كتب المقال: ايان سامبل لموقع: الغارديان
بتاريخ: 8-9-2018
ترجمة: رشا غزوان سالم
تدقيق: امنة الصوفي
تصميم: أسماء محمد
لابد انه من الصعب للغاية على جوزيف ستيغليت أن يُحافظ على إيجابيته في مواجهته للمستقبل المُحبط الذي يخشى قدومه. الحائز على جائزة نوبل وكبير الاقتصاديين السابق في البنك العالمي قام بالتفكير ملياُ في التأثيرات التي سيحدثها الذكاء الاصطناعي على حياتنا. لا شك أن التكنلوجيا ستمكننا من بناء مجتمع أكثر ثراء وحتى الاستمتاع بساعات عمل أقل في الاسبوع، كما يذكر ستيغليت. لكننا سنواجه مخاطر لا حصر لها لابد من تفاديها في الطريق. و المخاطر التي يتكلم عنها ستيغليت جدية للغاية. فهو قلق من حركات تطور خرقاء تؤدي الى استغلال نمطي في حياتنا اليومية، تاركة المجتمع أكثر انقساما من أي وقت مضى ومهددةً أسس الديمقراطية ذاتها.
“استخدام الذكاء الاصطناعي والروبوتات سيرفع انتاجية الاقتصاد ومبدئياً، هذا يمكن أن يجعل الجميع بحال أفضل،” يضيف جوزيف ستيغليت. “لكن فقط في حالة تمت ادارتها بشكل جيد”
في الحادي عشر من شهر أيلول من العام الجاري، سيذهب جوزيف ستيغليت والذي يشغل منصب بروفيسور في جامعة كولومبيا الى لندن، ليقوم بإلقاء آخر محاضراته في الجمعية الملكية الموسومة “أنت والذكاء الاصطناعي”. سيتحدث عن مستقبل العمل، وهو حقل ازدادت فيه التكهنات المتناقضة والمثيرة للأعصاب. في الشهر الماضي، يُحذر أندي هلدين المدير الاقتصادي في بنك انكلترا، ان العمَالة البريطانية في مجالات واسعة تواجه البطالة مع استحواذ الأتمتة والذكاء الاصطناعي على المزيد من الأعمال. أما عن الأعمال التي من الممكن أن يخلقها وجود تلك التقنيات، فلم يكن لديه الكثير ليقوله. في تقرير نشره موقع ” PricewaterhouseCoopers ” في شهر تموز حيث ناقش امكانية خلق تقنية الذكاء الاصطناعي لوظائف بقدر الوظائف التي استحوذت عليها، بل حتى أكثر من ذلك. بشكل مشابه لما حدث في الثورة الاصطناعية، أساس المعاناة لن يكون بسبب نُدرة العمل والوظائف، بل في صعوبة التنقل من وظيفة الى أخرى.
يُمًّيز ستيغليت بين الذكاء الاصطناعي الذي يحل محل البشر والآخر الذي يساعد العاملين في أداء مهامهم بشكل أفضل. فقد قام مُسبقاً بمساعدة الأطباء لأداء عملهم بكفاءة أكبر. مثال على ذلك ما يحدث في مستشفى ادنبروكس في كامبريدج، حيث يقوم استشاريو مرضى السرطان بقضاء وقت أقل مما سبق في التخطيط لعمل العلاج الاشعاعي للرجال المصابين بسرطان البروستات، وذلك بفضل وجود نظام ذكاء صناعي يدعى (العين الداخلية) والذي يقوم بشكل تلقائي بتحديد الغدة على أشعة المريض. بهذه الطريقة يقوم الأطباء بتسيير أمور المرضى بشكل أسرع، ويبدأ الرجال المصابون بتلقي العلاج مبكراً اضافة الى زيادة دقة العلاج الاشعاعي.
لكن الأمر مختلف بالنسبة الى المختصين في المجالات أخرى، والتي تمثل هذه التقنية تهديد لهم. فبرامج الذكاء الاصطناعي المُدربة بشكل جيد تقوم بعمل أفضل في الكشف عن أورام الصدر وغيرها من الأورام الخبيثة من أخصائي الأشعة. هل هذا يعني بطالة واسعة الانتشار بين أخصائي الأشعة؟ الأمر ليس بهذه البساطة، يقول ستيغليت. “قراءة نتيجة أشعة الرنين المغناطيسي هي فقط جزء من وظيفة هذا المُختص، لكن لا يُمكنك فصل هذه المُهمة عن بقية المَهام بسهولة.”
ومع ذلك بعض الوظائف سيتم استبدالها بالكامل وهي في الغالب لا تتطلب امتلاك أصحابها لمهارات: مثل سائقو الشاحنات وموظفو الصناديق وموظفو مراكز الاتصالات وغيرهم. وبالرغم من ذلك يرى ستيغليت مجدداً أسباباً للحذر عن ما قد يعنيه ذلك على البطالة بشكل عام. يتزايد الطلب على موظفين غير ماهرين في مجال التعليم والخدمات الصحيّة ومجال الاعتناء بكبار السن. “اذا كنا نهتم بأطفالنا وكبار السن و المرضى، فلدينا مجال متسع من الوقت لنقضيه في تطوير هذه المجالات،” يقول ستيغليت. في حال قيام الذكاء الاصطناعي بالاستحواذ على وظائف لا تتطلب مهارات معينة، فان من الممكن التخفيف من تأثير ذلك عن طريق توظيف المزيد من الناس في مجالات الصحة والتعليم وأعمال الرعاية الاجتماعية ودفع أجور مناسبة لهم، يضيف ستيغليت.
