الرئيسية / أجتماع / الحب في زمن الفردانيّة

الحب في زمن الفردانيّة

كتبه لمجلة (الأتلانتيك): جولي بيك
منشور بتاريخ: 22 أيلول 2017
ترجمة: آلاء عبد الأمير
مراجعة: أحمد نُعيم
تصميم: مرتضى ضياء

في الثالث عشر من تموز عام 1960، توفيت الشاعرة والكاتبة الأمريكية (جوي دايفيدمان) التي كانت تُلّقب بالطفلة المعجزة، وهي زوج الكاتب (سي أس لويس) بعد صراع مع مرض سرطان العظام. وفي اليوم التالي، كتب لويس رسالة إلى (بيتر بايد)، القسّ الذي أشرف على مراسم زواجهما ليعلمه الخبر.

أودّ أن نلتقي، كتب لويس مقترحًا أن يتناول الاثنان الغداء في وقتٍ عاجلٍ. إنني أعاني من فراغٍ شديدٍ الآن، رباهٌ ما هذه الحالة التي لم أعهدها من قبل. لا يدركُ أحدنا وهو في مقتبل حياته أن الوحدة هي ثمن الحرية. وأن التقيّد والالتزام هما مفتاح السعادة.

عندما نتطرق إلى الحياة العاطفية، نجد أن الأمريكيين أكثر حرية من أي وقت مضى؛ فهم أحرارٌ في الزواج والطلاق، أحرارُ في ممارسة الجنس في أي وقت مع أي شخص بعواقبٍ أقل، أحرارٌ في المُساكنة بدون زواج، أحرارٌ في البقاء عازبين، أحرارٌ في إقامة علاقة مفتوحة أو علاقة متعددة مع أكثر من شريك.

لكن لو أن ثمن الحرية هو الوحدة، أكنت تدفعه؟
جدير بالذكر أن معدلات الزواج قد تراجعت بين الشباب بالفعل حيث يُقدّر أن ثلث الأشخاص في أوائل العشرينات من العمر لن يتزوجوا قط حسبما أفاد عالم الإحصاء السكاني الذي استشهد به رغنيروس. لكن يؤكد كاتب آخر هو يلاي فينكل في كتابه بعنوان [الزواج كل شيء أو لا شيء] عن العلاقات الحديثة أن عُرف الزواج في أمريكا يواجه تحدياً.. وأن عصرنا أفضل من عصور سابقة من حيث الزيجات الجيدة، بل إن الزيجات في عصرنا أفضل زيجات عرفها التاريخ. فوسائل منع الحمل جعلت الجنس أقل خطورة، ومنصات المواعدة الإلكترونية جعلته متاحاً أكثر. وإن لم يفلح كل ذلك، فهناك دائماً المواقع الإباحية، التي يسهل الوصول إليها دون عناء. ويقول الكاتب إن هذه العوامل أبطأت وتيرة إقامة علاقة ملتزمة؛ وأعني بالأخص الزواج.

فلم يعد الزواج مدخلاً إلى عالم البلوغ، بل هو “مرحلة نهائية” اختياريّة محددة بمعايير أعلى. ويؤكد (رغنيروس) أن ديناميكيات الزواج الحديثة هي عقبة أمام إيجاد علاقة تستحق الالتزام. فيما يقول (فينكل): إذا نجحت الزيجات الحديثة في الوفاء بالتوقعات العالية في وقتنا الحالي، فهذه نتيجة مُرضية للغاية. ولعل أحدهما أكثر تفاؤلاً من الآخر، لكن كلاهما يتفقان في أن زيادة سقف الحرية قد غير الحياة العاطفية نفسها.

إن مفهوم الاقتصاديات الجنسية يستند إلى تقسيم صارم للأدوار بين الجنسين: فالنساء يمثلن كفة العَرض والرجال الطلب. وثمة تاريخ طويل وراء مفهوم “العلاقة التبادلية” الذي حدده الكاتب، فالنساء بأيديهن مفاتيح الجنس. وكي تحصل على هذا المفتاح، عليك بتوفير الموارد اللازمة والتحلي بالالتزام والإخلاص.

في عصورٍ سابقةٍ، كان مفهوم العلاقة التبادلية فعّالاً في إنتاج زيجات، في ظل أعرافٍ جنسية صارمة واسترقاق للنساء. لكن مع شيوع الجنس قبل الزواج وخارج نطاق العلاقات الملتزمة حيث صار الجنس آمنًا وغير موصوم بالعار، لم يعد لزاماً على الرجال بذل جهد جهيد لنيله. لذا يفر الرجال من الالتزام مع امرأة واحدة. ولم تعد نساء عديدات بحاجة للموارد التي يوفرها الرجل على أية حال، فهنّ يمتلكن مواردهن الخاصة. لكن أصبح الرجال يسيطرون على سوق التزاوج في نموذج رغنيروس، مما أرغم النساء على تقبّل الجنس الرخيص وما يصاحبه من وقاحة.

