قبل وقتٍ ليس بالبعيد، كان ذكر إصابة أحد الرياضيين بارتجاجٍ دماغي أمرًا نادرًا. أما الآن فيبدو بأنَّ حالات إرتجاج الدماغ بدأت تننتشر بشكلٍ كبير في الرياضة الحديثة، وقد صاحب هذا الإنتشار كميّة كبيرة من المقالات الأخبارية والتعقيبات عن هذه الإصابة وما يترتّب عليها من عواقب. وكنتيجة لهذا فقد تعالت الأصوات هنا وهناك من أجل إتّخاذ عدد من الإجراءات لوقاية الأطفال من هذه الإصابة، فقد قام عدد من الآباء برفع قضيّة يطالبون فيها بمنع الكرات الرأسيّة في كرة القدم الخاصة بالأطفال تحت سن الـ 10 سنوات، وقد ناشد عددٌ منهم وطالبوا بالتفكير جيدًا قبل السماح لأولادهم وبناتهم بلعب الركبي. وكان آخر ما قد أُنجِـزَ بخصوص هذا الأمر هو فيلم «(كونكوشن) Concussion = إرتجاج الدماغ» من تمثيل ويل سميث. إذًا، لمَ كل هذه الضجّة؟ هل يستحق الأمر القلق حقًّا؟ هل يجب علينا كلنا أن نرتدي الخوَذ؟
في السابق، كان يُـنظر إلى إرتجاجات الدماغ على أنّها تسبّب مشاكل وظيفيّة ذات تأثير مؤقّت، مثل فقدان الذاكرة وعدم القدرة على التركيز. أمّا الآن، فقد أصبح الناس أكثر وعيًا وهم يعلمون بأنّها تسبّب أضرارًا هيكلية، وبالأخصّ لألياف الخلايا العصبية المعروفة بالمحاور “axons” والتي توجد في داخل الدماغ.
هنالك إعتقاد خاطئ يقول بأنّك يجب أن تفقد الوعي حتى تُـصاب بارتجاجٍ في الدماغ. لكن في الواقع، فإنّ 10% فقط من حالات إرتجاج الدماغ مرتبطةٌ بفقدان الوعي وهذا يعني أنّك يمكن أن تُـصاب بالإرتجاج حتّى وإن لم تفقد وعيك. يُـعرَّف الإرتجاج الدماغي على أنّه اضطراب في عمل الدماغ ناتج عن إصابة ما، سواء عن طريق ضربة مباشرةٍ على الرأس أو كإصابة إرتداديّة في الرأس نتيجة ضربةٍ في مكانٍ آخر من الجسم.
هنالك قائمة طويلةٌ للأعراض والعلامات المرافقة لحصول الإرتجاج الدماغي وتشمل:- الصداع ونوبات من الصرع وفقدان الذاكرة وإضطرابات في الرؤية، ويعتبر الصداع هو أكثر هذه الأعراض شيوعًا. يمكن للأعراض أنْ تتأخّر بالظهور، حيث تأتي بعد ساعاتٍ أو حتّى بعد يومٍ كامل من وقت حصول الحادثة. إضافةً إلى ذلك، فقد أظهرت بعض البيانات مؤخّرًا بأنّ الرياضيين الذين يتعرّضون لإرتجاجٍ في الدماغ ويستمرّون باللّعب يكونون أكثر عُـرضةً للإصابة بضررٍ إضافي. ينطبق هذا الأمر على الإصابات التي لا تتعلّق بالدماغ أيضًا، ولكنّ الإستمرار باللّعب بعد التعرّض لاصابةٍ في الدماغ سيعرّضهم لخطر تفاقم الإصابة وخاصةً عند تعرّضهم لضربةٍ ثانية، مما قد يتسبّب بأحد المضاعفات النادرة والمسمّى بـ «متلازمة الصدمة الثانية»، والتي من الممكن أن تتسبّب بمضاعفاتٍ شديدة وحتّى أنّها يمكن أن تؤدّي إلى الموت.
ازدياد خطر الإصابة بالخرف
أصبح المختصّون أكثر وعيًا بأنّ إصابات الدماغ ومن ضمنها الإرتجاج الدماغي، يزيد من خطر الإصابة بأمراض الدماغ التنكسية مما يتسبّب بالخرف. كان يُـعتقَد في السابق بأنّ هذا النوع من الخرف مختصّ بالملاكمين المتقاعدين فقط، والذي كان يُـعرَف لعقودٍ طويلة بــ (متلازمة الملاكم المترنّح) أو ما يُـعرَف بــ (الخرف التلاكمي).
