ترجمة: امنة الصوفي
تدقيق: مصطفى شهباز
تصميم: مكي السرحان
إذا كانت السلطة وصفة دوائية فهي حتما تأتي مع قائمة طويلة من الاضرار الجانبية المعروفة فهي يمكن أن تفتن الشخص وتفسده بل يمكنها حتى أن تقنع السياسي الامريكي هنري كسنجر بأنه جذاب جنسيا لكن هل يمكن أن تسبب تلف للدماغ؟
في الفترة السابقة جرت جلسة استماع في الكونغرس الأمريكي حيث هاجم المشرعون الرئيس التنفيذي لـ بنك ويلز فارجو، جون ستامف بسبب فشله في إيقاف 5 آلاف موظف من إنشاء حسابات وهمية للعملاء. لكن موقف ستامف هو ما أذهل الجميع!
تسلق الرجل المناصب ليصبح مدير لواحد اكبر البنوك في العالم لكن على الرغم من ذلك بدا أنه لا يستطيع أن يفهم الأجواء داخل غرفة الاستماع. وبالرغم من اعتذاره إلا أنه لم يظهر أي شعور باستحقاق العقاب، الندم، الاعتداد بالنفس أو حتى الكذب، بل ظهر مشوش كما لو كان من كوكب آخر، وكأن ما جرى هو أمر هين. حتى التعليقات المستهجنة من قبل أعضاء اللجنة (انت تمزح معي!) او (لا اصدق ما اسمع) لم تنجح في إيقاظه من غفلته..إذن ما الذي جرى في رأس ستامف؟
الأبحاث العلمية تقترح سؤال أفضل وهو: ما الذي لم يحدث في رأسه؟
وصف المؤرخ هنري آدمز السلطة بأنها “نوع معين من الأورام الذي ينتهي بقتل عاطفة الضحية”. ولكن هذا ليس بعيدا عن ما توصل إليه داشر كيلتنر، أستاذ علم النفس في جامعة كاليفورنيا بيركلي، بعد سنوات من التجارب المختبرية والميدانية. الأفراد ذوي النفوذ، كما وجدهم في الدراسات التي امتدت على مدى عقدين من الزمان، يتصرفون وكأنهم عانوا من أضرار في الدماغ -حيث أصبحوا أكثر اندفاعا وأقل وعيا للمخاطر، وبشكل أساسي أقل قابلية على تقبل الآراء من وجهة نظر الآخرين.
وصف سوكفيندر أوبهي، عالم الأعصاب في جامعة ماكماستر، في أونتاريو، مؤخرا شيئا مماثلا. على عكس كيلتنر، الذي يدرس السلوكيات، درس أوبهي الأدمغة. وعندما وضع رؤوس أفراد من ذوي السلطة ورؤوس أفراد بدون سلطة تحت تأثير آلة التحفيز المغناطيسي (transcranial-magnetic-stimulation machine)، وجد أن السلطة، تكبح عملية عصبية معينة وهي “الشعور بمواقف الآخرين”، والتي قد تكون حجر الأساس في توليد العاطفة. وهذا قد أعطى أساسا علميا لما وصفه كيلتنر “مفارقة السلطة”: طالما امتلكنا السلطة، تجردنا من بعض القدرات التي كنا نحتاجها للوصول إليها في المقام الأول.
وقد تم برهنت هذا النقص في القدرات العقلية بطرق مبتكرة عديدة. حيث أجريت تجارب في عام 2006 طلب خلالها من المشاركين رسم الحرف E على جبينهم لكي يراه الآخرون، وهي مهمة تتطلب رؤية الحرف من وجهة نظر المقابل. أولئك الذين يشعرون بالسلطة كانوا أكثر احتمالا بثلاث مرات لرسم الحرف E بالطريقة الصحيحة من وجهة نظرهم، وبشكل معكوس الى أي شخص آخر أمامهم (وهذا ماحدث مع جورج بوش، الذي حمل العلم الأمريكي مقلوبا في دورة الالعاب الاولمبية 2008). وقد أظهرت تجارب أخرى أن الناس الأقوياء أسوأ في تحديد ما يشعر به شخص ما في الصورة، أو تخمين رأي زملائه في موضوع ما.
