ترجمة: سامر حميد
تصميم: أحمد الوائلي
لا تعد ممارسة الجنس الحدث الأول من نوعه عند معظم البشر، فنحن نمارس الجنس لأننا نريد إنجاب الأطفال، أو لأنه شعور رائع، أو الاثنين معاً. غير أن العديد من الكائنات الحية كالبكتيريا أو الحيوانات الأولية (البروتوزا) تستطيع بكل بسهولة أن تقسم نفسها إلى أثنتين دون الحاجة إلى شريك، أما بالنسبة للحيوانات التي تتكاثر بطريقة لاجنسية فهي نادرة ولكنها موجودة. فعلى سبيل المثال، يوجد في غرب الولايات المتحدة أنواع من السحالي أناث فقط؛ ليس فيها أي ذكر. فالأنثى تعتلي أنثى أخرى، تعضها من رقبتها، وتدور حولها وكأنها تقلد الذكر. علماء الزواحف والبرمائيات يعتقدون بأن الأنثى التي تقلد الذكر (المُعتَلِيَّة) تجعل الأخرى تبيض. غير أنها بطبيعة الحال، لا تحتاج الى الحيوانات المنوية الذكرية لتلقيح بيوضها، فالبيضة ببساطة تبدأ بالانقسام وتنمو إلى جنين، وعندما تبدأ هذه النسخ المتكررة في النمو، فأنها ستلد أناث فقط، وجميعها نسخ مماثلة من الأم، التي ستعود للعب الدور الذكري الزائف. التكاثر الجنسي ليس أمراً غير ضروري فحسب، ولكنه من المقصود أن يكون وصفة لكارثة تطورية لسبب واحد: هو طريقة غير فعالة في التكاثر لعالم السحالي اللاجنسية، فكل سحلية يمكنها أن تحمل طفلها الخاص، أما في عالم التكاثر الجنسي للكائنات الحية فنصف المجتمع الأحيائي فقط يستطيع فعل ذلك، فإذا ما كان هناك مجتمع من الكائنات اللاجنسية والكائنات الجنسية يعيشان جنب إلى جنب، لفاق عدد المجتمع الأولى (اللاجنسي) عن الثاني (الجنسي) بسرعة التكاثر التصاعدية. فضلاً عن أن التكاثر الجنسي يحمل تكلفة إضافية كذلك، فحينما تتصارع الذكور على الاناث باستخدام القرون أو الرقصات الغنائية، فأنهم سوف يهدورن طاقة كبيرة، لابل أنهم يعرضون أنفسهم في كثير من الاحيان لخطر الافتراس. وهذا ما صرح به أيضاً العالم (روبرت فريينهوك) من معهد أبحاث الأحياء المائية بخليج مونتيري: “إن تكلفة الجنس مهولة للغاية”. وفي الحقيقة، يجب أن تكون أي مجموعة من الحيوانات التي تطور التكاثر الجنسي أقل تفوقاً من الكائنات غير الجنسية، وبالرغم من ذلك ساد التكاثر الجنسي. فذكور الطاووس لا يظهرون أي توّجه للتخلص من ذيلوهم الثقيلة، وكذلك لا تتوقف الأجيال الجديدة من ذكور العناكب الحمراء عن وضع أنفسها بين فكيّ الإناث القاتلة كما فعل أباؤها، فضلاً عن وجود نسبة ضئيلة من الفقاريات تعتمد التكاثر اللاجنسي. لماذا ينجح التكاثر الجنسي بالرغم عن كل هذه العيوب؟ يحاول العلماء في الآونة الأخيرة حشد الدعم الكافي لفرضية مثيرة للدهشة تنص على أن : الجنس يكافح الطفيليات. فالطفيليات تحدث أضراراً وخسائر فادحة بعائِلها، لذلك أيَّ ميزة تكيفيًّة تخلص هذه العوائِل من الطفيليات ستكون ناجحة جداً ومرغوبة إلى حد كبير. علماء البيولوجيا ومنذ مطلع سبعينيات القرن العشرين، قاموا بوضع مجموعة من النماذج الرياضية البسيطة عن التطور المشترك Co-evolution بين الطفيليات وعوائِلها، والتي اقترحت