بقلم: ديريك ديريس “DEREK BERES”
منشور بتاريخ: 23 أغسطس 2017
ترجمة: زينب حسين
تدقيق: محمد علي العوادي
تصميم: ابراهيم الساكني
لم يحتَسِبْ روبرت رايت نفسَهُ داعياً للتنويرِ. وقَدِ انتهجَ مُمارسةَ التأمُّلِ العقليّ للتقليل من حِدَّةِ نقصِ الانتباهِ ولتنظيم أفكارِهِ كي يَصِلَ إلى قَدرٍ من الاتّزان. لذلِك حينما خيَّرهُ أُستاذُهُ بين التركيزِ على الاستنارةِ أو تأليفِ كِتابٍ يتناوَلُ طريقةَ التأمُّلِ، فُوجئَ بوجود خِيارٍ لتعلُّمِ الاستنارةِ ضِمنَ الجدول.
وقد ألَّفَ الكتابَ ولا يزالُ مؤمِناً بِمفهومِ التَّحَرُّرِ. وقد تكفَّلَ رايت في هذا الجُزءِ ببيانِ صِدقِ شَريعَةِ البوذيّينَ، الذينَ حظَوا باستكشافٍ عميقٍ للتأمُّلِ العقليّ. أدرَكَ الصحفِيُّ المُرَشَّحُ لجائِزَةِ بوليتزر أنَّهُ إذا أرادَ مُمارسَةَ التأملِ بانتظامٍ، فعليهِ أن يغوصَ فيه. إذِ استهلَّ مساعيَهُ الحثيثةَ برياضَةٍ روحيَّةٍ صامِتَةٍ دامت عشرة أيَّامٍ تُعرف باسم (فيباسانا).
عِندما ذُكِرَ مُصطَلَحُ الاستنارَةِ ذاتَ مرَّةٍ، كرَّرَهُ رايت مُحاولاً سبرَ غورِ ما في الكَلِمَةِ من معنى. فللمُصطَلحِ معانٍ مُلتَبِسَةٌ يوضِّحُها السياقُ الذي يُستَعمَلُ فيهِ. كَتَبَ في سِفرِهِ أنَّ المعنى الدقيقَ لـ (نيرفانا) هو أن تُخَلِّصَ نفسَكَ من نَوعَي أوهامٍ عاناهما أكثَرُ الناسِ: أوهامٌ داخِلَ ذِهنِك وأُخرى تحدثُ بالخارجِ.
إن كُلَّ الأوهامِ سبَّبَها (دوكا)، وهي كلمةٌ باليَّةٌ تُرجِمَت إلى “المعاناة” رغم أنّها تعني على نحوٍ أدقٍّ “عدمَ الرِّضا”. في عُرف البوذيّين، يعاني الإنسانُ لأنه لا يعرف نفسه والعالمَ بوضوحٍ. فتراهُ كرّسَ جُلَّ اهتمامهِ لِنزواته الشخصيَّة بدل أن يفكّرَ بموضوعيَّة. وترانا مُسرِعينَ لما نَتوقُ من غيرِ مَعرفَةٍ ولا دراسةٍ. الاستنارَةُ خلاصٌ من نحوِ هذا التفكيرِ. وعلى نحوٍ عمليٍّ، أخبَرَني رايت
أنَّ احتِسابَكَ للاستنارَةِ تقدُّم مُستَمِرٌّ يَهَبُكَ وعيًا أكثرَ فأكثرَ بالأشياءِ التي تؤثِّرُ على سلوكِكَ. وبِفَهمِ الأشياءِ، على المدى الذي تبلُغُهُ، فأنت تُحرِّرُ نفسَكَ من سيطَرَتِها.
وأفضلُ مِثالٍ يُضرَبُ في هذا المجالِ نشرتهُ صحيفةُ نيويورك تايمز اليوميَّةُ؛ نشأ ديريك بلاك في أُحد أبرز الأُسَرِ المتحيِّزَةِ عُنصريَّاً للعِرقِ الأبيضِ في أمريكا. وكان يُؤمِنُ بتفوُّقِ الأصلِ الأبيَضِ. لكنَّهُ تعلَّمَ خِلافَ ذلك عِندما بنى عَلاقاتٍ أثناءَ ارتيادهِ الكُليَّة. وبعد حُضورهِ مأدُبَة العيدِ بعامينِ، أدرَكَ أنَّ أُسرَتَهُ لم تبنِ ثِقةً كافيَةً بعِلم تحسينِ النَّسلِ. والأهمُّ أنَّهُ توصَّلَ إلى الاعتقادِ بحفظِ كرامَةِ مَن هُم مِن مِلَلٍ وأعراقٍ مُختلفةٍ، ووسَّعَ نِطاقَ تفكيرهِ.