في الحقيقة ان رغبة المحيط في تقليد تعابير ولغة جسد رؤسائهم يمكن أن يؤدي إلى تفاقم المشكلة: حيث يقدم المقلدون لهم الأسباب المقنعة للمضي بسلوكهم. ولكن الأهم من ذلك، كما يقول كيلتنر، هي إن ذوي النفوذ سيتوقفون عن محاكاة الآخرين. حيث إن الضحك عندما يضحك الآخرون أو التوتر عندما يتوتر الآخرون يساعد على تحريك نفس المشاعر التي يعاني منها الآخرين ويوفر طريق لفهم مشاعرهم. يقول كيلتنر: “الأفراد ذوي السلطة” يتوقفون عن محاكاة تجارب الآخرين”، الأمر الذي يؤدي إلى ما يسميه “عجز العاطفة”.
الشعور بالآخرين هو نوع من التقليد ويحدث في مخيلتنا فقط، في اللاوعي. عندما نشاهد شخص ما يقوم بفعل، فإن الجزء من الدماغ الذي سنستخدمه لنفعل الشيء ذاته سيتحفز ليعطينا رد عاطفي مشابه لما نشاهده. هذا ما حاول أوبهي وفريقه تنشيطه عندما عرضوا على المشاركين في تجربتهم شريط فيديو يظهر شخص ما يعصر كرة المطاطية.
بالنسبة للمشاركين ذوي النفوذ القليل، فإن الشعور المطابق كان يعمل بشكل جيد: إن المسارات العصبية التي يستخدمونها للضغط على الكرة تحفزت بصورة طبيعية. ولكن بشكل أقل لدى المشاركين من ذوي النفوذ والسلطة.
فهل تعطل الشعور بالآخرين لديهم؟ الأمر كالمخدر. حيث لم يكن لأي من المشاركين سلطة دائمية. كانوا مجرد طلاب جامعات ابدوا”استعدادهم” ليشعروا بالقوة من خلال سرد تجربة كانوا فيها أصحاب اليد العليا. من المفترض أن يزول تأثير المخدر و يزول معه الشعور ولن تحدث أضرار هيكلية في ادمغتهم بعد المدة القصيرة التي قضوها في المختبر. ولكن إذا كان التأثير طويل الأمد، على سبيل المثال، محللي وول ستريت واحساسهم بعظمتهم مع مرور كل ربع سنوي مالي مربح، والحصص المالية الإضافية التي يحصلون عليها وإشادة مجلة فوربس بحسن أدائهم- قد ينتهي بهم المطاف بما يعرف في الطب بتغييرات وظيفية في الدماغ.
لكن ربما توقف أصحاب السلطة ببساطة عن محاولة الشعور بتجارب الآخرين، دون أن يفقدوا القدرة على القيام بذلك. حيث أجرى أوبهي دراسة لاحقة قد تساعد في الإجابة عن هذا السؤال. هذه المرة، أخبر المشاركين عن شعور الآخرين وطلب منهم بذل جهدا واعيا لزيادة أو تقليل رد فعلهم حول ما يشاهدونه. (نتائجنا لم تظهر أي اختلاف عن التجربة السابقة) كما كتبت المساعدة في البحث كاثرين نايش. رغم محاولة أصحاب السلطة فهم الآخرين إلا أنهم فشلوا في ذلك.
إن ما توصلت إليه هذه الأبحاث هو أمر محبط حيث من المفترض ان المعرفة يجب أن تكون مصدر قوة، لكن يبدو أن القوة والسلطة تحجب المعرفة.
