كتبه لموقع “فورين أفيرز”: فرانسيس فوكوياما
نُشِر في عدد أيلول/ تشرين الأول 2018
ترجمة: ياسين إدوحموش
تدقيق: أمير صاحب
تصميم الصورة: أسماء عبد محمد
بدأت السياسة العالمية منذ بضعة عقود تشهد تحولًا دراماتيكيًا. فمنذ أوائل السبعينيات وحتى العقد الأول من هذا القرن، ارتفع عدد الانتخابات الديموقراطية من حوالي 35 إلى أكثر من 110. وخلال نفس الفترة، تضاعف الإنتاج العالمي للسلع والخدمات أربعة أضعاف، وتوسع النمو ليشمل جميع مناطق العالم تقريبًا، كما انخفضت نسبة الأشخاص الذين يعيشون في فقر مدقع، حيث انخفضت نسبتهم من 42% من سكان العالم في عام 1993 إلى 18% في عام 2008.
مع ذلك، لم يجن الجميع الثمار من هذه التغييرات. ففي العديد من البلدان، وخاصة في الديمقراطيات المتقدمة، ازداد التفاوت الاقتصادي بشكل كبير، إذ تدفقت فوائد النمو في المقام الأول إلى جيوب الأثرياء والمتعلمين. لقد جلبت زيادة حجم البضائع والمال والأشخاص الذين ينتقلون من مكان إلى آخر تغييرات مدمرة. ففي البلدان النامية، وجد القرويون الذين لم تكن لديهم كهرباء في السابق أنفسهم فجأة يعيشون في المدن الكبيرة، يشاهدون التلفاز ويتصلون بالإنترنت على هواتفهم المحمولة، كما ظهرت طبقات متوسطة جديدة ضخمة في الصين والهند، لكن تم الاستعاضة عن العمل الذي قاموا به بالعمل الذي كانت تقوم به الطبقات المتوسطة القديمة في العالم المتقدم. انتقل التصنيع بثبات من الولايات المتحدة وأوروبا إلى شرق آسيا ومناطق أخرى مع انخفاض تكاليف العمالة. في الوقت نفسه، كان الرجال يشردون من قبل النساء في سوق العمل الذي تهيمن عليه بشكل متزايد صناعات الخدمات، كما وجد العمال ذوو المهارات المنخفضة أنفسهم محل آلات ذكية.
في نهاية المطاف، أدت هذه التغييرات إلى تباطؤ الحركة نحو نظام عالمي يتسم بالانفتاح والليبرالية على نحو متزايد والذي بدأ يتداعى وسرعان ما انعكس. كانت الضربات الأخيرة تتمثل في الأزمة المالية العالمية في عام 2007–2008، وأزمة اليورو التي بدأت في عام 2009. في كلتا الحالتين، أنتجت السياسات التي وضعتها النخبة فترات ركود هائلة، وأدت لارتفاع معدلات البطالة وانخفاض في مداخيل ملايين العمال العاديين. وبما أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي هما النموذجان الرائدان للديمقراطية الليبرالية، فإن هذه الأزمات أضرت بسمعة ذلك النظام ككل.
في الواقع، انخفض عدد الديمقراطيات في السنوات الأخيرة وتراجعت الديمقراطية في جميع انحاء العالم تقريبًا. في نفس الوقت، أصبحت العديد من الدول الاستبدادية، بقيادة الصين وروسيا، أكثر صرامة بكثير. لقد عادت بعض الدول التي بدت ديمقراطيات ليبرالية ناجحة خلال تسعينيات القرن الماضي – بما في ذلك المجر وبولندا وتايلاند وتركيا – إلى الوراء تجاه الاستبداد، كما أدت الثورات العربية في اشتعلت شرارتها في 2010-2011 إلى تعطيل الأنظمة الديكتاتورية في جميع أنحاء الشرق الأوسط، لكنها في المقابل لم تسفر عن شيء يذكر فيما يتعلق بالديمقراطية: ففي أعقابها، تشبثت الأنظمة الاستبدادية بالسلطة، واندلعت الحروب الأهلية في العراق وليبيا وسوريا واليمن. كان الأمر الأكثر إثارة للدهشة وربما الأكثر أهمية في نجاح القومية الشعوبية في الانتخابات التي أجريت عام 2016 في اثنتين من أقوى الديمقراطيات الليبرالية في العالم: المملكة المتحدة، التي اختار فيها الناخبون مغادرة الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة، التي حقق فيها دونالد ترامب مفاجأة انتخابية مدوية في السباق للرئاسة.
كل هذه التطورات تتعلق بطريقة أو بأخرى بالتغيرات الاقتصادية والتكنولوجية المصاحبة للعولمة. لكن لديها أيضا جذور عميقة في ظاهرة مختلفة، وهي “صعود سياسة الهوية”. لقد عُرفت سياسة القرن العشرين، في معظمه، من خلال القضايا الاقتصادية، ففي اليساريين، ارتكزت السياسة على العمال والنقابات وبرامج الرعاية الاجتماعية وسياسات إعادة التوزيع. وعلى النقيض من ذلك، كان اليميني مهتمًا في المقام الأول بخفض حجم الحكومة وتعزيز القطاع الخاص. مع ذلك، فإن السياسة اليوم تُعرَّف أقل بالاهتمامات الاقتصادية أو الإيديولوجية أكثر مما تُعرف بمسائل الهوية. في الوقت الحاضر، يركز اليسار في العديد من الديمقراطيات بشكل أقل على خلق مساواة اقتصادية واسعة، ويركز بشكل أكبر على تعزيز مصالح مجموعة واسعة من الجماعات المهمشة مثل الأقليات العرقية والمهاجرين واللاجئين والنساء والمثليين. في الوقت نفسه، أعاد اليميني تحديد مهمته الأساسية المتمثلة في الحماية الوطنية للهوية الوطنية التقليدية، التي ترتبط في كثير من الأحيان صراحة بالعرق أو العرق أو الدين.
