الرئيسية / ثقافة / كيف بدأت الحياة على كوكب الارض: الفصل الرابع: الطاقة من البروتونات

كيف بدأت الحياة على كوكب الارض: الفصل الرابع: الطاقة من البروتونات

لقد رأينا في الفصل الثاني كيف إنقسم العلماء إلى ثلاث مدارس فكرية حول كيفية بدء الحياة. كانت إحدى المجموعات مقتنعة بأن الحياة بدأت مع جزيء الـRNA، لكنها كافحت للعمل على كيفية تكوَن الـRNA أو جزيئات مشابهة بشكلٍ عفوي على الأرض المبكرة ومن ثم صنع نسخٍ عن نفسها. كانت جهودهم مثيرة في البداية، لكنها كانت محبطة في النهاية. مع ذلك، فحتى عند تقدم هذا البحث، كان هناك باحثين في أصل الحياة متأكدين من شعورهم حول كيفية بدء الحياة بطريقةٍ مختلفةٍ تماماً.
تستند نظرية عالم الـRNA على فكرةٍ بسيطة: أهم شيء يفعله الكائن الحي هو القيام بإعادة إنتاج نفسه. يتفق العديد من علماء الأحياء مع ذلك. من البكتيريا إلى الحيتان الزرقاء، كل الكائنات الحية تسعى لامتلاك ذرية.
مع ذلك، لا يعتقد العديد من الباحثين في أصل الحياة أن إعادة الإنتاج أمر أساسي حقاً. ويقولون، قبل أن يتمكن الكائن من إعادة إنتاج نفسه، يجب أن يكون مكتفياّ ذاتياً. يجب أن يبقي نفسه حياً. على كل حال، لن تستطيعوا إمتلاك الأطفال إن متم في البداية.
نحن نبقي أنفسنا أحياء عن طريق تناول الطعام، في حين أن النباتات الخضراء تفعل ذلك عن طريق إستخراج الطاقة من أشعة الشمس. قد لا تعتقدون أن الشخص الذي يلتهم شريحة لحم يشبه شجرة البلوط كثيراً، ولكن عندما يكملها، سيكون كلاهما قد حصل على الطاقة.
تدعى هذه العملية بالتمثيل الغذائي (الإستقلاب أوالأيض). أولاً، يجب عليكم الحصول على الطاقة؛ لنَقُل، من المواد الكيميائية الغنية بالطاقة مثل السكريات. ثم يجب عليكم إستخدام هذه الطاقة لبناء أشياءٍ مفيدة مثل الخلايا.
عملية تسخير الطاقة ضرورية جداً، ويعتقد العديد من الباحثين أنه يجب أن تكون أول شيء فعلته الحياة على الإطلاق.
p04dbljf
المياه البركانية ساخنة وغنية بالمواد الكيميائية (حقوق الصورة: Kseniya Ragozina/Alamy)
كيف قد تبدو هذه الكائنات التي تستعمل التمثيل الغذائي فقط؟ تم وضع أحد أكثر الإقتراحات تأثيراً في أواخر ثمانينيات القرن الماضي بواسطة غانتر واتشترشاوزر “Günter Wächtershäuser”. لم يكن واتشترشاوزر عالماً بدوامٍ كامل، وإنما كان محامٍ متخصص في براءات الإختراع مع إمتلاكه خلفية في الكيمياء.
إقترح واتشترشاوزر أن الكائنات الحية الأولى كانت “مختلفة جذرياً عن أي شيء آخر نعرفه”. فهي لم تكن مصنوعة من الخلايا. ولم تكن تملك إنزيمات، DNA أو RNA.
بدلاً من ذلك، تصور واتشترشاوزر تدفقاً لمجرى مياهٍ ساخنة من بركان. كانت المياه غنية بالغازات البركانية مثل الأمونيا وآثارٍ محفوظة لمعادن من قلب البركان.
حيث تدفقت المياه على الصخور، وبدأت التفاعلات الكيميائية بالحدوث. وبشكلٍ خاص، ساعدت المعادن من المياه بدمج مركبات عضوية بسيطة إلى مركباتٍ أكبر.
كانت نقطة التحول هي نشأة أول دورة تمثيلٍ غذائي. وهي عملية يتم تحويل مادة كيميائية واحدة إلى عدة سلاسل من المواد الأخرى، حتى يتم إعادة خلق المادة الكيميائية الأصلية مرةً أخرى. في هذه العملية، يكون النظام بأكمله قد حصل على الطاقة، والتي يُمكن أن تُستخدم لإعادة بدء الدورة – ولبدء فعل أشياءٍ أخرى.
