ترجمة: سامر حميد
تدقيق: بهاء محمد
تصميم: مكي السرحان
[spacer height=”20px”]
قبل الإجابة عن هذا التساؤل الذي أُثير حوله الكثير من اللغط والجدل، دعونا أولاً نتعرف على الآلية التي يحاول العلماء من خلالها العثور على قوانين علمية جديدة؟ إنها ببساطة بمثابة مغامرة شيقة تبدأ بـ «التخمين “Guess”»
[spacer height=”20px”]
يقول ريتشارد فاينمان، (الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء، ١٩٦٥م) : “إذا لم يتوافق تخميننا مع التجربة فهو خاطئ، هذه العبارة تمثل مفتاح العلم ببساطة، فليس هناك أيّ تأثير لمدى جمال التخمين، ولا لِمقدار ذكاء أصحاب هذا التخمين أو لقبهم، فإذا لم يتوافق التخمين مع التجربة فهو خاطئ، وهذا كل ما في الأمر“.
[spacer height=”20px”]
ولكن لا يتوقف العلماء عند هذا الحد، فهم لايفترضون بأن تخمينهم كان صائباً منذ البداية ليمضوا بعدها إلى تخمينهم التالي، بل على النقيض من ذلك، فإنهم يختبرون تخمينهم عن طريق اكتشاف ومعرفة بعض النتائج والآثار المترتبة عليه، ويقارنوها مع الطبيعة. فإذا فشلت هذه المقارنة، فتخمينهم ببساطة كان خاطئاً بغض النظر عن مدى جاذبيتهِ أو جمالهِ أو ذكاء صاحبهِ وقوة اعتقادهِ، في المقابل من ذلك، إذا كان التخمين صائباً وصالحاً للعمل، فإن العلماء سوف يستمرون في البحث عن المزيد من الأدلة ويضعون مزيداً من التخمينات.
[spacer height=”20px”]
أن مجموعة الحقائق المعرفية والاستدلالية، التي تفسر عدداً كبيراً من عمليات الرصد والملاحظة تعرف بــ «النــظرية “Theory”»، وفي العلم لاتعتبر النظرية مجرد تخمين أو حدس، بل إنها نظام متكامل من التخمينات الذي يفسر ويدعم الملاحظة والرصد والنتائج التجريبية. وهذه النظريات العملية يمكن أن تصمد اعتماداً على دقة توقعاتُها، لتتقدم هذه النظريات من التخيمينات أو «فــرضيات “Hypotheses”» إلى «حقــائق “Facts”» مقبولة.
[spacer height=”20px”]
قانون نيوتن للجاذبية
[spacer height=”20px”]
خَمن عالم الرياضيات الانجليزي وفيلسوف الطبيعة اسحاق نيوتن في القرن السابع عشر، أن قوة الجاذبية بين كتلتين تعتمد على المسافة بينهما «قوة الجذب متناسبة عكسياً مع مربع المسافة بينهما» فقد علم مُسبقاً من الحسابات الرياضية التي أجراها عالم الفلك الألماني يوهانس كيبلر، إن مدارات الكواكب ليست دائرية بشكل مثالي، بل بالأحرى مدارات إهليلجية (بيضوية). فقام باستخدام نظريتهِ لحساب هذه المدارات المتوقعة للكواكب، ووجدها متناسبة مع المدارات الإهليلجية. وبهذا أظهرت ملاحظات كيبلر توافقاً جيداً مع نظرية نيوتن، ولكن هل يعني هذا أن نظرية نيوتن على صواب؟
[spacer height=”20px”]
لقد أجرى نيوتن والعديد من العلماء عدداً لا يحصى من الحسابات الأضافية التي تؤكد هذه النظرية التي تتفق مع الملاحظات التجريبية المرصودة بشكل دقيق على مدى أكثر من مئتي عام. ولهذا أعتقد العديد من علماء الفلك بأن نيوتن قد أصاب حقيقة كونية. ولكننا نعرف اليوم بأن نظرية نيوتن صحيحة بشكل مبدئي، أو بمعنى أدق، هي صحيحة ضمن حدود معينة.
[spacer height=”20px”]
إن نظرية نيوتن تعتبر نظرية علمية وذلك لأن جزءاً منها قابل للإختبار، بمعنى أنها ألهمت بعض التنبؤات التي يمكن مقارنتها مع الطبيعة، ولكن إذ ما تعارضت بعض هذه التنبؤات مع الملاحظات المرصودة فسوف يتم رفضها. وعلى شخص آخر أن يضع تخميناً مختلفاً يمكن اختباره.
