أحتاج لشيء مميز من أجل جمهوري في إستراليا.” ” ضد إيران، فرصة أخرى أتتني لأعطي صورة أفضل. أعتقد أن أي لاعب لا يحضر سيتوقف عن اللعب او سيقتل نفسه بكرة القدم. أرجو من الله أن يساعدني.” “أحتاج هذا لأستطيع أن أرجع الثقة لجمهوري بيونس محمود. كلهم سعداء الآن. أعتقد أن ما فعلته من أجل جمهوري.”
المصدر: هنا