كتبه لصيحفة ذي أتلانتيك: حسان حسان*
منشور بتاريخ: 23/10/2018
ترجمة: مازن سفّان
تصميم الصورة: أسماء عبد محمد
بعد أربعة عقود من صعوده الدرامي، ينحسر العنف الطائفي في أنحاء الشرق الأوسط.
للحماسة الطائفيّة المنتشرة عبر الشرق الأوسط جذور حديثة. فقد اشتعلت سلسلة من الاضطرابات الدينيّة والسياسيّة، بداية من عام 1979، وغذّت الكراهيّة الطائفيّة وأضافت لها بُعداً إثنياً. وكانت النتائج كارثيّة؛ سببت الطائفيّة تمزقات مجتمعيّة وأزهقت مئات آلاف الأرواح على مدى فترة زمنية طويلة.
بعد مرور أربعين عام على هذا الصعود الطائفي، ربما نشاهد أخيراً انحساره. يمكن القول إن الطائفيّة في هذه الأيام في أدنى مستوياتها وأن عكس الأسباب الأساسيّة التي أدت لتحفيز وتكثيف وجودها يشير إلى أن تلاشي وجودها قد يستمر.
في عام 1979، تحول المشهد الديني والجيوسياسي في المنطقة بشكل كبير. في شباط/فبراير من ذلك العام تم إزاحة سلالة بهلوي في إيران من الحكم عن طريق انقلاب شعبي يقوده رجل دين شيعي، هو آية الله “روح الله الخميني”. في حزيران من نفس العام أصبح صدام حسين الرئيس الرسمي للعراق، حيث وطد حكمه عن طريق تطهير كبير داخل حزب البعث. في تشرين الثاني/نوفمبر، احتلَّ المتشددون الدينيون الحرم المكي، أقدس موقع للمسلمين، وأعلنوا أن قائدهم “جهيمان العتيبي” هو المهدي المنتظر ( المهدي هو المنقذ في الشريعة الإسلاميّة) وبهذا يكون العتيبي هو القائد الشرعي الوحيد. في كانون الأول/ديسمبر، غزا السوفييت أفغانستان مما دفع السعودية، مصر، وباكستان إلى جمع المجاهدين لطرد الغزاة من هذا البلد المسلم.
على مستوى شعبي، لم يتم استقبال هذه الأحداث مباشرة من منظور طائفي. ففيما هنأت الجماعات الإسلاميّة، على سبيل المثال الأخوان المسلمون، رجل الدين الشيعي وتأثروا بنجاحه في إقامة جمهورية إسلاميّة، ركز الجهاد في أفغانستان الطاقات على ما يعتبره المسلمون في المنطقة عدو ملحد يهدد باقتلاع الإسلام من ذلك البلد. لكن الواقع تغيّر بشكل كبير عن طريق شخص مثقف ونظامين عربيين قويين.
الشخص المثقف الذي يخضع للمسائلة هو محمد “سرور”، أستاذ رياضيات سوري انتقل إلى السعوديّة عام 1980. عضو سابق بارز في جماعة الأخوان المسلمين، لقد كبر وهو يشعر بالإحباط من جماعته وتأثر بالفكر السلفي الذي يمارس بشكل رسمي في السعودية. يمكن القول أن “سرور” هو المنظر الديني الأكثر تأثيراً منذ “سيد قطب”، والذي يوصف عادةً على أنه أبو الجهاد الحديث. إرثه الذي يعتمد على الجمع بين الإسلام السياسي والسلفيّة، كان جزءاً من حركة واسعة قادت إلى إنشاء ما يعرف حالياً بالجهاد السلفي. وبعد عامين من الثورة الإيرانيّة، ألف كتاباً تحت اسم مستعار وأطلق عليه اسم “لقد حان دور المجوس”، في إشارة إلى أن الفرس القدماء اتبعوا دين يرتبط بالزرادشتيّة. يطرح لبّ الكتاب فكرة أن الشيعة بشكل عام، والشيعة الإيرانيين بشكل خاص، يقودون مؤامرة فارسيّة لإعادة امبراطورية قديمة دمرها الغزاة المسلمون في القرن السابع الميلادي.