ولا يتحدث (رغنيروس) كثيراً عن علاقات المثليات والمثليين ومزدوجي الميل الجنسي ومغايري الهوية الجنسانية (LGBT)، إلا ما يتعلق بتأثير ديناميكيات السوق في دفع النساء إلى تجربة العلاقات المثلية، للتغلب على مشكلة الرجال غير الملتزمين. ويقول إن عدم وجود رقيب على العلاقات بين الرجال المثليين، يجعلهم أقل انخراطًا في علاقات زواج أحادية.

ويُجمل (رغنيروس) فكرته عن العلاقات بين الجنسين (الجنس المغاير) قائلاً: ليس الأمر متعلقاً بزوال الحب، وإنما بتلاشي الدوافع الجنسية التي تدفع الرجال للتضحية والالتزام. وهذا الأمر خلق طريقا ملتويًا ومربكًا للزواج والالتزام مقارنة بالعصور السابقة.

وهذه صفعة لنظرية جوهرية الأجناس. وتعد فرضية (رغنيروس) الأساسية صحيحة: حيث وجدت دراسات كثيرة أن الرجال يرغبون بممارسة الجنس أكثر من النساء، فيما تقدر النساء الجنس في اطار الالتزام أكثر من الرجال (مع وجود اختلافات فردية). ويذهب في فرضيته إلى أبعد من ذلك. فكما ورد في الأمثال: إن الرجل لن يشتري بقرة إذا كان ينال الحليب مجاناً.

ذكر (رغنيروس) أن المرأة أحيانًا تُمارس الجنس بشكل عابر مع رجال لا يعجبونها بشكل كبير، وتشعر بالإحباط بسبب عدم عثورها على رجال يعجبونها. فهي تريد أن تجد رجلاً، بدون الالتزام بعلاقة قوية تجعل الرجل أفضل. وهذا لن ينجح.

ويتابع قائلاً: في مجال العلاقات والجنس، يتصرّف الرجل بالنبل الذي تطلبه المرأة. بينما لا تريد المرأة تحمل مسؤولية “تربية” الرجل. لكن هذا واقع.

حتى في إطار النظرية القائلة بأن بوسع النساء التحكم بسير العلاقة عن طريق الجنس، يبدو أن الرجال لا يتحملون أي مسؤولية عن معايير التعامل بين الشركاء العاطفيين.

ويقول (رغنيروس) أيضا إن توافر الجنس بسهولة، يقلل الحافز عند الرجل في حياته المهنية، لأنه لا يحتاج إلى النجاح، أي القدرة على الزواج واستمالة قلوب النساء إليه. وقد يبدو ذلك إشكاليًّا، لكن هناك سَابقة موثوقة لهذه النظرية. حيث يقتبس (رغنيروس) من عالميّ النفس الشهيرين (روي باوميستر) و(كاثلين فو) كلامهما: إن إشباع الشاب لرغباته الجنسية بسهولة دون التزام، يحرم المجتمع من عنصر التحفيز على الإسهام فيه. ومع ذلك، يبدو من المبالغ فيه افتراض أن إنتاجية الرجل متوقفة على ضبط نزواته الجنسية.

بشكل عام، تُقلّل الاقتصاديات الجنسية من الأمور التي يمنحها الرجل والمرأة لبعضهما البعض إلى جانب الجنس والموارد والالتزام. فهل من السذاجة تضمين الاهتمام والرفقة في هذه المعادلة؟! فإذا كان سوق التزاوج الحديث قد جعل الأشخاص أكثر عزلةً، وإذا كانت الهواتف الذكية والتقنيات الحديثة تتدخل في العلاقات البشرية وتُحيرنا، أليس من المفترض أن ترتفع قيمة الرفقة والعلاقة المباشرة؟

وتبرز الحصافة في تحليل (رغنيروس) أيضًا. فهو محق في صعوبة التخلي عن الديناميكيات الجنسانية القديمة أثناء المواعدة، وبالأخص المواعدة على الإنترنت. حيث تجعل تطبيقات المواعدة الشائعة المرأة بمثابة المتحكم سواء كان ذلك عن قصد أو دون قصد. ومن المعروف عالمياً أن أي رجل عازب لديه رغبة في مواعدة أي امرأة. وهذا يجبر المرأة على انتقاء من ترغبه بعناية. ففي تطبيقيّ “هينغ” و”اوكيكيوبيد” لا يتطلب الأمر موافقة متبادلة من الطرفين، ومن ثم يمتلئ صندوق رسائل المرأة على آخره برسائل من رجال بحاجة إلى فرز. وفي تطبيق “بمبل” تطورٌ لمسألة تحكم المرأة في المواعدة، حيث يتعين على المرأة مراسلة الرجل أولاً، مما يضعها في موضع المتحكم بمن ينال اهتمامها.