[spacer height=”20px”]
فيما بعد اتضح أن مدارات الكواكب ليست إهليلجية بشكل دقيق؛ لماذا؟ يعود السبب في ذلك على الأغلب لجاذبية بعض الكواكب العملاقة كالمشتري وزحل التي تشوه مدارات بعض الكواكب الأخرى. لذلك قام علماء الفلك باستخدام نظرية نيوتن للجاذبية لحساب تأثيرات كل الكواكب على مدار كوكب عطارد، وتمكنوا من حسابها بشكل جيد، باستثناء اختلاف بسيط، وهو أن مدار كوكب عطارد ليس إهليلجي بشكل دقيق، حتى عندما يُصحح التجاذب الثقالي للكواكب، فهو يدور حول محوره بما يقرب من ٤٣ ثانية قوسيّة «تعادل حوالي ١٠٠/١» في القرن الزمنيّ الواحد، ويعرف هذا الدوران حول المحور بـ «مبادرة الاعتدالين» والتي لايمكن تفسيرها بالاعتماد على نظرية نيوتن.
[spacer height=”20px”]
وهكذا، فشلت نظرية نيوتن كحقيقة كونية — فهي لاتستطيع أن تحسب كلياً جميع الفروقات بين مدار عطارد والمدار الإهليلجي الثابت. ولكن بسبب قدرتها الناجحة بالتنبؤ بشيء آخر، لم يتم رفضها بصورة قاطعة; بل تم تجاهل هذا التناقض مؤقتاً. لذلك توقع العلماء بإن هناك نظرية آُخرى أكثر دقة سوف تحل مكانها في يوم من الأيام، وهي لاتمثل القول الفصل في هذه القضية.
[spacer height=”20px”]
وأتى ذلك اليوم، عندما اقترح عالم الفيزياء الألماني من أصل يهودي ألبرت أينشتاين في عام ١٩١٥م النسبية العامة شملت نظرية نيوتن ولكن مع حسابات أكثر دقة في مجالات الجاذبية القوية. وقد وصفت الدوران حول المحور الخاص بمدار كوكب عطار بنجاح. وهنا نعيد التساؤل من جديد؟ هل النسبية العامة صحيحة؟
[spacer height=”20px”]
في الواقع، لقد اجتازت كل اختبار قمنا بهِ لحد الآن، ولكننا نعرف بإنها لن تكون نظرية نهائية تصف كل شيء، وذلك لإنها قد لا تنسجم مع نظريات ناجحة آخرى على حد سواء كنظريات ميكانيكا الكم، حيث لا يزال العلماء يبحثون عن النظرية التي تجمع بينهما بنجاح.
[spacer height=”20px”]
النظرية والتجربة
[spacer height=”20px”]
يوجد هناك تفاعل مستمر بين النظرية والتجربة، فلكي تكون النظرية ناجحة، عليها أولاً إن تضع بعض التنبؤات المحددة. والتي يجب مقارنتها مع التجربة أو الملاحظة المرصودة، مع ما تخبرنا به الطبيعة. فقد يضطر بعض المنظرين لوضع نظرية أخرى — بدءاً من تخمين مختلف —، إذا ما لم تتفق ايّ تجربة أو ملاحظة مرصودة مع بعض الفرضيات، والتي سوف يتم اختبارها مراراً وتكراراً من قبل المجربين حتى يتم قبولها أو رفضها.
[spacer height=”20px”]
إن هذا التفاعل المستمر بين الفرضية والتجربة أو الملاحظة المرصودة، يخبرنا بأننا لانستطيع أن نقترح نظرية معينة ونتوقع بإنها صحيحة; فعلينا أن نختبرها، بل علينا أن نختبرها مراراً وتكراراً للتأكد من صحتها. ومع ذلك، فإن من النادر جداً، بالنسبة للنظريات الناجحة في علوم الناضجة كالفيزياء والكيمياء والجيولوجيا، أو حتى علم الأحياء التطوري أن تنهار كلياً. فالنظرية الناجحة لا تُرمى خارجاً تقريباً; بل يتم ادراجها في إطار أحدث وأكثر عمومية. فعلى سبيل المثال، لم يتم تجاهل نظرية ديناميكا الموائع المقترحة من قبل عالم الرياضيات السويسري دانيال برنولي في القرن الثامن عشر، عندما تم اكتشاف أن السوائل تتكون من جزئيات. والواقع أن نظرية الجزئيات تم توسيعها بطريقة شملت نظرية برنولي وشرحتها بالفعل.