كُلُّ البَشَرِ يتعلَّمونَ على نحوٍ مُماثِلٍ، فرؤيَتُنا للحياةِ لا تصوغُها جيناتُنا فحسبُ، بل يشتَرِكُ في هذا البيئَةُ والأسرَةُ والأقرانُ على سواءٍ. وحينما نتقدَّمُ في السّنِّ، تنعَكِسُ رؤيَتُنا في تجاربِنا، ونُعاني عندما تتعارضُ مع رؤى الآخرينَ. أدرَكَ بوذا أنَّ الأفكارَ تقفُ وراء هذه المشكِلَةِ. فـالاستنارةُ سبيلٌ لتصفيَةِ رؤانا وتوسيعِها، وهيَ السبيلُ لخَلقِ رؤىً في حالةِ افتقارنِا إليها.
وإنَّه لطَريقٌ شَقَّ على أكثرِ سَالِكيهِ. وكَما أشادَ رايت،
على أيِّ حالٍ، بإعادةِ بَرمجةِ تجاربك الماضيةِ التي هيَ مِن نِعَمِ التأمُّلِ عليكَ. إذا كنتَ تسعى لِخوضِ أعمَقِ مجالات الفلسفة البوذيَّةِ، فأنت تُحاولُ الخَلاصَ من ماضيكَ تمامًا. لكنّي أظُنُّ أنَّ مُعظمَنَا يُحبِّذُ هَجْرَ ما آلَمَهُ مِن تجاربَ فحسبُ. وهَذا ما فعَلَهُ بلاك، وما مارَسَهُ رايت. ومن الخُطى الجديرَةِ بالذكرِ فهمُ الفَرقِ بينَ الظَّرفِ والمِزاجِ (1). فإذا سَمِعنا، في صباحِ أحَدِ الأيَّامِ، رجُلاً يصرخ في المقهَى، لعلَّ أولَ انطباعٍ يُتبادَرُ أنَّهُ “أحمَقٌ”، أو لعَلَّ أباهُ ماتَ ليلةَ أمس. إنَّ الذي نُعِتَ بالحُمْقِ حقيقةً ضحيَّةٌ لظَرفٍ مُحزنٍ.
ولأنّنَا نَعِي حقيقةَ موقِفِنا، فبطبيعَةِ الحالِ لا نُجِيزُ “الحَمَاقَةَ” لأنفُسِنا، حتى إنِ استَسهَلنا نبْزَ الآخَرينَ بِهَا. وقد نجمَ هذا عنِ اعتقادٍ في مذهَبِ الماهويَّةِ: مَفهومٌ يؤكِّدُ أنَّنا نستَبطِنُ جوهراً ذاتيّاً يُحدِّدُ ماهيَّتنا. أدَّى هذا المفهومُ، الذي استمرَّ لوقتٍ طويلٍ، دوراً في إطارِ إدراكنا لآلافِ السّنينَ على أقلّ تقديرٍ. إلا أنَّه ليسَ صحيحاً، فليسَ لأحَدٍ مِنَّا جوهرٌ أبداً.
نَحنُ قومٌ مُختَلِفونَ نعيشُ ظروفاً مُتبايِنَةً. فالحياةُ ظرفيَّةٌ تماماً. وكما أنَّنا لُطَفَاءُ مع زيدٍ، لكنَّ عَمْرو يُثيرُ حفيظتَنا من دون سَبَبٍ وجيهٍ. ورُدودُ أفعالِنا تتبَايَنُ تبايُنَ الظُّروفِ. ولِهذا عواقِبُ واقِعِيَّةٌ.
أظهر بحثٌ ذو نتائِجَ تكادُ لا تُصَدَّقُ فُرصةَ الإفراجِ عن السُّجناءِ بِنِسبَةِ 90 بالمِئةِ من الّذينَ يُقابِلونَ القاضيَ أوَّلَ الصبَاحِ. وإن كانوا مِمَّن يُقابِلونَهُ آخِرَ الصّباحِ تنخَفِضُ فُرصَةُ إفراجِهِم إلى 10 بالمِئَةِ. وفي أوَّلِ جلَسَاتِ المساءِ ترجِعُ النّسبَةُ إلى 90 بالمِئَةِ، ذلكَ لأنَّ القاضيَ تناوَلَ وجبَتَهُ ولم يَعُد جائِعاً. هكَذا تحكُمُ الظُّرُوفُ.