جاءت كل الأشياء الأخرى التي صنعت الكائنات الحية – مثل الـDNA والخلايا والأدمغة – في وقتٍ لاحق، مستندةً على ظهر هذه الدورات الكيمائية.
لا تبدو هذه الدورات الأيضية (دورات التمثيل الغذائي) مثل الحياة كثيراً. حيث دعا واتشترشاوزر إكتشافاته باسم “سلف الكائنات الحية” وكتب أنها “بالكاد يمكن تسميتها بأنها حية”.
لكن الدورات الأيضية التي تشبه الدورات التي وصفها واتشترشاوزر هي جوهر كل شيءٍ حي. تُعد خلاياكم في الأساس محطات معالجة للمواد الكيميائية المجهرية، وتقوم بتحويل مادة كيميائية إلى أخرى باستمرار. قد لا تبدو الدورات الأيضية كأنها تشبه الحياة لكنها أمرٌ أساسي لبقائها.
خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، طوّر واتشترشاوزر نظريته بقدرٍ كبير من التفاصيل. فقد أوجز أي معدن من المعادن مصنوع لأفضل الأسطح وأي دورة كيميائية قد تأخذ مكاناً. لقد بدأت أفكاره بجذب المناصرين.
لكنها كانت لا تزال أشياء نظرية. إحتاج واتشترشاوزر إلى إكتشاف عالمٍ حقيقي يدعم أفكاره. ولحسن الحظ، كان قد تمت صناعته – قبل ذلك بعقد (عشر سنوات).
p04cl34k
فتحاتٌ في المحيط الهادئ (حقوق الصورة: Dr Bob Embley/NOAA/PMEL-NOAA Photo Library/CC by 2.0)
في عام 1977، غاص فريق بقيادة جاك كورليس “Jack Corliss” من جامعة ولاية أوريغونOregon State” University” بعمق 1.5 ميل (2.5 كم) في شرقي المحيط الهادئ. وقد قاموا بمسح نقط جزر غالاباغوس الساخنة، حيث الحافات المرتفعة من الصخور تظهر من قاع البحر. كانوا يعلمون أن هذه الحافات كانت فيما مضى نشاطاً بركانياً.
وجد كورليس أن هذه الحافات مملوءة بالحفر، وتوجد بشكلٍ خاص في الينابيع الساخنة. كانت المياه الساخنة الغنية بالمواد الكيميائية تعلو من أسفل قاع البحر ويتم ضخها من خلال الثقوب في الصخور.
والأمر المثير للدهشة هو أن هذه “الفتحات الحرارية المائية” مكتظة بسكانٍ من الحيوانات الغريبة. لقد كان هنالك رخويات ضخمة وحيوانات بلح البحر وديدان إنبوبية. لقد كانت المياه مليئة أيضاً بالبكتيريا. عاشت كل هذه الكائنات الحية على الطاقة من الفتحات الحرارية المائية.
كان إكتشاف الفتحات الحرارية المائية هو من صنع إسم كورليس. كما أن هذا الإكتشاف جعله يفكر. إقترح في عام 1981 أن هذه الفتحات نفسها وجِدت على الأرض قبل 4 مليارات سنة، وقد كانت موقع أصل الحياة. كان كورليس سيمضي معظم حياته المهنية الباقية في العمل على هذه الفكرة.
p04cl3fw
تدعم الفتحات الحرارية المائية الكائنات الغريبة (حقوق الصورة: Dr Ken MacDonald/Science Photo Library)
إقترح كورليس أن هذه الفتحات الحرارية المائية يمكن لها أن تخلق خليطاً من المواد الكيميائية. وقال، كل فتحة، كانت نوعاً ما كمزودٍ (موزع) للحساء البدائي.
عندما تدفقت المياه الساخنة خلال الصخور، أدّت الحرارة والضغط إلى دمج مركبات عضوية بسيطة إلى مركباتٍ أعقد مثل الأحماض الأمينية والنيوكليوتيدات وجزيئات السكر. لقد بدأوا قرب حدود المحيط، حيث لم تكن المياه ساخنةً جداً، بالإرتباط إلى سلاسل – مكوّنين الكاربوهيدرات والبروتينات والنيوكليوتيدات مثل الـDNA. بعدها، وكلما إقتربت المياه من المحيط بردت أكثر، كانت هذه الجزيئات لا تزال تتجمع إلى خلايا بسيطة.