[spacer height=”20px”]
اذن فالذي يجعل النظرية العلمية جيدة، هو ١- قدرتها على وضع تنبؤات دقيقة (مثل تنبؤ نيوتن حول شكل الإهليلجي للمدارات الكوكبية). ٢- وأن تكون مثمرة (أن تقترح بعض التجارب أو الملاحظات المرصودة التي تختبر النظرية). ٣- أن تؤدي إلى نظريات جديدة. ٤- أن تكون قابلة للاختبار(فالنظرية غير القابلة للاختبار هي نظرية غير صالحة علمياً). ولتوضيح الأمر بشكل تفصيلي دعونا اولاً ننظر عن كثب، في الكيفية التي يختبر بها العلماء نظرياتهم من خلال دراسة بعض الأمثلة التاريخية بإيجاز: نظرية الانجراف القاري «ناجحة»، نظرية البلمرة «غير ناجحة».
[spacer height=”20px”]
نظرية الانجراف القاري
[spacer height=”20px”]
اقترح عالم الارصاد الجوية الألماني ألفريد فيغنر نظرية «الانجراف القاري” Continental Drift ” » في عام ١٩١٢م، وكان حينها أكثر علماء الجيولوجيا الذي يعتبرون إن سطح الأرض ثابت وغير قابل للتغير. غير أن فيغنر لاحظ أن السواحل في أوربا الغربية وأفريقيا تبــدو كما لو كانت متطابقة لسواحل الأمريكيتين، فافترض — خَمن—، أن القارات كانت قارة واحدة عملاقة قبل أن تنقسم وتنجرف إلى مواقعها الحالية.
[spacer height=”20px”]
لم يصرح فيغنر ابتداءاً بإن نظريتهِ كانت واضحة، بل قام بجمع الأدلة الكافية لدعم فرضيته، وأوضح أن الارتفاعات الصخرية هي من سمات القشرة الأرضية، وأشار إلى أن الخط الطولي لمعظم الجزر القريبة من جرينلاند، قد انجرفت كيلو متراً واحداً غرباً بين عامي ١٩١٢م و١٩٠٧م. وفي نهاية المطاف أشار إلى المشكلة التي لم تحل حينها، ألا وهي الحفريات من الانواع ذات الصلة الوراثية، بين قارة امريكا الجنوبية وافريقيا، والتي كانت كتلة واحدة فيما مضى.
[spacer height=”20px”]
وعلى الرغم من كُثر الأدلة التي دعمت نظرية فيغنر، إلا أنها لم تُقبل حتى عام ١٩٦٠م، مع اكتشاف الأدلة المادية الثابتة من قاع المحيطات، والتي اعتبرت أدلة نهائية أدت لقبول نظريتهِ بسرعة نسبية نوعاً ما. ونستطيع القول هنا بأنه كان ينبغي على الجيولوجيين قبول هذه النظرية بسرعة فترددهم يثبت الادعاء بإن القبول العلمي لأيّ نظرية جديدة هو امر تعسفي ويعتمد على العقيدة العلمية السائدة، ولكن، في موقف الدفاع عن الجيولوجين، فانهم في الواقع يواجهون العديد من النظريات الغريبة التي من الصعب الاعتراف بها كنسخة أصلية، وعلاوةً على ذلك، كانت هناك بعض الاعتراضات الحقيقة التي قدمت ضد نظرية الانجراف القاري، وعلى وجه الخصوص، اعتبار الأرض جسم صلب غير قابل للتغير، ولم يكن لدى أيّ أحد فكرة عن القوة التي يمكن ان تُحَرِكْ القارات. حيث أشارت الحسابات إلى أن الانجراف لم يكن ممكنا. ولكن عندما تم اكتشاف الأدلة من قاع المحيطات اعتُمِدَت هذه النظرية.
