ترجمة: رؤى الحمداني
تدقيق: نعمان البياتي
تصميم: مكي السرحان
قام باحثون في معهد الأحياء الدقيقة في مينز في ألمانيا (Institute of Molecular Biology IMB) بقفزة نوعية في فهم أصول عملية التقدم في السن -الشيخوخة- حيث قاموا بتحديد الجينات التي تنتمي لعملية الالتهام الذاتي، إحدى أكثر العمليات أهمية للخلايا لكي تبقى على قيد الحياة، وهي عملية تعزز الصحة، واللياقة في الديدان الشابة، ولكنها مسؤولة أيضاً عن الشيخوخة لاحقاً؛ يوضح لنا البحث الذي نُشر في مجلة (Genes & Development)، بعض الأدلة الأولى الواضحة لأن تكون عملية الشيخوخة شذوذاً وخروجاً عن نظرية التطور، بالإضافة إلى إن آثار نتائج الدراسة، قد تمتد إلى علاج الأمراض التي يحدث فيها هبوط في الفعاليات العصبية، كالزهايم، ومرض باركنسون، ومرض هنتنغتون، حيث تلعب عملية الالتهام الذاتي دوراً في كل من هذه الامراض، فقد وجد الباحثون إنه عند تعزيز طول العمر وزيادته لدى الديدان، من خلال عدم السماح للعملية بالحدوث، أدى ذلك إلى تحسّن في الخلايا العصبية، وصحة الجسد بأكمله لاحقاً.
إن الشيخوخة عملية تحدث عند الأفراد في جميع أصناف الكائنات الحية تقريباً على وجه الأرض، ولكن السؤال، هل من الواجب عليها أن تحدث؟ فقد نُشر بحثٌ حديثاً في مجلة (Genes & Development) تحت عنوان “التثبيط العصبي لعملية الالتهام الذاتي لمجموعة من الخلايا سيُطيل العمر في مرحلة ما بعد الإنجاب في الربداء الرشيقة (C. elegans)” (الربداء الرشيقة: إحدى أنواع الديدان الأسطوانية)، فقد عثر مختبر دكتور (هولجر رتشلي) في (IMB)، على أولى الدلائل الجينية التي قد تجيب لنا عن ذلك السؤال.
,كما شرح تشارلز داروين، فإن الانتقاء الطبيعي يؤدي إلى بقاء الافراد الأفضل في بيئتهم، لكي يستمروا بالعيش، ويتكاثروا، ويقوموا بتمرير جيناتهم للأجيال القادمة، فكلما كانت الصفة مثمرة، ومساعِدة في عملية النجاح التناسلي (أي النجاح في تمرير الجينات)، كلما كان اختيار وانتقاء تلك الصفة أكبر، واستناداً للنظرية، فيجب أن يؤدي هذا لظهور أفراد بصفات تمنعهم من التقدم بالعمر، ومن ثَم تنتقل جيناتهم بشكل مستمر للأجيال وهكذا، ولكن الحقائق تظهر لنا عكس ذلك، فمنذ بداية التطور والانتقاء الطبيعي، كان من المفترض عدم حدوث عملية الشيخوخة.
لقد تمت مناقشة هـذا التناقض التطوري ووضع فرضيات له منذ القرن التاسع عشر، وعند حلول عام 1953 قام العالم (جورج سي ويليامز) صاحب نظرية تعدد النمط الظاهري المتضاد (antagonistic pleiotropy) بإعطائنا تفسيراً منطقياً لظهور الشيخوخة في الأفراد من خلال التطور، فقد اقترح ويليام أن الانتقاء الطبيعي يحفز الجينات، على تعزيز النجاح التناسلي، ولكن نتيجة لذلك فإنه سيؤدي إلى تجاهل الآثار السلبية على طول العمر؛ إن هذا صحيح فقط عندما تحدث هذه الآثار السلبية في بداية عملية الاستنساخ، بمعنى آخر، إن أدت طفرة جينية إلى زيادة عدد الذُرِّية أو الأفراد، لكنهم حظوا بطول حياة أقصر، فهذا أمر مقبول بسبب وجود الوقت للأحفاد حاملي جينات آبائهم للتعويض، وبناءاً على هذا، فإن هذه الطفرات المعزِّزة للياقة البدنية، والشيخوخة في الوقت نفسه، ستقوم باختيار عملية الشيخوخة، وتصبح هذه العملية مصقولة في الحمض النووي الرايبوزي منقوص الاكسجين الخاص بنا، وبينما قد تم إثبات هذه النظرية رياضياً، وتم رصد آثارها في الحياة الواقعية، إلا إن الأدلة الحقيقية التي توضح هذا السلوك لم يتم اكتشافها إلى اليوم.
لقد تم تحديد الأدلة بناءاً على ما صرح به المؤلف المشارك للبحث (جوناثان بايرن)، حيث يقول: “هذه النظرية التطورية المتعلقة بالشيخوخة، تفسر لنا كل شيء بشكل رائع، لكنها تفتقد إلى الأدلة الحقيقة لما يحدث في الواقع، فالتطور قد يصبح أعمى لآثار الطفرات التي تعزز الشيخوخة، طالما كانت هذه الآثار تظهر عندما تبدأ عملية الاستنساخ فقط، ولكن واقعياً؛ إن الشيخوخة تخرج عن نظرية التطور، فلم يتم العثور على جينات الـ AP سابقاً، بسبب الصعوبة الكبيرة التي نقف أمامها، عندما نتعامل مع الحيوانات المسنّة، فقد كنا أول من حدد كيفية العمل بها على مقياس أكبر” ويضيف: “من خلال شاشة صغيرة نسبياً، وجدنا عدداً كبيراً من الجينات التي تعمل بطريقة متضادة” فقد أوضحت الدراسات السابقة، إن الجينات التي تشجع الشيخوخة هي ذاتها المهمة في عملية النمو والتطور، ولكن هذه الجينات التي يبلغ عددها ٣٠ تمثل أولى الجينات التي تم اكتشافها، وهي تحفز حدوث الشيخوخة في الديدان المسنة؛ يضيف جوناثان: “عند الأخذ بعين الاعتبار أننا قمنا باختبار 0.05% فقط من جميع الجينات الموجودة في الدودة، فهذا يفسر لنا إنه قد يوجد جينات أكثر لاكتشافها.