كانت فرضيةً أنيقة، وقد قامت بجذب إنتباه الناس. لكن ستانلي ميلر، الذي ناقشنا تجربته المؤثرة عن أصل الحياة في الفصل الأول، لم يكن مقتنعاً. في مقالٍ في عام 1988، كان يرى أن الفتحات كانت ساخنة جداً.
في حين أن الحرارة الشديدة تؤدي إلى تكوين المواد الكيميائية مثل الأحماض الأمينية، إقترحت تجارب ميلر أنها من شأنها أن تدمرها أيضاً. إن المركبات الرئيسية مثل جزيئات السكر “ستنجو… لثوانٍ على الأكثر”. الأكثر من ذلك، فإنه من غير المرجح إرتباط هذه الجزيئات البسيطة في سلاسل، بسبب أن المياه المحيطة ستقوم بكسر السلاسل على الفور تقريباً.
p04cl2cv
الجيولوجي والباحث في أصل الحياة مايكل راسل ”Michael Russell” (حقوق الصورة: Nasa/JPL/CalTech)
في هذه المرحلة، صعد الجيولوجي مايك راسل إلى النزاع. إعتقد راسل أن نظرية الفتحات يمكن أن تعمل بعد كل شيء. الأكثر من ذلك، أن الفتحات بدت له البيت المثالي لكائنات واتشترشاوزر (أسلاف الكائنات الحية). هذا الإلهام من شأنه أن يؤدي به إلى خلق واحدة من أكثر النظريات قبولاً عن أصل الحياة.
أمضى راسل حياته المبكرة بطرقٍ مختلفة، من صناعة الأسبرين وإكتشاف المعادن الثمينة وتسجيل ردات الفعل – في واقعةٍ ملفتةٍ للنظر في ستينيات القرن الماضي – لبركانٍ محتمل الإنفجار، على الرغم من عدم تدربه على هذا الأمر. لكن إهتمامه الحقيقي كان في كيفية تغير سطح الأرض على مدى العصور. لقد شكّلت هذه الناحية الجيولوجية أفكاره عن أصل الحياة.
عُثِر في ثمانينيات القرن الماضي على أدلة أحفورية لنوع أقل حدةً من فتحات المياه الحارة، حيث كانت الحرارة أقل من 150 درجة سيليزية. قال راسل، من شأن هذا الإعتدال في درجة الحرارة أن يسمح لجزيئات الحياة أن تبقى حية أكثر بكثير مما ستعيش في إفتراض ميلر.
ما هو أكثر من ذلك، فإن الأحافير من هذه الفتحات الأبرد لا تزال تملك شيئاً غريباً. وهو معدنٌ غريب يدعى البايرايت، وهو مصنوع من الحديد والكبريت، وقد تكوّن في أنابيب تمتد لحوالي 1 ملم.
p04cl31d
نتوءٌ من معدن البايرايت – أو حديد البايرايت (حقوق الصورة: James Petts, CC by 2.0)
في هذا الوقت، كان واتشترشاوزر قد بدأ بنشر أفكاره، والتي كانت تعتمد على دفقات المياه الساخنة الغنية بالمواد الكيميائية فوق المعادن. فقد إقترح حتى أن معدن البايرايت كان ضمن الأمر.
لذلك قام راسل وإستناداً لما سمعه وشاهده، باقتراح أن الفتحات الحرارية المائية في أعماق البحار، فاترة بما فيه الكفاية لتكوين هياكل البايرايت، وقد قامت هذه الهياكل باستضافة كائنات واتشترشاوزر. إن كان راسل على حق، فإن الحياة بدأت في قاع البحر – وقد ظهر التمثيل الغذائي أولاً.
قام راسل بوضع كل هذا في ورقةٍ نُشِرت في عام 1993، بعد 40 عاماً من تجربة ميلر الكلاسيكية. لكنه لم يحصل على نفس التغطية الإعلامية المثيرة، بالرغم من أنه يمكن القول بأنها أكثر أهمية. فقد قام راسل بالدمج بين فكرتين تبدوان منفصلتين – الدورات الأيضية لواتشترشاوزر والفتحات الحرارية المائية لكورليس – إلى شيءٍ مقنعٍ حقاً.
