بقلم: دان فالك
ترجمة: سهاد حسن عبد الجليل
تدقيق: ريام عيسى
تصميم الصورة: اسماء عبد محمد
تكشف بربارا تفرسكي في كتابها “الدماغ في حركة” الطرق العديدة التي يكون تفاعل العقل مع الجسم مهم لتمكين المعرفة.
إذا افترضنا أنني أعطيتك إسم جزء من أجزاء الجسم وطلبت منك أن تسمي استخداماته الأساسية: إذا قلت الأقدام، فإنك ستقول المشي والركض؛ إذا قلت الأذن فإنك ستقول السمع. وإذا قلت الدماغ؟ حسناً، من الواضح أن الجواب سيكون التفكير. بالطبع فإنه شيء من مجموعة أشياء، وإذا توقف الدماغ عن العمل سنموت، لكن من الواضح أن الدماغ هو المكان الذي يحدث فيه الإدراك.
لا أحد يجادل بالقول أن العقل ليس ضرورياً للتفكير، لكن يعتقد عدد كبير من علماء النفس وعلماء الإدراك في القرن الواحد والعشرين أن الجسم، بالإضافة إلى الدماغ، ضروري لإتمام عملية التفكير. ما يعني أن الدماغ لا يحتاج للجسم فقط لإبقائه على قيد الحياة (هذا واضح) بل أن الدماغ الجسم يعملان مع بعض بطريقة أو بأخرى، إنه مزيج لعمل الجسم مع الدماغ لخلق العالم العقلي.
النسخة الاحدث لهذا الافتراض تأتي من بربارا تفرسكي ، أستاذة فخرية بعلم النفس بجامعة ستانفورد وهي تقوم بالتدريس في كولومبيا ايضاً أن كتابها الجديد “العقل في حركة : كيف تُشكل الأفعال الأفكار “هو نقاش مطول للتفاعل بين الدماغ والجسم لتمكين الإدراك. إنها تعتمد على العديد من الخطوط من أدلة مختلفة، بما في ذلك الطريقة التي نتحدث بها عن الحركة والمكان، الطريقة التي نستخدم بها الخرائط، الطريقة التي نتحدث بها عن الأرقام ونستخدمها، والطريقة التي نستخدم بها الاشارات.
وتخصص تفرسكي جزءاً مطولاً للإشارات ولسبب وجيه : نستخدمها باستمرار ونقوم بها بشكل طبيعي عندما نتحدث، لكن تفرسكي تجادل بأن التأشير اكثر من مجرد حصيلة ثانوية للكلام، إنه يساعدنا على التفكير بمعنى الكلمة. وهي تدعونا للقيام بهذه التجربة (أجلس على يديك وبعدها اشرح وبصوت عالي كيف تصل من بيتك إلى المتجر أو محطة القطار أو مكتبك او المدرسة) يبدو ذلك صعباً: وكتبت عندما لا نستطيع أن نستخدم الاشارات، ستكون لدينا مشاكل في التعبير، فنحن وببساطة (لن نجد الكلمات، وتقول بأنها ليست مجرد تجربة فكرية فقد تم تأكيدها في المختبر) وتقول حتى الأشخاص الذين كانوا فاقدين البصر منذ الولادة يبدو أنهم يعتمدون على الإشارة.
ولنأخذ الخرائط بعين الاعتبار. بمعنى أخر ، تأخذ الخرائط الاشارات إلى مستوى أخر، فنحن نأشر لنبين (هناك) ولكن لنحدد (أين) هناك، نحتاج خرائط ولذلك ننتج مصورات مصغرة للعالم من حولنا. يمكن أن تكون الخرائط مادية أو فكرية تماماً، وبعضنا بارعين بها تماماً: وتذكرنا تفرسكي بالدراسة الحالية المعروفة لسائقي الاجرة في لندن، والذين يحتاجون أن يتذكروا نظام تخطيط حوالي 25000 شارع والاف المعالم الرئيسية في العاصمة البريطانية (مكتسبين ما يشير اليه سائقو سيارات الاجرة بـ (المعرفة). وقد وجدت دراسات اجريت بالتصوير بالرنين المغناطيسي أن كل هذه الخرائط قد اثرت على عقولهم، منمية حجم بعض الاجزاء من قرن آمون*.
وتناقش تفرسكي بأن قابليتنا على تخيل نظام تخطيط الاشياء في الفراغ تكمن في اصل مهارة اكثر عمومية، واكثر جوهرية. وكتبت بأنها تظن أن هذه القابلية هي المفتاح للفكرة المجردة ( التفكير المكاني يفعل التفكير المجرد).
وكتبت أن العقل يتخيل العالم، لكن مواضيع العقل ليست مادية. فما هي؟ يمكننا أن نسميها افكار، غالباً ما يسميها علماء النفس توضيحات، الامر المهم هو براعتنا المذهلة حيث يمكننا معالجتها وتغييرها والتلاعب بها . فيمكنها أن تكون (( رموز في الفيزياء وجزيئات في الكيمياء وبنايات في الحي وراقصين على المسرح )).