نَفسُ الأمرِ يتعلَّقُ بالطُّلابِ، سواءٌ كانوا في روضَةِ الأطفالِ أم في الجامِعَةِ. إذ يزدادُ استيعابُهُم إذا ما دُرِّسوا في أوقاتٍ متأخّرَةٍ من النَّهارِ. وما زلنا نعتقِدُ أنَّ وقتَ المثابرةِ يبدأُ في الصَّباحِ الباكِر. هل يرسِبُ الطالِبُ بسَبَبِ غبائِهِ؟ ليس بالضَّرورَةِ. وهَذا ما يُحاولُ العِلمُ تقصِّيَهُ. سَتُباشِرُ المدرَسَةُ مع هذا الشَّهرِ، وثَمَّةَ دروسٌ تبدَأ عند السابِعَةِ والثامنةِ صَبَاحاً، لأنَّ “هذا ما اعتدنا القِيامَ بهِ”.
وهَذا ما يمُسُّ صميمَ الاستِنارَةِ، فـ “ما اعتدنا القيامَ بِهِ” لا يعني بالضَّرورَةِ “أنَّهُ الأفضَلُ لي”. وحينما يلتَبِسُ علينا المعنيانِ لا نشعرُ بالرِّضَا. بدلاً من احتِسابِ مَفهومِ التحرُّرِ حَدَثاً مُزَلزِلاً أو تغييراً جذريَّاً للحياةِ، كما في أكثَرِ تراجِمِ نُصوصِ بوذا التنويريَّةِ، يُمكِنُ عَدُّهُ انتِقالةً لِمفاهِيمَ أرقَى، وطريقةً مُختَلِفةً للعَيشِ. سبيلٌ إذا سَلَكنَاهُ لن نُوليَ اهتِماماً بالِغاً بالأشياءِ التي تمُرُّ بِقُربِنا، بل نكتَفي بِمُراقَبَتِها والتكيُّفِ مع مُجريَاتِ الأحداثِ.
والقَولُ ما قَالَهُ رايت بشأنِ مُمارَسَةِ التأمُّلِ؛ فكُلَّمَا مارَسْتَها لِوقتٍ أطوَلَ، تحَسَّنَت حالَتُكَ. إذ تَنعَكِسُ منَافِعُها على حيَاتِكَ اليوميَّةِ بِقَدرِ مُمارسَتِكَ لها. فعندَ ممارَستي التأمُّلَ بانتظامٍ سيَغدو ضَبطُ نفسِي قَبل فِعلِ ما يُستَحسَنُ تجنُّبُهُ أمراً يسيراً. سواءٌ أ كانَ الفِعلُ إرسالَ رسالةٍ إلكترونيَّةٍ غاضِبةٍ أو جَهراً بالسُّوءِ، سأشعُرُ بنبضاتِ قلبي تتزايَدُ فأتحفَّظُ من الأمرِ. وأعتَقِدُ إذا مارَستَها ستُثَمِّنُ عينُكَ جمالَ الطبيعةِ.
قد لا تَنفَتِحُ أبوابُ السَّماءِ بماءٍ مُنهَمِرٍ، لكن قد تتوسَّعُ رئتَاك لتُملآ بِهواءٍ أكثَفَ بِقليلٍ من ذي قبلٍ. ولَرُبَّما تطُولُ الابتِسامةُ على مُحيَّاكَ. فالاستِنارَةُ عَمَلٌ مُستمِرٌ وانضِباطٌ. وليسَ ثمَّةَ طَورٌ لبلوغِهِ. فهيَ، بالأحرَى، حالٌ يتناغَمُ مع كُلِّ الظُّروفِ. إنَّهُ طريقٌ شاقٌّ بالتأكيدِ، لكنَّهُ يمنحُنا زِمامَ الحُكمِ على كافَّةِ عواطِفِنا طوالَ اليومِ.
إنَّنا لنَمتَلِكُ سُبُلَ الوصولِ إلى الاستنارَةِ. إذ تتطلَّبُ القليلَ منَ الجِدِّ لتَحكِيمِ عُقولِنا التي جُبِلَت على الفَهمِ.
المصـدر:-
- الهامشُ:
(1) مِنظارانِ لرؤيَةِ الأشياءِ؛ فمنظارُ الظَّرفِ يُحلِّلُ أفعالَ الفردِ وفقاً للظَّرفِ الحاكمِ. أما المنظارُ الثاني (المِزاجُ)، فيتبنّى تجاهُلَ الظرفِ والحكمَ على سُلوكِ الناس بما نظُنُّهُ في شخصيّاتِهِم، وكثيراً ما نُسيءُ الظنَّ بهذا المنظارِ.