الفنون الحرة والعلوم الإنسانية ليست حكراً على النُخبة
——————————-
بقلم: سكوت سامويلسون
ترجمة: ندى محمد علاوي
——————————
ذات مرة، عندما أخبرتُ رجلاً على متن طائرة بأنني دَرّستُ الفلسفة في Community College، أجاب، “إذن، أنت تُدرس أفلاطون للسباكين”. في الواقع، نعم. ولكني أيضاً أدرس أفلاطون لمساعديّ الممرضين والجنود والسجناء السابقين ومدرسيّ الموسيقى في مراحل ماقبل الدراسة وعُمال النظافة واللاجئون السودانيون وفنيوا توربينات الرياح وأي عدد من الطُلاب الأخرين الذين يشعرون إنهم بحاجة إلى شهادة كتذكرة لدخول كرفانُنا الإقتصادي. ونتيجةً لعملي، أنا في موقف فريد للتأمل في المناقشة الحالية حول القيمة الإنسانية التي يبدو لي إنها ضلت طريقها.
كالعادة، هنالك الكثير للقلق حيالهُ، التبخر المستمر في وظائف التدريس بدوام كامل، الإفراط والإساءة من قبل مساعديّ الأساتذة، إنخفاض التمويل الحكومي، الإنكماش في الدورات التدريبية الرئيسية في تخصصات العلوم الإنسانية، زيادة ديون الطالب، إنتشار التقنيات كرصاصات سحرية، الوصف الشائع للطلاب على أنهم مستهلكين. وعلاوةً على ذلك، أخشى كثيراً من سيادة نوع معين من منطق الإقتصادية البيرقراطية- واحدة من “الحصائل”، “التقدير”، “الخط الثلاثي الأساسي”- لا يجرف فقط القيم التي قام عليها إلتزام مجتمعنا بالعلوم الإنسانية فحسب ولكن الديمقراطية نفسها.
المشكلة التي تواجه الإنسانية من وجهة نظري لا تقتصر فقط على العلوم الإنسانية. بل على الفنون الحرة عموماً. بما في ذلك الرياضيات، العلوم، والإقتصاد التي تُشكل نصف ما يُسمى بموضوعات STEM (Science, Technology, Engineering, Math). ولكن إذا كان الهدف من التعليم هو ببساطة التقدم الإقتصادي والقوة التكنولوجية. هذه التخصصات، تماماً مثل العلوم الإنسانية، ستكون إلى حدٍ ما خاضعة لفرص العمل المستقبلية والتقدم التكنولوجي. لماذا لا تُقدم المؤسسات التعليمية عموماً فصولاً مثل حساب التكامل والتفاضل والجبر التجارية للممرضين؟ لماذا لايمكن لأي شخص فقط الموهوبين والمتخصصين في بعض الأحيان أن يأخذوا دورات في علم الفلك وتطور الإنسان أو التاريخ الإقتصادي؟ إذن، ما الجيد، إن وجد، في دراسة الفنون الليبرالية وخاصةً موضوعات مثل الفلسفة؟ لماذا بإختصار ينبغي تدريس إفلاطون للسباكين؟
جوابي إننا يجب أن نسعى لنكون مجتمع من الناس الأحرار، وليس مجرد مُدراء تعويض جيدين أو موظفين. هنري ديفيد ثورو هو الأكثر صلةً بالموضوع عندما كتب ” يبدو أننا نسينا أن التعبير “التعليم الليبرالي” نشأ بالأصل بين الرومان، أكثر المجتمعات غنى بالرجال الأحرار، في حين أن تعلّم المهن والحرف التي يُمكن من خلالها الحصول على سُبل العيش الخاصة بك فقط إعتُبر جديراً بالعبيد”
تقليدياً، كانت الفنون الحرة من إختيارات الطبقة الراقية. هنالك ثلاثة أسباب رئيسية لذلك. الأول، إنها تُناسب وقت فراغ الطبقة الراقية لإستكشاف الإحتياجات العليا لحياة الإنسان. لعزف مقطوعات بيتهوفن، دراسة علم النبات، قراءة مؤلفات أرسطو، أو الذهاب في جولة لإيطاليا لتوسيع الخيال. ثانياً، لأن حقهم الطبيعي هو إحتلال مناصِب قيادية في السياسة والسوق. أعضاء الطبقة الإستقراطية لديهم مهارات التفكير لأنفسهم بينما مهارات أولئك الموجودون في الطبقات الدُنيا يتم تقييمها حصراً على مدى نجاحها في تلبية مختلف الإحتياجات المحددة. في حين أعضاء الطبقات الراقية يجب عليهم معرفة كيفية تقييم الحصائل والنظر بها تجاه أفق من القِيم. وأخيراً، (هذا السبب عموماً غير مُعلن) تحصل إحتياجات الفنون الليبرالية على ترميز كعلامات الإمتياز والهيبة بحيث يستطيع أعضاء الطبقة الراقية رسم حدود لإنفسهم بوضوح عن أولئك الذين يجب أن يعملوا ليجعلوا وقت فراغهم ثروة ممكنة.