الجزء الثالث للنفس
يفترض معظم الاقتصاديين أن البشر مدفوعون بالرغبة في الحصول على الموارد المادية أو البضائع. إن هذا المفهوم للسلوك البشري له جذور عميقة في الفكر السياسي الغربي ويشكل أساس معظم العلوم الاجتماعية المعاصرة، لكنه يترك عاملًا أدرك الفلاسفة الكلاسيكيون أن له أهمية بالغة، وهو الرغبة في الكرامة. اعتقد سقراط أن مثل هذه الرغبة شكلت “جزءًا ثالثًا” لا يتجزأ من النفس البشرية، جزء يتعايش مع “الجزء الراغب” و “الجزء الحاسب”. أطلق أفلاطون على هذا الجزء في الجمهورية، لفظ “الثيموس”، الذي ترجم للإنجليزية بشكل سيء بلفظ “الروح.”
في مجال السياسة، يتخذ الثيموس شكلين اثنين؛ أولهما ما أسميه “الميغالوثيميا“، أي الرغبة في أن يتم الاعتراف بعلو مكانتنا. لقد كانت المجتمعات ما قبل الديمقراطية قائمة على التسلسل الهرمي، وكان إيمانهم بالتفوق المتأصل لطبقة معينة من الناس – النبلاء و الأرستقراطيون والأسر المالكة – أمرًا أساسيًا للنظام الاجتماعي. تكمن المشكلة بخصوص الميغالوثيميا في أنه بالنسبة لكل شخص معترف بعلو مكانته، يتم النظر للمزيد من الناس على أنهم أقل شأنا ولا يتلقون اعترافًا عامًا بقيمتهم الإنسانية، فينشأ شعور قوي بالاستياء عندما لا يحترم أحد. والشعور القوي بنفس القدر – ما أسميه الإيزوثيميا – يجعل الناس يريدون أن ينظر إليهم على أنهم جيدون مثل أي شخص آخر.
إن صعود الديمقراطية الحديثة تعد قصة انتصار الإيزوثيميا على الميغالوثيميا، إذ تم استبدال المجتمعات التي تعترف بحقوق عدد قليل من النخب بأخرى تعترف بأن الجميع متساوون بطبيعتهم. خلال القرن العشرين، بدأت المجتمعات التي تتسم بالطبقية بالاعتراف بحقوق الناس العاديين، كما سعت الدول التي تعرضت للاستعمار للحصول على الاستقلال. لقد كانت النضالات العظيمة في التاريخ السياسي للولايات المتحدة حول العبودية والفصل العنصري وحقوق العمال ومساواة المرأة مدفوعة بمطالب بأن يوسع النظام السياسي دائرة الأفراد الذين تعترف بهم كبشر كاملين.
ولكن في الديمقراطيات الليبرالية، لا تؤدي المساواة بموجب القانون إلى مساواة اقتصادية أو اجتماعية، حيث لا يزال التمييز قائمًا ضد مجموعة واسعة من المجموعات، كما تُنتج اقتصادات السوق أوجه انعدام مساواة كبيرة في النتائج. على الرغم من ثروتها الإجمالية، شهدت الولايات المتحدة والدول المتقدمة الأخرى زيادة في حجم التفاوت في الدخل بشكل كبير خلال السنوات الثلاثين الماضية، وقد عانت أجزاء كبيرة من سكانها من ركود على مستوى الدخل، وشهدت شرائح معينة من المجتمع حراكا اجتماعيا تنازليا.
قد تساعد التهديدات المتصورة لوضع المرء الاقتصادي في تفسير صعود النزعة القومية الشعوبية في الولايات المتحدة وأماكن أخرى. لم تكن الطبقة العاملة الأمريكية، التي تم تعريفها على انها أشخاص لديهم تعليم ثانوي أو أقل، جيدة في العقود الأخيرة، وهذا لا ينعكس فقط في حالة الركود أو الانخفاض في الدخول وخسارة الوظائف، بل في الانهيار الاجتماعي كذلك. بالنسبة للأميركيين الأفارقة، بدأت هذه العملية في السبعينات، بعد عقود من الهجرة الكبرى، عندما انتقل السود إلى مدن مثل شيكاغو وديترويت ونيويورك، حيث وجد الكثير منهم عملاً في صناعة تعليب اللحوم أو صناعة الصلب أو صناعة السيارات. ومع تراجع هذه القطاعات، وبدء الرجال بفقدان الوظائف من خلال عملية تقليص التصنيع، تبعتها سلسلة من الأمراض الاجتماعية، بما في ذلك ارتفاع معدلات الجريمة ووباء كوكايين وتدهور الحياة الأسرية، مما ساهم في نقل الفقر من جيل إلى جيل.
المقال باللغة الإنجليزية: هنا