ويعتقد (رغنيروس) أن سوق التزاوج “الجنس الرخيص” يُعطي للرجال اليد العليا في العلاقات. حيث لاحظ أيضاً أنه بعد إمضاء مدة طويلة في هذا السوق، يميل الرجال والنساء للشعور بالتعب والإحباط. وهذا شيء لاحظته بدوري، فالاستعمال المطوّل لتطبيقات المواعدة يقود غالباً إلى الإنهاك والتردد. ويرى رغنيروس أن المواعدة على الإنترنت تُجبر المشتركين على التصرف وفقاً لقواعدها. فالقدرة على التنقل بسهولة بين الخيارات المطروحة، لا يُسهّل بالضرورة إيجاد علاقة مناسبة.

إنّ ما يبتغيه الأمريكيون من علاقاتهم يختلف اختلافاً جذرياً عمّا كانوا يريدونه من قبل مما جعل الأمر أكثر تعقيدًا.
***
يتتبع (فينكل)، أستاذ علم النفس في جامعة (نورثويسترن) في كتابه [الزواج كل شيء أو لا شيء]، تاريخ الزواج عبر ما يسميه ثلاثة عصور موضوعية. ولمدةٍ طويلةٍ، أقدم الناس على الزواج لأسباب نفعية، منها المأكل والملبس والأغراض الأخرى التي تستخدمها الأسرة، وهكذا فإن العزوبية الأبدية ستكون مسؤولية خطيرة. كان الناس بحاجة لشريك قادر على العمل – وعدة أطفال غالباً – للبقاء على قيد الحياة.

تحسنت الأمور بمرور الوقت من مأكل وملبس وغيرها، وصار الناس يتزوجون بدافع الحب. ويَرجع (فينكل) تاريخ هذا التحول إلى قرابة عام 1850، لكنه يشير في نفس الوقت إلى أن هذا التحول استغرق قروناً. من ناحية أخرى فإن الانتقال من حقبة الزواج المبني على الحب إلى ما يسميه (فينكل) زواج “التعبير الذاتيَ” في عصرنا الحالي استغرق 15 عاماً فقط، وذلك بفضل ثقافة التغيير في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. خلال تلك السنوات، وقفت حركة الموجة النسوية الثانية ضد زواج العائل / رب البيت وساعدت النساء في الحصول على المزيد من الحريات الفردية. في نفس الوقت وَجَدَت مفاهيم جديدة طريقها إلى المجتمع مثل الثقة بالنفس واكتشاف الذات.
يؤكد (فينكل) فكرة أن الأمريكيين يتزوجون حاليًا بدافع الحب، بل ويريدون شخصاً يمنح لحياتهم هدفًا ومعنًا، ويساعدهم في تحسين ذواتهم. إذ يقول في هذا الشأن: للزواج تركيز على التعبير الذاتي، الأمر الذي يعطي علاوة للأزواج الذين يساعدون بعضهم في الوصول إلى حقيقتهم وتلبية احتياجات نموهم الشخصيّ. فالسعي للتعبير عن الذات عبر الزواج يجعل تحقيق النجاح الزوجيّ أصعب وقيمة النجاح فيه أكبر في ذات الوقت.
وباختصار، فإن التغييرات في كتابيّ (فينكل) و(رغنيروس) توضح كيف تشكلت العلاقات الحديثة بين الأمريكيين بفضل قيَمة لامعة هي: الفردانيّة.