فاز ستيغليت بجائزة نوبل للاقتصاد عام 2001 وذلك عن تحليله لنقص المعلومات في الأسواق. تلى ذلك بعام نشره لكتاب (العولمة وسخطها) “Globalization and Its Discontents”، والذي أوضح فيه خيبة أمله في صندوق النقد الدولي؛ رديف منظمة البنك العالمي وبصورة موسعة أكثر لوزارة المالية الأمريكية. طرح فيه مسألة قيادة المفاوضات التجارية من قبل الشركات متعددة الجنسية على حساب العُمّال والمواطنين العاديين. “ما أود التركيز عليه ان الآن هو الوقت المناسب للتركيز على قضايا السياسة العامة المُحيطة بالذكاء الاصطناعي، لأنها تأتي بمخاوف ضمن سلسلة كانت قد جلبتها العولمة والابتكار. حيث كان استيعابنا بطئ لتأثيرهما وهو خطأ لا نريد تكراره.”
يتعدى تأثير الذكاء الاصطناعي على مجالات العمل فهناك قوى خبيثة في الساحة، كما يرى ستيغليت، تتخذه كسلاح، فشركات التكنلوجيا يمكن أن تستخرج معلومات من البيانات التي نقوم نحن بتسليمها من خلال بحثنا أو شراءنا للمنتجات أو مراسلة أصدقائنا. فهي تُستخدم بشكل واضح من أجل ايصال خدمات شخصية أكثر. وهذا منظور واحد. أما الآخر فهو استخدامه ضدنا.
“يُثير عمالقة التكنلوجيا مشاكل عميقة للغاية تتعلق بالخصوصية والقدرة على استغلال العامة من الناس، جميعها مشاكل لم تكن تعهدها أزمنة قوى الاحتكار السابقة، ” يقول ستيغليت. “في السابق كان أقصى ما تستطيع فعله هو رفع الأسعار، أما الآن فيمكنك استهداف أفراد بعينهم باستغلال معلوماتهم.”
أكثر ما يُقلق ستيغليت هو احتمال حصد البيانات. لنأخذ مثال على ذلك، سيتمكن التجار من تتبع الزبائن باستخدام هواتفهم الذكية أثناء تنقلهم بين المتاجر جمع بيانات حول ما يُثير اهتمامهم وما قد يجتازوه دون أي اهتمام.
“في تفاعلكم مع غوغل والفيس بوك والتويتر وغيرها، تقوم هذه البرامج بتجميع بيانات هائلة عنكم، اذاً فان هذه الشركات تمتلك الكثير من المعلومات عنكم كأشخاص؛ أكثر مما قد تعلموها عن أنفسكم،” يقول ستيغليت.
“لنعطي مثال على ذلك، فهم يعلمون من يبحث بطريقة معينة يملك الرغبة في دفع المزيد من المال. لديهم معرفة بكل شئ. بمعنى ان الحياة ستصبح غير سارة بشكل متزايد، وذلك لأن تبعات زيارتك لمتجر معين قد ينتج عنها صرفك للمزيد من المال. قد يصل حد وعي الناس بهذه اللعبة الى اضطرابات في سلوكهم. ما هو واضح ان هذا يخلق مستوى جديد من القلق من كل ما هو حولنا ويؤدي الى تنامي الطبقية أكثر.”
يطرح ستيغليت مسألة ان الحكومات و الشركات لم يقوموا بما يكفي لمنع تلك الانتهاكات، حتى الآن. “ما نملكه الآن هو غير كافي على الاطلاق،” و يستمر ستيغليت قائلاً, “لا يوجد سبيل لتحجيم هذا النوع من سوء التصرف ونحن نملك أدلة كافية على وجود أناس على استعداد لفعل ذلك، دون امتلاكهم الى أي رادع أخلاقي.”
هناك استعدادات في الولايات المتحدة تحديداً، لفسح المجال أمام شركات التكنلوجيا بالتزام التخلص من عدد لابأس به من قواعد السلوك، هذا باعتقاد ستيغليت.
احدى الأسباب ذلك هو درجة تعقيد تلك التقنيات والتي تجعلها مثيرة للرهبة. “فهي تُربك عدد كبير من الناس ويكون ردهم: نحن لا نستطيع فعل ذلك والحكومة لا تستطيع فعل ذلك، علينا أن ندع الأمر لعمالقة التكنلوجيا اذاً.”