كانت أطروحة “سرور” عبارة عن تحامل عرقي طائفي على الشيعة، منتظمة بذلك مع أفكار السعودية والعراق الذي يحكمه صدام حسين. خشيت الدولتان العربيتان القويتان من زلزال ثوري هائل يحفز شعبيهما، إذ يوجد في السعودية عدد معتبر من السكان الشيعة يتركزون في المنطقة الشرقيّة الغنية بالنفط، ويشكل الشيعة أغلبية في العراق. بالإضافة للتهديد الشيعي، كانت السعودية تواجه حركة سنيّة متعاظمة تٌدعى بالصحوة الإسلامية. شكّل “سرور” وأتباعه جزءاً مهماً من حركة الصحوة، وأصبح بعدها كتابه نصاً مفتاحياً في الترويج للفكرة القائلة أن الثورة الإيرانيّة تشكل تهديداً عقائدياً للسنة، كحصان طروادة لاستعادة الإمبراطوريّة الفارسيّة. تلقى الكتاب دعماً شبه رسمي من قبل السعودية والعراق وآخرون. وفي مقابلة له قبل موته منذ سنتين، أقرّ “سرور” أن الكتاب استخدم من قبل هذه الدول بغض النظر عن حقيقة معارضة السعودية للوعظ الموجود داخل الكتاب، والذي دعا أيضاً إلى رفض المفهوم الديني للطاعة العمياء للحكام.
في مقدمة الكتاب، صوّر “سرور” الرفض الشعبي للطائفية في ذلك الوقت، وشرح كيف أن المؤمنين الشباب يبتعدون عنه عندما يعِضهم بشأن خطر الشيعة. اشتكى سرور أيضاً أن عدداً من الناشرين المصريين واللبنانيين رفضوا مخطوطته عند إلقاء أول نظرة عليه. مع ذلك، في نهاية المطاف، انتشر كتابه تمت قراءته على نطاق واسع. توزع مثل هذه الكتب بنسخ مقرصنة، لكن سرور كتب أنه باع مئة ألف نسخة من الكتاب وهذا رقم هائل بالنسبة لمقاييس بيع الكتب العربيّة. لقد أصبح الكتاب أداة أساسيّة في قوائم قراءة الجهاديين، فمؤسس الدولة الإسلاميّة “أبو مصعب الزرقاوي”، على سبيل المثال، كان قارئاً نهماً.
مع مرور الوقت، جذبت الأفكار الطائفيّة الاهتمام. في أفغانستان، كان يُنظر للشيعة على أنهم شوكة في خاصرة المجاهدين. فيما استقطبت الحرب العراقيّة الإيرانيّة المنطقة وزادت التوتر السني الشيعي. على الرغم من النظر إلى هذه الحرب على أنها حرب إثنيّة بين العرب والفرس. وفر كتاب سرور الإطار الذي دمج الأبعاد الطائفيّة والإثنيّة للحرب.
بالاعتماد على إرث السلالة الصفوية من القرن السادس عشر، والذي ساعد على تحويل إيران إلى دولة شيعيّة، رسمت شخصيات مثل سرور خطاً مستقيماً بين الشيعة والمؤامرات التي تهدف إلى تقسيم الإسلام من الداخل، منذ بداية الإيمان حتى هذا اليوم. ادّعت هذه الشخصيات أن قاتل عمر بن الخطاب كان فارسياً مُهاناً أتى إلى المدينة المنورة زاعماً أنه تحول للإسلام لكي يقتله.