[spacer height=”20px”]
[spacer height=”20px”]
نظرية «الانجراف القاري“Continental Drift” »
[spacer height=”20px”]
الماء المُبلمر
[spacer height=”20px”]
من ناحية أخرى، اقترحت فرضية «الماء المبلمر“Polywater” »، تكون نوع جديد من الماء له خصائص مختلفة تماماً عن الماء السائل الطبيعي: درجة غليان مختلفة، درجة انجماد مختلفة، لزوجة مختلفة «تدفق مختلف». وتم الإعلان عنها لأول مرة في الاتحاد السوفيتي، وقدمت إلى الغرب في منتصف عام ١٩٦٩م، على يد بوريس ديرجاوين من معهد الكيمياء الفيزيائية في موسكو. والحائز على جائزة تعادل قلادة العلوم الوطنية في الولايات المتحدة وتناولها الإعلام بشكل واسع.
[spacer height=”20px”]
[spacer height=”20px”]
ان المواد الصلبة أو السائلة تتماسك فيما بينها بسبب وجود قوة كهربائية بين جزئياتها، ولكن جزئيات المواد السائلة هي حرة الحركة نسبيا أقل تماسكا من جزيئات المواد الصلبة، هذه الخصائص هي ما تعطي للسائل خاصية السيولة. ولكن على مايبدو، بأن فرضية الماء المبلمر تفترض سلوكاً أخر بشكل مختلف. حيث أفترض العلماء في المكتب الوطني الأمريكي للمعايير « المعروف حالياً بالمعهد الوطني للمعايير والتقنية“NIST” »، على أنه شكل من أشكال المياه التي ترتبط فيه الجزئيات على شكل سلاسل طويلة، أو بوليمرات “Polymers“، تشبه الجزئيات الموجودة في البلاستيك. وقاموا بتصميم نظريات رياضية لحساب خصائص هذه البلمرة في هذا الشكل من الماء.
[spacer height=”20px”]
فتم تحضير الماء المُبلمر في هلام السيليكا أو بداخل الأنابيب الشعرية; ولكن فشلت جميع المحاولات في إنتاجه بمكيات كبيرة وبصورة نقية، حيث وجد الخبراء ظهور بعض الشوائب، بما في ذلك السيليكا في عينات الماء المبلمر، والسيليكا كما هو معروف «أحد أشكال ثاني أكسيد السيليكون» القليلة الذوبان في الماء و إحدى المكونات الرئيسة للزجاج. فاقترح ديرجاوين بأن ظروف التجربة كانت ملوثة وانتقد العلماء بعدم الحفاظ عليها بشكل جيد، ولكن في نهاية المطاف، بدأت الأدلة تُظهر بأن هناك خصائص غير عادية كانت وراء ذوبان السيليكا في الماء، وفي غضون فترة قصيرة، تراجع ديرجاوين عن موقفه، واعترف بأن الماء المبلمر ملوث بالسيليكا المذابة، ولا يعبر شكلاً جديداً من الماء.
[spacer height=”20px”]
الفرضية المساعدة
[spacer height=”20px”]
تبدو النظرية العلمية أحياناً بأنها تسير على نحوٍ خاطئ، فكل شيء يعمل إلى حد معيَّن، ثم تأتي التجربة لتظهر بعض التناقض مع المعرفة المسلم بصحتها، فيضع العلماء أمام خيارين في مثل هذه الحالات: إما التخلي عن النظرية القديمة والعثور على جديدة، أو إيجاد وسيلة لتعديل وتوسيع النظرية القديمة.
[spacer height=”20px”]
فعلماء الفيزياء مثلاً يعتقدون بقوة في قانون حفظ الطاقة، حيث ادركوا على مر السنين بأن هناك اشكالاً متعددة من الطاقة لايمكن أن تُفنى أو تُستحدث; بل يتم حفظها وتحويلها من شكل الى آخر. فقانون حفظ الطاقة يُعتَبر قانونًا صحيحاً على مستوى الحقيقة الكونية، وفعلاً لم يتم العثور على انتهاك لهذا القانون. ولكن عندما قام عالم الفيزياء النمساوي ولفجانج باولي بفحص بعض التفاعلات النووية، وجد إن هناك بعض أشكال الطاقة تبدو بأنها غير محفوظة، فمانع باولي عن التخلي بفكرة قانون حفظ الطاقة، وطور فرضية مساعدة (“Auxiliary Hypothesis“: وهي فرضية تدافع عن النظرية بواسطة توقعات قابلة للاختبار) لتساعده في التخمين عن تلك الطاقة المفقودة، وبالفعل فقد فسر ذلك بأنها كانت محمولة على جسيمات أولية جديدة، نطلق عليها اليوم تسمية «النيوترينو Neutrino».