ولجعل الورقة أكثر تأثيراً، عرض راسل أيضاً تفسيراً لكيفية حصول الكائنات الحية الأولى على الطاقة. بعبارةٍ أخرى، لقد إكتشف كيفية عمل دوراتهم الأيضية. إعتمدت فكرته على عمل أحد العباقرة المنسيين في العلم الحديث.
p04clbq6
سيفوز بيتر ميتشل “Peter Mitchell” بجائزة نوبل عن بحثه (حقوق الصورة: INTERFOTO/Alamy)
في ستينيات القرن الماضي، مرض الكيميائي الحيوي بيتر ميتشل وقد كان مضطراً إلى الإستقالة من جامعة إدنبرة. ولكنه بدلاً من ذلك، أنشأ مختبراً خاصاً في منزلٍ كبيرٍ وبعيد في كورنوال. وبمعزلٍ عن المجتمع العلمي، تم تمويل عمله جزئياً عن طريق قطيعٍ من الأبقار المنتجة للحليب. العديد من علماء الكيمياء الحيوية، بما فيهم، في البداية، ليزلي أورغل، الذي ناقشنا عمله على الـRNA في الفصل الثاني، إعتقدوا أن أفكاره سخيفة تماماً.
بعد أقل من عقدين من الزمن، حقق ميتشل المجد الأكبر: جائزة نوبل في الكيمياء لعام 1978. لم يكن إسمه مألوفاً أبداً، لكن أفكاره كانت في كل كتب الأحياء.
أمضى ميتشل حياته المهنية يكتشف ما الذي تفعله الكائنات الحية مع الطاقة التي تحصل عليها من الطعام. في الواقع، كان يسأل كيف يمكننا جميعاً البقاء على قيد الحياة بين لحظةٍ وأخرى.
عَلِمَ ميتشل أن كل الخلايا تقوم بتخزين الطاقة في نفس الجزيء: الأدينوسين ثلاثي الفوسفات (ATP). هذه القطعة الحاسمة كانت سلسلة من ثلاث مجموعات فوسفات، ترتكز على الأدينوسين. يتطلب إضافة مجموعة الفوسفات الثالثة الكثير من الطاقة، حيث يتم حبسها بعد ذلك في الـATP.
عندما تحتاج الخلية للطاقة – فرضاً، إن إحتاجت العضلة لأن تتقلص – فإنها تكسر المجموعة الثالثة من الفوسفات عن الـATP. هذا يحوّلها إلى ثنائي فوسفات الأدينوسين (ADP) ويحرر الطاقة المخزونة.
أراد ميتشل في بادئ الأمر معرفة كيف يمكن للخلايا أن تصنع الـATP. كيف أنها تقوم بتركيز طاقة كافية للـADP، لكي يتم إرفاق مجموعة الفوسفات الثالثة؟
عَلِمَ ميتشل أن الإنزيمات التي تصنع الـATP تستقر على غشاء. لذلك إقترح أن الخلية تقوم بضخ جسيمات مشحونة تدعى بالبروتونات عبر الغشاء، بحيث أنه كانت هناك الكثير من البروتونات في جانب، وبالكاد توجد في الجانب الآخر.
تقوم البروتونات بعدها بمحاولة التدفق مرةً أخرى عبر الغشاء لتحقيق التوازن بأعدادها على كل جانب – لكن المكان الوحيد الذي يمكن أن أن تمر عبره كان الإنزيم. يمر دفق البروتونات معطياً الإنزيمات الطاقة اللازمة لصنع الـATP.
عرض ميتشل هذه الفكرة لأول مرة في عام 1961. وقضى الـ15 عاماً المقبلة في الدفاع عنها ضد جميع القادمين، حتى أصبح الدليل قاطعاً. نحن نعلم الآن أن عملية التعريف التي قام بها ميتشل قد تم إستخدامها من قِبَل كل شيءٍ حيٍ على الأرض. فهي ما يحصل داخل خلايا الجسم في الوقت الحالي. كالـDNA مثلاً، والذي هو ضروري للحياة كما نعرفها.
إن النقطة الأساسية التي إلتقطها راسل في تحلل بروتون ميتشل: هو أنه يملك الكثير من البروتونات على جانبٍ واحد من الغشاء، وعدد قليل في الجهة الأخرى. كل الخلايا تحتاج لإنحدار البروتون لتخزّن الطاقة.
تخلق الخلايا الحديثة الإنحدار عن طريق ضخ البروتونات عبر الغشاء، لكن هذا ينطوي على الآلاتٍ جزيئية معقدة لا يمكن أن تكون قد قفزت مباشرةً إلى الوجود. لذلك، قام راسل باستنتاجٍ منطقيٍ آخر: وهو أن الحياة يجب أن تكون قد تكونت في مكانٍ ما مع إنحدارٍ طبيعي للبروتون.