لم يؤسس سرور لهذ السرد الطائفي لوحده. لقد كان منظراً بارزاً للحراك الديني والسياسي الأكثر أهمية في التاريخ الحديث للمنطقة، المعروف باسم السلفيّة الجهاديّة. انحرفت السروريّة، كما كانت تسمى حركته في المنطقة، عن التطرف العنيف لجماعات مثل القاعدة، لكن تأثيرها الفكري كان واسع الانتشار. وبينما لعبت الرياض وبغداد دوراً أساسياً في تشجيع أرائه الطائفيّة، فقد ضخمت عوامل أخرى هذه الأفكار؛ حيث ركزت السياسة الخارجيّة للسعودية عى تصدير السلفيّة إلى العالم.
وبالتالي فإن الطائفيّة المعاصرة لها جذور إثنيّة وجيوسياسيّة. ربما وجدت في الماضي مفتتة، ولكن تم التعبير عنها وتحويلها إلى إيديولوجيا عن طريق شخصيات مثل سرور، وتسلحيها عن طريق أنظمة حكم إقليميّة في عام 1979. دخلت المنطقة في سلسلة من الأزمات؛ استمرت الحرب العراقيّة الإيرانيّة قرابة عقد من الزمن، وأعقب سقوط نظام صدام حسين في عام 2003 حرب سنيّة شيعيّة، قادتها مليشيات من كلا الطرفين، أما تفجير القاعدة لمسجدي الإمامين العسكريين الشيعيين عام 2006 فدفع العراق إلى حرب أهليّة وفاقم الخلافات السنيّة الشيعيّة. إقليمياً، سبب الربيع العربي موجة خلافات أخرى خصوصاً في أماكن كالعراق، سوريا واليمن.
في حين كانت إيران تستطيع التظاهر أن علاقاتها الإقليميّة كانت فوق الاعتبارات الطائفيّة قبل عام 2011، فقد اعتمدت بشدة على القوى الطائفيّة في قمع الانتفاضة الشعبية في سوريا والتهديد الذي شكلته داعش في العراق. وبعد ذلك في عام 2013 ظهرت داعش مع استقطابها الطائفي الهستيري. خلال تلك الفترة ارتفع البغض الطائفي واستمر عند مستويات مرتفعة.
ليس بعد الآن، إذ تختبر المنطقة باتساعها تطورات معاكسة لتلك الاتجاهات، حيث أزالت العوامل التي أدت في الماضي إلى ارتفاع العصبيات الإثنيّة الطائفيّة. أربع تطورات يمكن أن تكون بمثابة مؤشرات تدل على أن التغيير جارٍ.
في أيار/مايو عقدت العراق أول انتخابات غير طائفيّة منذ عام 2003. على النقيض من الانتخابات السابقة، فقد لوحظ غياب الخطاب الطائفي العام حيث قامت أغلب الكتل السياسيّة بحمل شعارات عابرة للطائفيّة. وشكلت المنافسة بين الشيعة أغلبية التنافس لتشكيل الحكومة والسيطرة على المشهد السياسي. قبل الانتخابات، أصبح من الشائع سماع السياسيين والمعلقين يطالبون بالترفع عن الطائفيّة والانتقام في محاولة لإعادة الاستقرار للبلاد. ويمكن تفسير هذا التحول على أنه انعكاس لواقع جديد؛ حيث انكسر السنة ودُمرت بلداتهم نتيجة الحملة العكسرية التي قادتها الولايات المتحدة الأمريكيّة ضد داعش. هذا الواقع يمكن أن يعني أن الأغلبيّة الشيعيّة، التي تتحكم بأجزاء كبيرة من العراق كما لم تتحكم من قبل، تشعر الآن بالثقة والأمان بشكل زائد لأن “السنة الرافضين” لم يعودوا قادرين على العمل كمخربين سياسيين.