الجانب المشرق في هذا الأمر، هو كما يبدو أن هذه التغييرات ليست مضرة دائما. ويقول البحث إن السلطة تقود دماغنا لاكتشاف المعلومات الخارجية فقط. في معظم الحالات، هذا الأمر يوفر كفاءة في إدارة السلطة. لكن في مايخص الحالة الاجتماعية، فلها جانب مظلم في جعلنا بليدي الإحساس. وحتى هذا الأمر ليس بالضرورة شيئا سيئا من وجهة نظر ذوي السلطة، أو المجموعات التي يقودونها. وكما تقول سوزان فيسك، أستاذة علم النفس في جامعة برينستون، فإن القوة تقلل من الحاجة لمعرفة الفروقات البسيطة في وجهات النظر، لأنها تعطينا السيطرة على الموارد التي أوجبت علينا التملق فيما سبق للحصول عليها من الآخرين. ولكن بالطبع، في المؤسسات المعاصرة فإن الحفاظ على هذه السيطرة يعتمد في بعض الأحيان على مستوى معين من الدعم المنظم. وهنالك أمثلة كبيرة على غطرسة المدراء التنفيذيين تتضح من عناوين الصحف والذين تبين أن العديد منهم قد تجاوز الخطوط الحمراء في اتخاذ قرارات غبية وذات نتائج عكسية.
مع عدم قدرتهم على فهم السمات الفردية للأشخاص، يعتمد أصحاب السلطة بشكل أكبر على الصور النمطية الشائعة. وكلما قلت قدرتهم على فهم الآخرين، كما تشير أبحاث أخرى، كلما اعتمدوا على “الرؤية الفردية” في القيادة والتخطيط.
هل هناك ما يجب القيام به؟ الجواب هو أجل وكلا. من الصعب وقف ميل السلطة للتأثير على دماغك. بل الأسهل هو التوقف عن الشعور بالسلطة من وقت لآخر. كما يقول كيلتنر، ان السلطة ليست وظيفة أو حالة اجتماعية بل حالة ذهنية. فالدماغ يمكن أن يتواصل مع الواقع حال استذكارك للأوقات التي لم تشعر فيها بالنفوذ. إذ أن استذكار تجربة العجز قد تفيد البعض، وقد توفر تجارب الحياة القاسية الحماية الكافية. ووجدت دراسة مذهلة نشرت في المجلة الاقتصادية في فبراير الماضي أن المدراء التنفيذيين الذين كانوا يعيشون في ظل كارثة طبيعية مترافقة مع وفيات كثيرة كانوا أقل سعيا للمخاطر من المدراء التنفيذيين الذين لم يعيشوا مثل هذه التجارب. يقول راغافيندرا راو، وهو مؤلف مشارك في الدراسة وأستاذ جامعي في جامعة كامبريدج، إن المشكلة الوحيدة هي أن المدراء التنفيذيين الذين عاصروا الكوارث دون وقوع وفيات كبيرة كانوا أكثر سعيا للمخاطر من غيرهم.)
لكن الأعاصير ,البراكين وتسونامي ليست الكوارث المسيطرة الوحيدة هذه الأيام. تحكي إندرا نويي، الرئيس التنفيذي لشركة بيبسيكو، قصة ما حدث يوم توليها مجلس إدارة الشركة في عام 2001 عندما عادت الى المنزل وهي تشعر بالعظمة والأهمية وعندما ”طلبت مني والدتي _قبل تلقي خبر تعييني في المنصب_ جلب القليل من الحليب وبعد عودتي وانا غاضبة واخبرت أمي بالخبر وقمت بلومها لانها طلبت من مديرة شركة ببسي ان تجلب لها الحليب لم تتأثر الأم كثيرا وقالت لها عندما تدخلين الى هذا البيت اتركي سلطتك خارجه!..مغزى القصة في الحقيقة، كما تقول نويي.كان بمثابة تذكير بضرورة التواضع. والدة نويي، في القصة، بمثابة “مركز التوازن”، وهو مصطلح استخدمه المستشار السياسي لويس هاو مرة لوصف علاقته بالرئيس فرانكلين روزفلت، الذي لم يتوقف هاو عن مناداته بمجرد فرانكلين!.