في مكانٍ ما، مثل فوهات المياه الحارّة. لكن يجب أن تكون نوع معين من الفوهات. عندما كانت الأرض فتيّة كانت البحار حمضية، والمياه الحمضية تملك الكثير من البروتونات التي تسبح في داخلها. ولخلق إنحدارٍ بروتوني، يجب أن تكون المياه من الفتحة منخفضة البروتونات: أي يجب أن تكون قلوية.
إن فتحات كورليس لن تنفع. ليس فقط لأنها كانت حارةً جداً، لكن لكونها حمضية. ولكن في عام 2000، إكتشفت ديبورا كيلي “Deborah Kelley” من جامعة واشنطن أول الفتحات القلوية.
p04cl45r
جزء من المدينة المفقودة “Lost City” وهي منطقة حرارية مائية في المحيط الأطلسي (حقوق الصورة: 916 Collection/Alamy)
كان على كيلي المكافحة فقط لتصبح عالمة. توفي والدها وهي على وشك إنهاء المدرسة الثانوية، وكانت مضطرة للعمل لساعاتٍ طويلة لإعالة نفسها خلال الكلية.
إلا أنها نجحت، وأصبحت مفتونة بكلٍ من البراكين تحت سطح البحر والفتحات الحرارية المائية شديدة الحرارة. أدى هذا التوأم المعشوق بها في نهاية المطاف إلى منتصف المحيط الأطلسي. كانت قشرة الأرض هناك يتم سحب أجزاء منها وترتفع قمم الجبال من قاع البحر.
على هذه القمم، وجدت كيلي حقل فتحاتٍ حرارية مائية أطلقت عليه تسمية Lost City. فهي ليست مثل تلك التي وجدها كورليس. المياه تتدفق منها بحوالي فقط 40-75 درجة سيليزية، وهي معتدلة القلوية. وقد تجمعت معادن الكربونات من هذه المياه نحو “المداخن” البيضاء شديدة الإنحدار التي ترتفع من قاع البحر كآلة الأرغن الموسيقية ذات الأنابيب. مظهرها مخيف ويشبه الأشباح، ولكن هذه العبارة مضللة: فهي موطن لمجتمعاتٍ كثيفة من الكائنات الحية الدقيقة التي تعيش على مياه الفتحات.
كانت هذه الفتحات القلوية مكاناً مثالياً لأفكار راسل. فقد أصبح مقتنعاً بأن فتحاتٍ مثل فتحات المدينة المفقودة كانت المكان حيث بدأت الحياة.
لكن كان لديه مشكلة. لكونه جيولوجياً، لم يعرف بما فيه الكفاية عن الخلايا البيولوجية لجعل نظريته مقنعة حقاً.
p04cl3y4
الفتحات الحرارية المائية المسماة بالمدخن الأسود “Black smoker” (حقوق الصورة: NOAA PMEL Vents Program/Science Photo Library)
لذلك تعاون راسل مع عالِم الأحياء ويليام مارتن “William Martin”، وهو أمريكي مشاكس قضى معظم حياته المهنية في ألمانيا. في عام 2003 وضع الزوج نسخةً محسّنة من أفكار راسل المبكرة. يمكن القول أنها القصة الأكثر تفصيلاً عن كيفية بدء الحياة.
وبفضل كيلي، فهم يعرفون الآن أن الصخور من الفتحات القلوية كانت مسامية: كانت تحتوي جيوباً صغيرة مملوءة بالمياه. إقترحوا أن هذه الجيوب الصغيرة، كانت بمثابة “الخلايا”. كل جيب كان يحتوي على مواد كيميائية أساسية، بما في ذلك المعادن مثل البايرايت. جنباً إلى جنب مع إنحدار البروتون الطبيعي من الفتحات، وقد كان المكان المثالي لبدء عملية التمثيل الغذائي.
يقول كلٌ من راسل ومارتن، حينما إستخدمت الحياة الطاقة الكيميائية من مياه الفتحات، بدأت بصنع الجزيئات مثل الـRNA. وخلقت في نهاية المطاف غشائها الخاص بها وأصبحت خليةً حقيقية، ومن ثم أفلتت من الصخور المسامية إلى المياه المفتوحة (المكشوفة).