ولكن على الرغم من ذلك، تم تقييد الرغبة الشيعية في الانتقام من السنة، والتي تم التعبير عنها بشكل واسع منذ الأيام الأولى لصعود داعش، من قبل الزعماء السياسيين ورجال الدين الشيعة. توقفت دائرة الانتقام على الأقل في الوقت الحالي. لنأخذ تصريحين من قادة سياسيين في بغداد؛ في عام 2013 صوّر رئيس الوزراء السابق “نوري المالكي” الحملة ضد المتطرفين في المناطق السنيّة بعبارات طائفيّة حيث قال أن المعركة هي بين أتباع الحسين، حفيد الرسول محمد، وبين أتباع يزيد الحاكم الثاني للسلالة الأموية. أثارت التصريحات رد فعل صغير، حيث تجاهلها البعض معتبرينها موجهة ضد داعش فقط. وعلى النقيض من ذلك، عندما تحدث عضو برلماني الشهر الماضي ضد شخصيات تاريخيّة تم توبيخه من قبل زملائه و بشكل ساحق عبر الإنترنت.
التقارب بين زعماء الشيعة مثل مقتدى الصدر وجيران العراق السنة يعزز هذا الاتجاه. فقد زار رجل الدين -المعروف بوجهات نظره المتشددة، ودوره البارز في الحرب الأهليّة في العراق ما بعد عام 2003، وهجماته على الجنود الأمريكيين- الرياض العام الماضي. زار أيضاً وزير الخرجية السعودي “عادل الجبير” بغداد منذ ستة أشهر.
داخل العراق، يُعرف مقتدى الصدر بآرائه الدينية والسياسية المعتدلة نسبياً التي تشدد على إدراج ومعاملة السنة بشكل أفضل في العراق. في مارس/ آذار تم التعبير عن هذه المشاعر بشكل عملي في مباراة ودية في مدينة البصرة الجنوبية بين العراق والسعودية.
ظهرت هذه التطورات في مرحلة زوال داعش من العراق وسوريا. فقد سعت هذه داعش إلى تعميق الانقسام الطائفي بمحاولة توريط القبائل السنية في المذابح ضد أفراد من الشيعة ، وبالتالي دفع الشيعة للانخراط في دورة الانتقام. أضافت السيطرة على ثلث العراق من قبل داعش القلق إلى المناطق الشيعية، أما بعد زوال ما يُدعى بالخلافة، اتجهت أنظار العراقيين إلى سوء الحكم.
العامل الرابع أكثر أهمية، وقد تساعد التغييرات الأخيرة في مواقف السعودية على إغلاق المصدر الرئيسي للطائفيّة. منذ صعود ولي العهد، “محمد بن سلمان” اتخذت السعودية اتجاهاً مختلفاً. وقد أشار “بن سلمان” إلى عام 1979 باعتباره عاماً غيّر المملكة وقال أنه يريد الابتعاد عن السياسات التي تلت ذلك العام. بلاغته كما يميّزها البعض في الوقت الحالي هي بلاغة فحسب. لكن وجوهاً عديدة من سياساته لها تأثير حقيقي وإيجابي، وإلى جانب تقاربهم مع رجال الدين الشيعة، تعهدت السلطات السعودية أيضاً بوقف دعم المساجد خارج حدودها، وفرضت قيوداً أو ضغطاً على رجال الدين في بلادهم. كما أن هناك غياب ملحوظ للفتاوى الطائفية المعتادة والخطب المحمومة التي يلقيها رجال دين سعوديون.
لا يزال الوضع السياسي في المنطقة متقلباً، وسيكون هناك درجة من الطائفيّة المدمرة. يمكن للحرب في اليمن ضد الحوثيين أن تفاقم التوتر السني مع طائفة شيعية ينظر إليها تاريخياً على أنها قريبة من الناحية الدينية من الإسلام السني. لكن الطائفية، في الوقت الراهن، في أدنى مستوياتها في الأربعين سنة الماضية التي تلت لحظة التحول التي عاشها الشرق الأوسط عام 1979، وستبقى متدنية في المستقبل المنظور.
لم تروج التغييرات في المملكة العربية السعودية للحداثة؛ لقد أوقفت ضخ الكراهية الطائفية في المنطقة. الآن، لدى المؤسسات والأفراد المعتدلين أفضل فرصة لهم منذ عقود لتشكيل مستقبل الشرق الأوسط.
*شارك في تأليف كتاب “داعش: داخل جيش الرعب”
المقال باللغة الإنجليزيّة: هنا