نحن لا نبني فكرياً مجتمعاً تحصُل فيهِ القلة المحظوظة فرصة التمتع بمزايا راقية وثروة في حين أن الجماهير تكدح بالنيابة عنهم. مع ذلك، هذا ما يستلزم وجود عمليات تسييل للفنون الحرة. بالنسبة للجزء الأكبر، الأثرياء في هذا البلد يستمرون في دفع الرسوم الدراسية الباهضة على نحوٍ متزايد للمدارس الإعدادية الخاصة وأفضل كليات الفنون الحره وجامعات النُخبة حيثُ يحصل أطفالهم على فرص قوية لتطوير عقولهم وإلباس أنفسهم في العاصمة الثقافية. وتعلّم المهارات اللازمة ليصبحوا أعضاءً لهم تأثير في المجتمع. في الوقت نفسه، تتحدث النخبة عن قيمة التعليم للأقل حظاً بدلالة الإعداد للإقتصاد العالمي. والأسوء من ذلك، إنهم غالباً ما يدعمون نُظم تعليمية تهدف لإنتاج “موضفين جيدين”- أعني عُمال مُطيعين. ثُم يتم خفض الأموال للتعليم العام ورفع الرسوم الدراسة. أما أولئك الموجودين في الطبقة الوسطى، ناهيكاً عن الفقراء، يجب أن يخوضوا معركة شاقة لقضاء وقتهم ومالهم على فنون مناسبة لشعب حر.
كأستاذ لديه الكثير من الخبرة, أعلم تماماً أن قيمة الفنون الحرة سوف تضيع دائماً على بعض الناس. على الأقل في بعض المراحل من حياتهم. (كلما أعود من مؤتمراً أقلق بأن قيمة الفلسفة المفقودة لدى العديد منهم وِجِدت في تدريس الفلسفة!) . ولكن أنا لا أعتقد بأن هذه المجموعة من الناس محددين بأية خلفية إقتصادية أو شكل من أشكال العمالة. تجربتي بعد أن درستُ في مدارس النخبة نسبياً مثل جامعة إيموري وجامعة أوغليثورب وكذلك في مدارس مثل جامعة ولاية كينيساو و وكيركوود وكلية المجتمع، هو أنهُ هنالك بين سباكو المستقبل العديد من المحبين لأفلاطون وكذلك بين العديد من معالجي السيليكون. وبين العديد من مساعدوا الممرضين والجنود العديد من الأصوات الهامة لديمقراطيتنا كما هو الحال بين الاطباء وأباطرة الأعمال.
حصلتُ مؤخراً على رسالة من طالب سابق، وهو عامل في مصنع. يشكرني على تقديمه إلى شوبنهاور. كُنتُ متفاجأ لأنني لم أدرك إنني أعرج إلى التشائمية الألمانية. الرسالة أوضحت بأنني قد نقلتُ بعض الأسطر من شوبنهاور إلى الصف. وإنها أثارت خيال طُلابي. وعندما لم يجد مالذي اقتبستهُ بعد قراءة المجلدين الأول والثاني من The World as Will and Representation ، بدأ ب Parerga and Pavalipomena حيثُ إنه كان ناجحاً في نهاية المطاف. وأرفق قصة قصيرة كتبها مؤخراً عن موضوع الشوبنهاورية. كتب لي رسالة طويلة من الشكر من دون قصد لتحويلهُ إلى عقل الأنساب.
ومرة، خلال محاضرة ألقيتها حول الرواقيون Stoics الذين يزعمون أن مع الإنضباط الروحي السليم يُمكن للمرء أن يكون حراً سعيداً حقاً حتى أثناء تعرضه للتعذيب. نظرتُ إلى الأعلى لأرى إحدى الطالبات انفجرت بكاءً . تذكرتُ أن أختها في السودان قد سُجنت مؤخراً للطعن في السلطات المحلية. من خلال دموعها كان الطُلاب يفكرون أن اختها كانت من المرجح تسعى لحرية صعبة كما كُنت القي في المحاضرة.
ومرة كان لي حارس قارن تجاربهُ الصوفية مع تلك التي في القرون الوسطى الصوفية الغزالية. ومرة أخرى كان لي طالب أبواهُ من الهنود الحُمر- على حد وصفه لهم- قرأ الجزئين من دون كيشوت لأنني أستخدمت كلمة “موضوعيين” “Quixotic”. وسألتني مرةً أم كان لديها أذن بإجراء عملية جراحية خطيرة لإبنها المشلول ادت بعد ذلك إلى وفاته والدموع في عينيها “هل كانت كان محقاً في القول أن عواقب اي عمل لا تلعب دوراً في قيمتهُ المعنوية؟” الجانب المتقلب المحنّك من التفكير البسيط الذي إمتلكتهُ وقع في حب المنطق الشكلي وهو يضع لمساته الأخيرة الآن في مدرسة القانون في بيركلي.
النار سوف تُثار دائماً. هل ننفخُ عليها أم نُخمدها؟
رابط الموضوع : http://www.theatlantic.com/education/archive/2014/04/plato-to-plumbers/361373