بان هذه العلاقة تدور في حلقات متكررة، مثل لعبة “الاحصنة الدوّارة” في مدينة الالعاب. الآن، تخيّل معي مجموعة من الأسماك تتكاثر بنسخ نفسها (لاجنسياً) في بركة معينة، كل سمكة هي نسخة من أمها، ومع ذلك قد تحصل بعض الطفرات التي تظهر في سمكة واحدة وتنتقل إلى ذريتها المنحدرة، وحينها سيشكلون سُلالة محددة عن باقي السُلالات بواسطة هذه الطفرة الفريدة. أفترض الآن بأن طفيلياً قتالاً غزى هذه البركة؟ هذا الطفيلي سوف يتطفر أثناء انتشاره، مشكلا سُلالاته الخاصة، بعض هذه السُلالات ستحمل طفرات معينة تجعلها الأفضل في مهاجمة سُلالة معينة من الأسماك. فالسُلالة التي يمكنها مهاجمة أكثر أنواع الأسماك شيوعاً، سيكون لديها أكثر عدد من العوائِل، أما السُلالات الأخرى فسوق تقتصر في عدد محدود من العوائِل وتتضاءل إلى مستويات منخفضة. في الواقع، هذه الطفيليات تقوّض من نجاحها الخاص، فهي تنمو وتزدهر بصورة مكثفة في بعض الاسماك (لنطلق عليها سُلالة أ) وتقضي عليها بطريقه أسرع تكاثرها، لذلك سيتضاءل عدد أفراد المجتمع الأحيائي للأسماك من النوع (أ) وتختفي، والأن ستجد طفيلياتها وقتاً أكثر صعوبة في البحث عن عائِل جديد لتصيبه وبذلك تتناقص أعدداها كذلك. هذا الهجوم على الاسماك (أ) سوف يعطي للسُلالات النادرة الاخرى ميزة تطّورية: غير مُثقلة بالطفليات. مما يؤدي في نهاية الأمر لسيادة سُلالة أخرى من الاسماك (لنطلق عليها سُلالة ب) ومع نموها بشكل أكثر نجاحًا، تصبح أرضًا خصبة للطفيليات النادرة الأكثر تكيفًا معها. لتتضاعف وتحلق من النمو الانفجاري لعوائِلها، وعندما تتدهور الاسماك (ب) تحل محلها سُلالة أخرى (ج)، وهلمَّ جراً. يطلق علماء الاحياء على هذا النموذج من التطوُّر (فرضية الملكة الحمراء)، وهو اسم يشير إلى شخصية الكاتب (لويس كارول) في روايته (عبر المرآة، وما وجدته ”أليس“ هناك) حيث أن تأخذ (الملكة الحمراء) الفتاة (أليس) في مسير طويل ليبقوا في نهاية المطاف في نفس المكان. لتصرح (الملكة الحمراء): “بأن الأمر يتطلب كل الركض الذي تستطيع أن تركضه لتبقى في نفس المكان”، وفي تجربتنا عن الطفيليات وعوائِلها، فهي تتعرض لقدر هائل من التطوُّر، ولكنها لا تنتج أي تغير طويل الأمد، ويبدو الأمر وكما لو أنهم يراوحون مكانهم تطورياً.عالم البيولوجيا في أكسفورد (وليام هاملتون)، طرح في بداية ثمانينات القرن الماضي، بأن يكون التكاثر الجنسي قد يحقق ميزة للحيوانات التي تكافح في سباق الملكة الحمراء، والسبب في ذلك يعود لصعوبة تكيف الطفيليات معهاً. فالحيوان الذي يتكاثر بطريقة جنسية، لن يكون نسخة من أمه، فهو يحمل تركيب من جينات الأم والأب معاً. وهذا المزيج ليس دمجاً بسيطاً للجينات الأبوية. فعندما تنقسم الخلايا إلى حيوانات منوية وبيوض، فسوف يلتف كل زوج من الكروموسومات حول بعضها البعض ويقوما بتبادل الجينات. وبفضل هذه الرقصة الجنسية، تختلط الجينات الذكرية والأنثوية في مليارات من التراكيب المدمجة المختلفة في ذرياتهم. ونتيجة لذلك، لا تتطور الأسماك