تعتبر هذه القصة الآن واحدة من الفرضيات الرائدة في تفسير أصل الحياة.
p04clc5r
هروب الخلايا من الفوهات الحرارية المائية (حقوق الصورة: Richard Bizley/Science Photo Library)
وجدت هذه الفرضية دعماً قوياً في تموز/يوليو من عام 2016، حين نشر مارتن دراسة تعيد بناء بعض الخصائص عن “آخر سلفٍ مشتركٍ للجميع” “last universal common ancestor” لوكا (LUCA). وهو الكائن الحي الذي عاش منذ مليارات السنين فيما مضى وانحدرت منه جميع أشكال الحياة.
ربما لم نجد أدلةً أحفورية مباشرة عن لوكا، ولكن لا يزال بوسعنا صنع تخمينٍ عقلاني عن الكيفية التي كان يبدو بها وكيفية تصرفه من خلال النظر للكائنات الحية الدقيقة التي ما زالت على قيد الحياة اليوم. وهذا ما فعله مارتن.
لقد قام مارتن بفحص الـDNA لـ 1930 كائن حي دقيق حديث، وحدد 355 جين كان جميعهم يمتلكونه. يمكن القول أن هذا يعد دليلاً على أن جميع الـ355 جين قد تم إمرارهم من جيلٍ لآخر، بما أن تلك الميكروبات البالغ عددها 1930 ميكروب تشترك في سلفٍ مشترك – تقريباً في الوقت الذي كان لوكا حياً فيه.
على الرغم من هذا، قال أنصار عالم الـRNA أن نظرية الفوهات تمتلك مشكلتين. يحتمل أن تكون أحدهما يتم قولها دائماً، لكن الأخرى قد تكون قاتلة.
p04cl2q9
تعتبر الفتحات الحرارية المائية موطناً للكانئات الغريبة مثل هذه السرطانات متفاوتة الذيل “anomuran crabs” (حقوق الصورة: Credit: A. D. Rogers et al, PLoS Biology, CC by 2.5)
كانت المشكلة الأولى أنه لا يوجد هناك أي دليلٍ تجريبي للعمليات التي وصفها راسل ومارتن. لقد كان لديهم قصة مفصّلة، ولكن لم يتم رؤية أي من هذه الخطوات في المختبر.
يقول الخبير في أصل الحياة مولكيجانيان “Mulkidjanian”، “إن الناس الذين يعتقدون أن التضاعف كان أولاً، إستمروا بتوفير بياناتٍ جديدة”، وأضاف، “بينما كان الذين يعتقدون أن التمثيل الغذائي كان في البداية لم يستمروا بتوفير البيانات”.
يمكن تغيير هذا، وذلك بفضل نيك لين “Nick Lane” زميل مارتن من جامعة لندن. فقد قام ببناء “مفاعل أصل الحياة”، والذي سيقوم بمحاكاة الظروف داخل فوهاتٍ قلوية. لقد كان يأمل في ملاحظة دورات التمثيل الغذائي، وربما جزيئات مثل الـRNA أيضاً.
أما المشكلة الثانية كانت في موقع الفتحات في أعماق البحار. وكما أشار ميلر في عام 1988، أنه لايمكن لجزيئات السلاسل الطويلة مثل الـRNA والبروتينات ان تتكون في الماء بدون الإنزيمات التي تساعدها.
بالنسبة للكثير من الباحثين، كانت هذه حجة قاضية. يقول مولكيجانيان، “إن كنت تملك خلفية في الكيمياء، لن يمكنك شراء فكرة فتحات أعماق البحر، لأنك تعلم أن كيمياء كل هذه الجزيئات غير متوافق مع الماء”.
على الرغم من هذا، بقي راسل وحلفائه متفائلين.
لكن في العقد الماضي، تقدمت طريقة ثالثة إلى المقدمة، وذلك بفضل سلسلةٍ من التجارب غير العادية. كان هذا يعد بشيءٍ لم يصل إليه لا عالم الـRNA ولا الفتحات الحرارية المائية: وهي طريقة لصنع خليةٍ كاملة من الصفر.
p04cl3qr
يمكن القول أنه وبدون الخلايا لن تكون هناك حياة (حقوق الصورة: Equinox Graphics Ltd
المصدر: هنا

عن

شاهد أيضاً

لا يحدث كل شيء لسبب

بقلم: نيكولاس كليرمونت ترجمة: رحاب الهلالي تدقيق: ريام عيسى تصميم الصورة: امير محمد ١١/حزيران / …

كيف تركز على شيء واحد فقط

نشر في: موقع فوكس تأليف: ريبيكا جينينغس بتاريخ: 4 سبتمبر 2019 ترجمة: مازن سفان تدقيق …