هذه الأدلة المتعلقة بالشيخوخة من قبل التطور لم تكن الشيء المدهش الوحيد في الدراسة، بناءاً على ما صرح به (توماس ويلهام)، المؤلف المشارك الآخر للدراسة، فيقول: “إن أكثر أمرٍ مدهشٍ كان العمليات التي تتدخل بها هذه الجينات” فلم يكتف (ويلهام) بتوفير الأدلة الناقصة للّغز الذي استمر ٦٠ عاماً، فقد قام، وزملاؤه بوصف جزءٍ من هذه الجينات في الربداء الرشيقة، وكيف إنها تقوم بتنسيق عملية التقدم بالسن، يقول د. (هولجر ريتشي) أحد الباحثين في الدراسة: “نتائج هذه الدراسة كانت مذهلةً حقاً، فقد عثرنا على سلسلة من الجينات المرتبطة بتنظيم عملية الالتهام الذاتي، الذي يؤدي بدوره إلى تسريع التقدم بالسن” فكانت هذه النتائج توضح لنا بالفعل، إن عملية الالتهام الذاتي عملية إعادة تدوير حساسة، ومهمة للعيش حياة طبيعية كاملة، وتصبح أبطأ مع تقدم العمر، حيث توضح لنا الدراسة إنها تصبح متدهورة بالكامل عند الديدان المسنة، حيث قاموا بالتوصل إلى إن منع جينات رئيسية من العمل في بداية العملية، سيؤدي إلى عيش الديدان فترة أطول، مقارنة مع ترك تلك الجينات ذاتها تعمل في بداية العمليات، فيفسر (هولجر) ذلك و يقول: “هذا قد يُجبرنا على إعادة النظر في أفكارنا حول احدى العمليات الأساسية الموجودة في الخلية، فعملية الالتهام الذاتي مفيدة دائماً، حتى حينما لا تعمل، أو تعمل بشكل طفيف، فنحن نُظهر بالمقابل العواقب السلبية السيئة، عندما تحدث العملية بشكل طفيف، ويتطلب منك التعايش معه، فهذا يمثل تطبيقاً تقليدياً لنظرية الـ AP، ففي الديدان الشابة، الالتهام الذاتي يحدث بشكل منتظم، ومهم للوصول للنضج، ولكن بعد الانجاب، سيصبح مسؤولاً عن عملية الشيخوخة”
ومن بعد كشف آخر، استطاع (ريتشلي) وفريقه أن يتتبعوا مصدر الإشارات التي تزيد طول العمر لنسيج معين، وهي الخلايا العصبية، فعن طريق تثبيط الالتهام الذاتي في الخلايا العصبية للديدان، لم ينجح العلماء بإطالة عمرها فقط، بل استطاعوا تحسين صحتها بشكل كبير، يقول (توماس ويلهام) “تخيل أن تَصل إلى نصف عمرك، ثم تقوم بأخذ دواء ما، يجعلك بصحة وحيوية شخص في منتصف عمرك، بالإضافة إلى إنك ستعيش لمدة أطول منه، هذا هو الأمر ذاته بالنسبة للديدان، فنحن نقوم بتثبيط الالتهام الذاتي في نسيج واحد مما سيُحسن جسد الحيوان بأجمعه، والخلايا العصبية الموجودة في الديدان المعالَجة تتمتع بصحة أفضل، ونحن نعتقد أن هذا سيُبقي العضلات، وباقي الجسد بشكل جيد، النتيجة النهائية هي زيادة طول الحياة بنسبة ٥٠٪”.
وبينما يجهل العلماء العملية الدقيقة التي تُبقي الأعصاب حيّة لفترة أطول، فإن هذه النتائج قد تكون لها آثار على الحياة الواقعية، يصرح (توماس ويلهام): “هناك العديد من الأمراض العصبية المتعلقة بخلل في عملية الالتهام الذاتي، مثل الزهايمر، وباركنسون، ومرض هنتنغتون، فإنه من الممكن أن تمثل جينات الالتهام الذاتي طريقة جيدة للحفاظ على سلامة الخلايا العصبية في هذه الحالات”، فبينما أي علاج كهذا سيكون بعيد المنال، وعلى افتراض إن هذه النتائج يمكن تطبيقها على البشر، فإن هذا سيتركنا نشعر بأمل محير، وهو أن نقاوم الأمراض، وأن نعيش لفترة أطول، ونكون أصحاء فيها.
رابط المقال بالانكليزية: هنا
شاهد أيضاً
“حمضٌ من بين ملايين الأحماض”: حمض الـ DNA ليس الجزيء الجيني الوحيد
تقديم: مات دافيس بتاريخ: 21. نوفمبر. 2019 لموقع: BIGTHINK.COM ترجمة: هندية عبد الله تصميم الصورة: …
“محرك الوعي” في الدماغ هي منطقة بالغة الصغر
بقلم: ستيفن جونسن بتاريخ: 12/شباط/2020 ترجمة: رهام عيروض بصمه جي تدقيق: ريام عيسى تصميم الصورة: …