ولكن قبل عقدٍ من الزمن تقريبًا، وكما يشير فيلم ويل سميث بوضوح، فإنّنا بدأنا برؤية حالاتٍ مرضيّة مطابقة للحالات التي أصابت الملاكمين (متلازمة الملاكم المترنّح) في رياضيّين تعرّضوا لإرتجاجاتٍ متكرّرة ولكن في ميادين أخرى من الرياضة مثل الركبي وكرة القدم. يُـخبر الفيلم قصّة أوّل حالة وُصِـفَت في كرة القدم الأميركية، ويوضّح الصراع الذي خاضه أخصّائي علم الأمراض الدكتور بينيت أومالو “Dr. Bennet Omalu” والذي قام بدوره الممثّل ويل سميث مع الدوري الوطني لكرة القدم الأميركية من أجل رفع الوعي بهذه الحالة المرضية.
بعد الإعتراف بأنّ الارتجاج الدماغي هو إصابة دماغية يمكن أن تحصل لأيّ سببٍ كان وليست مرتبطةً برياضةٍ واحدةٍ فقط ويمكن أن تزيد من خطر الإصابة بأمراض الدماغ التنكسية، فقد تمَّ تسمية هذه الحالة بــ (اعتلال الصدمة المزمن في الدماغ)(chronic traumatic encephalopathy” (CTE”. وعلى الرغم من التقارير المتزايدة عن حالات إصابةٍ بــ CTE في مختلف أنواع الرياضات، إلا أنّه لا يوجد إختبار تشخيصي لهذه الحالة. حتّى الآن، جميع الحالات قد شخِّـصَت عن طريق الفحوصات التشريحيّة بعد الموت. والتي شملت أكثر من 100 لاعبٍ ممن كانوا يلعبون في الدوري الوطني لكرة القدم الأميركيّة.
ومما لا شكَّ فيه فإنّ هنالك العديد من حالات CTE قد شُـخِّصَت عن طريق الخرف البديل. تشير الإحصاءات الحالية إلى أنّه بين 5% إلى 15% من حالات الخرف مرتبطةٌ بإصابات دماغية، وهذا يعني بأنّ هنالك العديد من الأشخاص يعيشون الآن مصابين بــ CTE من دون علمهم بذلك.
ما هو العلاج؟
إنّنا لا نزال في بداية طريقنا لفهم مرض الــ CTE. وطريقة معرفتنا بهذا المرض ستتغيّر تدريجيًا عن طريق برامج بحثيّة تشمل الإرتجاجات الدماغية في مختلف أنواع الرياضات وعلاقتها بمرض CTE. وبنمو المعرفة في هذا الجانب، فقد نتمكّن من الحصول على أهداف محدّدة للعلاج، مما قد يساعدنا في معالجة عددٍ آخر من أمراض الدماغ التنكسية كالزهايمر مثلًا.
في ظلّ غياب الفهم الكامل لعوامل الخطر وعدم وجود إختباراتٍ تشخيصيّة أو علاجات، فيبدو أنَّ أفضل طريقةٍ لمواجهة مرض الــ CTE هي بتطبيق القاعدة التي تقول: «الوقاية خيرٌ من العلاج». إنّ أسهل طريقةٍ لتقليل خطر الإصابة بهذا النوع من الخرف قد يكون بتقليل خطر الإصابة بالإرتجاجات الدماغية وأن نتعلّم طريقة معرفة الإصابة والتعامل معها كي لا تتفاقم وتؤدّي إلى مضاعفات خطيرة.
في الوقت الحاضر، ومع وجود بعض المخاوف حيال خطر الإصابة بالارتجاج الدماغي نتيجة ممارسة الأنشطة الرياضيّة، فلا يمكننا أن نغفل عن الفوائد الصحيّة التي تقدّمها الرياضة لنا. وبهذا، فإنّني أرى أنّه يجب علينا أن نستمر بتشجيع الناس على الانخراط في ممارسة مختلف أنواع الرياضات، ولكن يجب علينا في نفس الوقت أن نرفع من الوعي لديهم حول كيفيّة معرفة حالات الإرتجاج الدماغي والسيطرة عليها. وهذا يتضمّن توعيتهم بأنّه وعلى الرغم من الجهود التكنولوجية والبحثيّة المبذولة في مجال خوذ الرأس الواقية، فإنّها لا تزال قاصرةً عن حمايتنا من الإرتجاجات الدماغية. لكن إن تناولنا المشكلة بأفضل المعلومات المتوافرة لدينا، فإنّنا سنتمكّن من الحصول على فوائد الرياضة، وفي الوقت ذاته سنقلّص من خطر إصابتنا بالإرتجاج الدماغي.
المصدر: هنا