بالنسبة إلى ونستون تشرشل، كان الشخص الذي ادى هذا الدور هي زوجته، كليمنتين، التي كانت لديها الجرأة في الكتابة، “عزيزي ونستون. يجب أن أعترف بأنني لاحظت التدهور في اخلاقك العامة لم تعد حنون كما كنت دائما. كتبتها في ذلك اليوم الذي احتل فيه هتلر باريس والموقف الصعب الذي يعيشه تشرشل!. هذه الرسالة لم تكن شكوى بل تنبيه: أحدهم قد أكد لها، كتبت، أن تشرشل كان يتصرف “بإزدراء” تجاه موظفيه في الاجتماعات (حيث لم تنل أي فكرة جيدة أو سيئة استحسانه).
يستذكر أوين – طبيب الأعصاب والبرلمان وزير الخارجية البريطاني- يستذكر قصة هاو وكليمنتين تشرشل في كتاب له صدر في سنة 2008 بعنوان ”مرضى في السلطة“، نظرة شاملة في مختلف الاضطرابات التي أثرت على أداء رئيس الوزراء البريطاني و الرؤساء الأمريكيين منذ عام 1900. في حين عانى البعض من السكتات الدماغية مثل (وودرو ويلسون)، وإدمان المخدرات ك(أنتوني إيدن)، أو ربما اضطراب ثنائي القطب (ليندون جونسون، تيودور روزفلت)، وأربعة قادة آخرين اكتسبوا اضطرابات لم يتعرف عليها التاريخ الطبي، لكنها لم تفلت من ملاحظات اللورد ديفيد أوين.
وقد سمى أوين مع جوناثان ديفيدسون،وهو مؤلف مساعد، في مقال نشرت في مجلة اوكسفورد للعلوم العصبية«برين» في عام 2009: بـ«متلازمة الغطرسة»، وهو اضطراب حيازة السلطة، ولا سيما السلطة التي ارتبطت بالنجاح الساحق، والذي امتدت لفترة طويلة من الزمن مع النفوذ المطلق للقائد”. وتشمل العلامات السريرية الأربعة: ازدراء واضح للآخرين، وفقدان الاتصال مع الواقع، أفعال متهورة، و عدم الكفاءة. وفي مايو / أيار، شاركت الجمعية الملكية للطب في استضافة مؤتمر لمنظمة ديدالوس تروست – وهي منظمة أسسها أوين لدراسة وتلافي الغطرسة.
سألت أوين، الذي تعرض بنفسه إلى شئ بسيط من اضطراب الغطرسة، ما إذا كان هناك أي شئ قد يساعد في إبقاء القائد متمسكا بالواقع. فطرح بعض الاستراتيجيات منها : التفكير مليا في قراراته السابقة المتغطرسة ونتائجها، مشاهدة الأفلام الوثائقية عن الناس العاديين والاطلاع على آراء الناخبين بصورة دورية.
لكن يبدو أن قطاع الأعمال والإدارة حانق على أبحاث أوين، حيث اشتكي من رفض قادة الأعمال المشاركة في تجاربه حتى كليات الادارة لم تظهر رغبتها بالمشاركة. وظهرت علامات الخيبة في نبرته. وكما يبدو فان جنون السلطة شاع وجوده في مجالس الإدارة والمدراء التنفيذيين ولا يوجد علاج له في الوقت الحاضر.
رابط المقال بالانكليزية: هنا
شاهد أيضاً
كيف ربحت أنجيلا ميركل مقامرتها في استقبال اللاجئين
بقلم: فيلب اولترمان لموقع: ذا كارديان بتاريخ:30/آب/2020 ترجمة :رهام بصمه جي تدقيق: ريام عيسى تصميم …
الجواز الأمريكي لا فائدة منه
يمكنني التنقل حيث شئت بجواز سفري الألماني. ولكن عدد الدول التي تسمح للأمريكيين بالدخول تكاد …