في بعض الاحيان تكون صلة العقل بالجسم بالغة الاتقان، كما في (التدوير العقلي) وهي عملية تقليب المواضيع في مخيلتنا. فيمكننا أن نرى، في عين العقل، بأننا اذا اخذنا الحرف الصغير b وقلبناه حول محور (عمودي) سيكون الحرف الصغير d، بينما الحرف o او الحرف wلا يتغيران. وعلى الرغم من أننا نؤدي هذه الانقلابات في عقولنا. الاماكن التي سنستخدمها اذا ما كنا فعلا ندور شيئاً . وايضاً نكون افضل بتأدية التدوير العقلي عندما نتصنع التدويرات بأيدينا بنفس الوقت.
لا يمكننا فقط أن نتخيل اعادة ترتيب الاشياء في المكان، يمكننا أن نتخيل الاشياء في اماكن متعددة في الزمن. نحن نفكر بما حصل وما يمكن أن يحصل، ونتخيل ما سيحصل. في البداية قد تبدو هذه مهمة عقلية محضة لكن يبدو أننا نستخدم نفس الاسلوب للتحدث عن المكان: وبمعنى آخر نحن نستكشف الوقت بعقولنا بنفس الوقت الذي نستكشف المكان بأجسامنا. (ومن المحتمل أننا كنا نقوم بهذا الشيء لعدة قرون – وبكلمات اخرى، منذ وقت طويل قبل أن يبين ( أينشتاين أن الزمان والمكان متصلين ). يتصور الغالبية أن المستقبل يمتد امامنا، والماضي خلفنا على الرغم من أن تفرسكي تشير إلى أن شعب الايمارا في جبال الانديز في اميركا الجنوبية يتخيلون الوضع بالمقلوب.
فما يبدو أنه كوني هو طريقتنا في تخيل الزمن بشكل خطي. وتستشعر تفرسكي أن قراءها يتساءلون عن مفاهيم دورية متعلقة بالزمن ( فكر بكل الاشياء التي تتكرر يومياً ، كوجباتنا المتنوعة، أو في السنة كالفصول). وماذا عن الثقافات الشرقية، والتي غالباً ما اخبرنا بأنها تمتلك منظور دوري؟ لكن تفرسكي قد جمعت بيانات من الصين وهي تطابق الشكل الغربي ( المشاركين الصينيين استجابوا بنفس الطريقة التي استجاب بها المشاركين الامريكان، مبتدعين وبشكل ساحق توضيحات خطية لأحداث دورية). ( وايضاً هناك ما تسميه تفرسكي بـ (( السؤال الغامض الشهير )): ما الذي قد يعنيه عندما نستلم مذكرة تقول أن اجتماع يوم الاربعاء (( قد تقدم يومين ))؟ من الواضح أن نصفنا يعتقدون بأنها تعني أن الاجتماع تغير ليوم الاثنين، ونصفنا يفترض انها تعني الجمعة.)
هذا مثير، ولكنني أتمنى أن تكون تفرسكي قد وضعت هذه الاكتشافات بشكل اوضح ضمن سجل العلوم الادراكية الاوسع – خاصة لأن نهج الجسم الشامل للمعرفة هذا ليس جديد تماماً. فقد عرف بعدة اسماء في المطبوعات – المعرفة المتجسدة ، سن القوانين، العقل المتوسع ولم يظهر أي منها في قائمة تفرسكي. وفي اتجاه مشابه، تحدد تفرسكي ما تسميه ((الاطار العقلي الخاص بالمكان)) والذي يبدو مشابهاً تماماً لما يسميه العلماء الباقون ((القولبة العقلية)). ربما لا يكونان مترادفان تماماً، ولكننا لم نخبر بذلك بطريقة او بأخرى، ومع مصطلح تفرسكي الجديد هناك قوانين جديدة – تسع (( قوانين ادراكية )) مجموعة بشكل ملائم في قائمة بعد الصفحة الاخيرة للكتاب مباشرة. ليس هنالك عيباً في تنظيم الافكار وتحويلها الى قوانين، ولكن بما أنني شخص قد قرأ العديد من الكتب المشابهة ، استطيع أن أشهد بأنه لا يتم دائماً تبنيها بشكل واسع.
وبالحديث عن الخواتيم : في الصفحة الاخيرة من الكتاب – في الواقع جملتها الاخيرة – نحن ممهدون وبشكل واضح لفكرة مهمة ومصطلح جديد ثابت. نحن نقدم للعالم الكلمة ((Spraction)) والتي يتم تعريفها ب (( افعال في الفراغ تخلق تعابير تجريدية )). ويبدو أن الوقت متأخر قليلاً عن مثل هذه الخطوة، وقد يتساءل الشخص فيما اذا كان من المحتمل أن ينتشر هذا المصطلح .
في النهاية وعلى أية حال، هذه اختلافات اكثر مما تكون عيوب، وبالرغم من غرابتها فأن (( العقل في حركة )) هو رحلة اجبارية خلال عالم المعرفة، جولة تتركنا مع مراعاة متجددة للعلاقة بين الجسم والعقل، وكيف يعمل الاثنان معاً عندما نتخيل ونصف ونكتشف العالم.
*قرن آمون: هو جزء من الدماغ يعمل على تقطيع وتركيب تجاربنا وخبراتنا المتواصلة إلى أجزاء يمكن تخزينها داخل ذاكرتنا. المترجمة
المصدر: هنا