لكن ستيغليت يعتقد بأن وجهة النظر هذه تتغير. هناك وعي متزايد بكيفية استغلال الشركات للبيانات من أجل استهداف المستهلكين. “في البدء، معظم الشباب كانوا مع الرأي القائل: ان ليس لدي ما أخفيه، اذا تصرفت بشكل لائق، فليس هناك ما أخشاه؟، ما الضرر الذي يمكن أن يحدث؟، أما الآن فقد بدأوا بادراك ان ما قد ينتج عنه هو الكثير من الضرر. أعتقد ان نسبة كبيرة من الأمريكيين لم يعودوا يحسنوا الظن في شركات التكنلوجيا.”
كيف نعود الى المسار الصحيح، اذاُ؟ ما يقترحه ستيغليت من تدابير هي واسعة النطاق بحيث يصعب رؤيتها تُطبق سريعاُ. يذكر ان الهيكل التنظيمي لهذه التدابير يجب أن يُقرر بشكل علني. يتضمن ذلك نوعية البيانات التي يتوجب على الشركات الاحتفاظ بها والبيانات التي بإمكانهم استخدامها وامكانية دمج مجاميع مختلفة من البيانات اضافة الى السبب الذي قد يدفعهم لاستخدام تلك البيانات وما هي درجة الشفافية التي يتوجب عليهم تقديمها عند استخداماتهم للبيانات. “جميعها مسائل يجب أن يتم الوصول الى قرار نهائي فيها، “يقول ستيغلي. “لا يُمكنك السماح لعمالقة التكنلوجيا لتحديد ذلك. يجب أن تتم بشكل علني مع وجود الوعي بالخطر الذي تمثله تلك الشركات.”
هناك حاجة الى وجود سياسات جديدة للحد من القوى الاحتكارية واعادة توزيع الثروات الهائلة المُتركزة لدى شركات الذكاء الاصطناعي الرائدة، يقول مضيفاً. في هذا الشهر أصبحت أمازون الشركة الثانية بعد أبل، بتقييم يصل الى واحد تريليون دولار. وبذلك تتعدى قيمة الشركتين مُجتمعتين قيمة أفضل عشر شركات نفط مُجتمعة. “عندما تتوفر هذه الكمية الهائلة من الثروات في أيدي قليلة نسبياً، سيخلق ذلك المزيد من عدم المساواة وهذا يعود بالضرر على مفهوم الديموقراطية في مجتمعنا” يقول ستيغليت.
حين يتعلق الأمر للضرائب فإنها لا تكفي. برأي ستيغليت، الأمر يتعلق بقوة المساومة على العمّالة وحقوق الملكية الفكرية و اعادة تعريف قوانين منافسة جديدة وفرضها على الساحة اضافة الى قوانين حوكمة الشركات وطريقة عمل النظام المالي. “انها أجندة ذات نطاق أوسع من مجرد اعادة توزيع للثروات” يقول موضحاً.
ستيغليت ليس من الداعمين لوجود دخل أساسي موحد “Universal basic income”، وهو اقتراح يتضمن حصول الجميع على دعم مالي لتغطية تكاليف المعيشة دون أي شرط أو قيد. الداعمون لهذا المُقترح يرون ان مع تزايد ما تجمعه شركات التكنلوجيا من ثروات، فان وجود الدخل الأساسي الموحد “UBI” قد يساعد في اعادة توزيع الثروة والتأكد من حصول الجميع الى الفائدة. أما لستيغليت فهو تكاسل لعمل ما يتطلبه الأمر فعلاً.
يقول ستيغليت، “في حالة عدم تغيير الأطر العامة لسياساتنا الاقتصادية، فإننا نتجه نحو فجوة طبقية أكبر تأتي نتيجة لعدم المساواة في توزيع الثروة والدخل والمزيد من البطالة ومجتمع مُنقسم اكثر على الأغلب. رغم ذلك يبقى الأمر غير محتوم، ويضيف، “بتغيير القواعد قد نحصل على مجتمع أكثر ثراء، وثمار مُقسمة بشكل عادل، مع امكانية حصول الموظفين على عمل أقل خلال الأسبوع. فقد سبق وانتقلنا من العمل لستين ساعة في الاسبوع الواحد الى خمسة و أربعين ساعة ومن الممكن أن نصل الى ثلاثين أو خمسة وعشرين ساعة.”
لكن أي من هذا لن يحصل خلال ليلة وضحاها، يقول محذراً. للبدء بذلك، هناك حاجة الى نقاش عام جدي حول الذكاء الاصطناعي والعمل على ايجاد أفكار جديدة، “قد يقوم وادي السيليكون* بتوظيف مجاميع غير متكافئة؛ من موظفين يعملون في مجال الذكاء الاصطناعي، لكن الأمر قد لا يحتاج الى عدد كبير من الموظفين لكشفه، من ضمنهم من يعملون داخل الوادي، والذين يشعرون بالسخط جراء ما يحدث، ويقول ، “الناس سوف تبدأ، وقد بدأ بعضهم بالفعل، في اعطاء أفكار جديدة. سيكون هناك من لديهم المهارات الكافية للمحاولة في ايجاد الحلول.”
المقال باللغة الإنجليزية: هنا