المتكاثرة جنسياً الى سلالة محددة؛ تنتشر جيناتها في جميع انحاء المجتمع الأحيائي في البركة مندمجة مع جينات غيرها من الأسماك. فجينات السمكة التي فقدت قدرتها على الحماية من الطفيليات يمكن ان تحفظ بعيداً في الحمض النووي الخاص بسمكة تحمل أيضا جيناً أكثر فعالية. هذه الجينات غير المستفاد منها يمكن فيما بعد أن توفر حماية أفضل ضد الُسلالات الجديدة من الطفيليات. ومع ذلك، لاتزال الطفيليات قادرة على اصابة الأسماك التي تتكاثر بطريقة جنسية ولكنها لا تجبرها على دورات دراماتيكية من الازدهار والانكماش كما تعاني أقرانها المستنسخة (اللاجنسية).هذه هي الفرضية، وعلى أي حال، فهي تبشر بمستقبل واعد في النماذج النظرية، غير أن العلماء كانوا بحاجة إلى اختبارها في العالم الحقيقي. وفي سبعينيات القرن العالم، عثر العالم (روبرت فريينهوك)، تجربة طبيعية بين أسماك (توب مينوز) التي تعيش في البرك والجداول المكسيكية. هذه الأسماك في بعض الأحيان تتزاوج مع الأنواع مرتبط معها ارتباطًا وراثياً وثيقًا، والذي يؤدي إلى انتاج أسماكًا هجينة تحتوي على ثلاث نسخ من الجينات بدلاً من اثنتين. هذه الهجائن هي أنثى دوماً، وهي تتكاثر دائمًا عن طريق استنساخ نفسها (لاجنسياً) بدلاً من التزاوج (الجنسي). ومن أجل تحفيز نمو بيوضها، هي تحتاج الحصول على الحيوانات المنوية من أسماك ذكورية، لكن من دون دمجها في جيناتها. (فريينهوك) وزملاؤه قاموا بدراسة هذه الاسماك في العديد من الأحواض والأنهار المختلفة، وكلٌ منها أعطت تأكيدًا مختلفا ً لفرضية الملكة الحمراء. هذه الأسماك تصاب بنوع من الاكياس الطفيلية الناجمة من الاصابة بالمثقوبات الطفيلية. وفي إحدى البرك، وجد (فريينهوك) أن النُسخ المهجنة تحتوي على العديد من الأكياس مقارنة بالأسماك الجنسية. وبعبارة أخرى، كانت الأسماك المستنسخة (لا جنسية) هدفاً سهلاً للإصابة من الأسماك الجنسية، فالطفيليات فهي كانت لها القدة على التكيف مع نظام المناعة بشكل أسرع. وفي بركة أخر كانت تعيش فيها سلالتين من الحيوانات المستنسخة، جاءت النتائج تمامًا كما تتنبأ فرضية الملكة الحمراء؛ أصبحت الأكثر عرضة لمزيد من الإصابات. ولكن، في بركة ثالثة، جاءت النتائج متناقضة مع هذه الفرضية: كانت الأسماك الجنسية هي الأكثر ضعفاً من اللاجنسية. (فريينهوك) درس هذه البركة عن كثب، وتبين فيما بعد بأنها تعطي تأكيد أقوى. فهذه البركة تعرضت لحادثة جفّاف منذ بضع سنوات، وبعد أن رجعت، لم يعاد إليها سوى عدد قليل من الأسماك. ونتيجة لذلك، كانت السمكة الجنسية هي الأكثر نتاجاً من التزاوج. ومن ثم حرمت من التنوع الوراثي الذي يمثل ميزة الجنس. لذلك أضاف (فريينهوك) وزملاؤه المزيد من الأسماك الجنسية إلى البركة لتعزيز تنوع حمضها النووي. في غضون عامين كانت الأسماك الجنسية في مأمن من الطفيليات، والتي تحولت إلى مهاجمة المستنسخات.
المصدر: كتاب (التطور انتصار فكرة : من داروين إلى الحمض النووي، الفصل العاشر: العاطفة والمنطق، لماذا الجنس؟) كارل زيمر