أورد (رغنيروس) في كتابه: إن زواج الأمريكيين في وقتنا الحاضر قلما يؤكد أن الزواج هو مجرد شكل وظيفيّ، يحقق من خلاله الشريكان أمورًا لن يتسنى لهم تحقيقها بمفردهم، وهذا يدحض ما يقوله (فينكل): “في وقتنا الحالي بإمكان الفرد تحقيق الكثير بمفرده. لهذا السبب تحولّ الزواج في أميركا من كونه عرفًا شعبيًا، أو ظاهرة يشارك فيها معظم البالغون للحصول على فائدة، إلى كونه اتفاقاً نخبوياً، وفردياً، وطوعياً، يقوده الاستهلاك.”
وحتى خارج نطاق الزواج، يُقدّر الغربيون “العلاقة العذرية” كما يسميها عالم الاجتماع البريطاني (أنطوني غيدينز)؛ والعلاقة العذرية هي التي يشترك فيها الأشخاص بسبب رغبتهم بالاشتراك، لأنها ترضي كلا الطرفين. وهي تختلف عن الحب العاطفي، ففي الحب العاطفي تفترض أنك وجدت الشخص المناسب وستبقى معه إلى الأبد، مع كل الظروف. بينما في العلاقة العذرية إذا لم يعد أحد الطرفين يشعر بالرضى فسيترك الآخر.”
ويضيف (رغنيروس): في حين أن الزوجين هما أساس الاتحاد، فهذا الأمر لا ينتزع سيادة الفرد وإرادته.
يذكر عالما النفس (باوميستر) و(مايكل ماكينزي)، أنّ الذات هي “أساس قيّمي”، وهذا أمر بديهي لا يمكن التشكيك فيه. فمن غير المرجح أن يقوم المواطن الغربي المُعاصر بالتشكيك بأهمية “الصدق مع النفس”، تماماً كعدم تشكيك المسيحي المتدين في أهمية إرادة الرب.

لكن الأمريكيون فريدون من نوعهم، حسب كلام فينكل، فهم لا يؤمنون بالصدق مع النفس فحسب، وإنما يقدّرون الالتزام تقديرًا شديدًا. وهكذا تمتلك الولايات المتحدة نِسباً لكل من الزواج والطلاق أعلى من بدان أخرى كثيرة. ويطلق عالم الاجتماع (أندرو شيرلين) على ذلك اسم دوامة الزواج.

الأمريكيون المعاصرون أكثر حرية من أي وقت مضى في إمضاء وقتهم بحثًا عن الشخص المناسب، الذي يحسّن حياتهم. وهم أكثر حرية من أي وقت مضى في ترك الشخص غير المناسب. كما أن الأمر لا يقتصر على “الطلاق” فحسب، بل خلقت المعايير الثقافية بيئة يسهل فيها سحب هاتفك والبحث عن خيارات بديلة إذا لم ينجح الخيار المتاح على الفور. حيث أصبحت التوقعات العالية مثيرة للإحباط، ثم بعد عدد معين من خيبات الأمل، قد يفقد الأشخاص ثقتهم بقدرتهم على إيجاد الرضا الذي ينشدونه خارج ذواتهم. ويتجولون في سوق التزاوج يلتقطون بفتور سلعًا معطوبةً، ثم يعيدونها إلى السلة عندما يكتشفون أنها ليست لامعة بما يكفي.

يروي (رغنيروس) منشوراً قد رآه على الإنترنت عن رجل اكتشف أن خليلته التقطت صور عارية في أوضاع خاصة وكانت تجمعها علاقة بعيدة، وكان يطلب النصيحة عن كيفية مفاتحتها بالموضوع. وكان أحد الردود التي تلقاها “هي لا تنتمي لك”. وهذا أمر حقيقي، فهي مستقلة وقادرة على اتخاذ قراراتها الخاصة. ومع ذلك، فقد دفعت العبارة (رغنيروس) إلى التفكير في الانتمائية في حقبة العلاقة العذرية. هل ينتمي الأشخاص لأشخاصٍ غيرهم؟

ولما صار بحث الناس عن العاطفة منفصلاً أكثر فأكثر عن مجتمعاتهم، فإن الكثير من العلاقات تبدأ بفردين، لا يعلمان شيئاً عن بعضهما، ويحاولان معرفة ما إذا كانا يصلحان لبعضهما البعض. في أفضل الظروف، فكل منهما يرفع الآخر، ويعيشان حياة مُجدية، وسعيدة للأبد حسب رأي فينكل. أما في ظروف أقل مثالية، فالفردانية تفضي إلى الوحدة.

ويختتم كاتب المقال بقول (رغنيروس): لقد تلاشت العلاقة المتبادلة، تاركةً الاستقلالية. صار المواطن أكثر حرية غير أنه أكثر ضعفاً ولا يعترف أحد بذلك.”
ولعل (سي أس لويس) يتفق مع ذلك

المقال بالإنجليزية: هنا

عن

شاهد أيضاً

القضاء على الفقر المدقع في شرق اسيا ومنطقة المحيط الهادي 

ترجمة: سهاد حسن عبد الجليل تدقيق: ريام عيسى  تصميم الصورة: أسماء عبد محمد   في …

عملية هدم الحضارة

ادريان ولدرج يرثي انهيار منظومة العادات والاعراف    بقلم : ادريان ولدرج ترجمة: سهاد حسن …