[spacer height=”20px”]
[spacer height=”20px”]
لم يتوقف باولي عن هذا الحد فقط، بل طور نموذجاً رياضياً للتنبؤ ببعض خصائص هذه الجسيمات الأولية، بحيث يمكنه التحقق من وجودها، وبالفعل تم العثور عليها بعد عشرين عاماً وهي الآن نظرية راسخة حتى مع صعوبة الكشف عنها.
[spacer height=”20px”]
فلو لم تظهر النيوترينوات عند الكشف عنها أو اتضح بانها كانت تمتلك خصائص خاطئة — خصائص تختلف عن التنبؤات التي وضعها باولي—، فهذا يعني بإن نظرية باولي قد فشلت، وكان لزاماً عليه أن يضع فرضية مساعدة أخرى أو البحث عن نظرية مختلفة تماماً. ولمجرد التذكير بأن الفرضية المساعدة ليست بكافية: كان على باولي استنتاج آثار هذه الفرضية، وكان على شخص ما أن يختبرها. بينما نجد أن ديرياجين ادعى أن من قام بتجربة الماء المبلمر لم يبقوا أجهزتهم نظيفة بما فيه الكفاية وضع فرضية مساعدة لكنها كانت خاطئة عند تجربتها، وبالتالي تم تجاهلها.
[spacer height=”20px”]
هل التطور قابل للاختبار؟
[spacer height=”20px”]
في الواقع، نظرية التطور نظرية قابلة للاختبار، حيث تم اختبارها مراراً وتكراراً، وفي كل مرة تظهر نجاحاً مُذهلاً. ولكن هذه لايعني بإنها ليست خالية من بعض المشاكل أو حتى التناقضات التي لم يتم حلها بعد. فكما رأينا سابقاً بأن حتى النظريات الناجحة يمكن أن يظهر لها بعض التناقضات، ولكنها ليست كافية بالضرورة أن تقود لهزيمة النظرية.
[spacer height=”20px”]
عندما يسأل الناس عمّا إذا كان التطور أو أي علم آخر قابل للإختبار، فإنهم يسألون عمّا إذا كانت هناك أيّ تجربة أو ملاحظة مرصودة تنتقد بشدة وتُحسب بالضّد بنحو قاطع على علم التطور، بمعنى آخر هم يسألون عمّا اذا كان يمكن تفنيد التطور. هذا ليس تساؤلاً مناسباً، التساؤل الذي يمكن طرحه هو «هل لنظرية التطور تنبؤات قابلة للاختبار أو قابلة للتفنيد». فالتنبؤات هي التي يمكن اختبارها، وليس النظريات.
[spacer height=”20px”]
ذكر أينشتاين مع قليلاً من المبالغة بأنه «لا يمكن لأيّ عدد من التجارب أن يثبت أنني على صواب; ولكن تجربة واحدة تستطيع أن تثبت أنني على خطأ». ولاشك بأن فيلسوف العلوم الشهير السير كارل بوبر كان مخطئاً عندما قال إن العلماء يحاولون بجهد أن يفندوا أو يدحضوا نظرياتهم الخاصة، بل على العكس تماماً وما هو ملاحظ اليوم أن العلماء يحاولون بأقصى جهودهم الممكنة تأكيد نظرياتهم. لذلك فمن الصواب القول بأن النظرية العلمية يجب أن تكون قابلة للتفنيد من حيث المبدأ (يجب أن تمتلك بعض التجارب أو الملاحظات المرصودة التي من الممكن أن تحسب ضّدها أو تؤثر عليها بجدية). وحتى ذلك الحين، وكما رأينا سابقاً، بأن العلماء يمكنهم استحداث فرضية مساعدة لشرح نتيجة غير متوقعة. ومع ذلك، يجب أن تكون هذه الفرضية قابلة للتفنيد أيضاً، وإلا ستكون غير علمية. أن الكثير الناس لا يفهمون قابلية التفنيد، فهم يعتقدون بأنه يجب علينا أن نحدد تجربة أو ملاحظة مرصودة معينة، يمكن من خلالها تفنيد النظرية. و على أية حال، تنجو النظرية الناجحة من هجمات مبدأ قابلية التفنيد لأنها تخضع لاختبارات صارمة تجعل منها قابلة للتفنيد من حيث المبدأ.
[spacer height=”20px”]
إذا كيف يمكننا أن نختبر التطور؟ سُئل عالم الأحياء الشهير والمؤثر جون هولدين عمّا يمكن أن يشكل دليلاً ضد التطور، فكان جوابه الشهير «لو وجدنا أحفورة أرنب مثلاً في العصر الكمبري»، وبعبارة أخرى، وجود أيّ أحفورة في غير محلها داخل الطبقة الجيولوجية الخاطئة يمكن أن يُعتبر دليلاً ضد التطور، ما لم يُفسر وجودها.
[spacer height=”20px”]
وبالفعل فالتطور، يجب إن يكون تدريجي الهيئة نسبياً، لذلك إذا قامت أنثى خُلد الماء بولادة ارنباً مثلاً، في العصر الكامبري أو غيره فإن التطور يمكن ان يُفند، وبشكل مماثل إذا اكتشافنا تشكّل أيّ كائن على وجه الارض بشكل تلقائي (التوالد الذاتي Spontaneous Generation: نظرية كانت تزعم أن أنماطًا معينة للحياة، مثل الذباب والديدان والفئران من السهولة بمكان أن تنشأ مباشرةً من أشياء غير حية) فإن التطور سيكون في محل الشك، لأننا سوف نُدرك حينها بأن أشكال الحياة الحالية لم تنحدر من أشكال سلفية مبكرة.
[spacer height=”20px”]
أن النموذج الذي يوضح الارتباط الوراثي بين الأنواع، ويوضح كذلك الكيفية التي انحدرت منها الأنواع المختلفة من سلف مشترك يعرف بـ «شجرة العِرق الوراثي Phylogenetic tree» أو شجرة الحياة. فقد طور علماء الطبيعة كعلماء النباتات والحيوانات شجرة عِرقية وراثية تستند على الخصائص المشتركة، وعلى التوزيع الجغرافي بين الأنواع. أما علماء الأحافير فقد طوروا شجرة عِرقية وراثية تعتمد على السجل الأحفوري. وبالنسبة لعلماء الوراثة الجزيئية فقد قاموا تطويرها اعتماداً على أُسس علم الوراثة.
[spacer height=”20px”]
أن هذه النماذج الثلاثة المستقلة تبدو وكأنها غير متوافقة فيما بينها، ولكنها في واقع الأمر تظهر توافقاً كبيراً، وإذا أظهرت إختلافاً فيما بينها بشكل كبير وبطرق غير مبررة، فإن نظرية التطور ستكون في مأزق كبير، إذا لم تفند هذه الاختلافات.
[spacer height=”20px”]
أن هذه الأشجار الوراثية الثلاثة متوافقة بما فيه الكفاية، لدعم وتصحيح بعضها البعض. وعلاوةً على ذلك، كلما اقتربت العلاقة المعتمدة على الخصائص المشتركة بين نوعين معينين فإن المحتوى الوراثي لهما يكون أكثر تشابهاً; وإن كان هذا المحتوى متغير عشوائياً فإن التطور في مأزق مرة اخرى. في المقابل من ذلك، كانت تنبؤات علماء علم الأحياء التطوري تُؤكد مراراً وتكراراً.
[spacer height=”20px”]
[spacer height=”20px”]
بالإضافة إلى ذلك، فإن التطور يتطلب تاريخاً طويلاً للأرض، ففي زمن داروين لم يكن قِدَم تاريخ عمر الأرض مثبتاً بعد كحقيقة راسخة، فلو كان عمر الأرض فتياً لدُحضت نظرية داروين بشكل قاطع. وفي الواقع فقد تنبأت نظرية التطور بقِدَم تاريخ عُمر الأرض وفي نهاية المطاف طور الجيولوجيين والجيوفيزيائيين الأستكشافيين أدلة قاطعة على قِدَم عمر الأرض والتي يمكن اعتبارها دليلاً لصالح التطور.
[spacer height=”20px”]
الخلاصة
[spacer height=”20px”]
أن العلم ينطوي على التفاعل المستمر بين الفرضية والتجربة أو مع الملاحظة المرصودة. وعندما نقوم باقتراح فرضية ما، يجب علينا أولاً استنتاج آثارها، ثم البحث عن أدلة لصالحها. فإذا كانت الفرضية سليمة وأدلتها ثابتة، فمن المحتمل أن تُقبل هذه الفرضية. كما هو الحال في مسألة الانجراف القاري. أما إذا كانت الفرضية خاطئة والأدلة عليها غير ثابتة فسوف يتم رفضها كما هو الحال في مسألة الماء المُبلمر.
[spacer height=”20px”]
المصدر: Why Evolution Works (and Creationism Fails)c2010