الرئيسية / ثقافة / كيف بدأت الحياة على كوكب الارض _2_: الفصل الثاني: الإنقسام الكبير

كيف بدأت الحياة على كوكب الارض _2_: الفصل الثاني: الإنقسام الكبير

بحلول أوائل منتصف القرن الماضي، تحرّك العلماء بعيداً عن الإفتراض طويل الأمد في أن الحياة كانت هديةً من الآلهة. وبدأوا بدلاً من ذلك باستكشاف إمكانية أن الحياة قد تكوّنت بشكلٍ تلقائي وطبيعي على الأرض المبكرة – وبفضل التجربة الشهيرة لستانلي ميلر، كان لديهم بعض الدعم العملي للفكرة. في حين أن ميلر كان يحاول صنع مواد الحياة من الصفر، كان علماء آخرون يكتشفون مما كانت الجينات مصنوعة.
في وقتنا هذا، أصبح العديد من الجزيئات الحيوية معروفاً. تشمل هذه الجزيئات السكريات والدهون والبروتينات – والأحماض النووية مثل “الحمض النووي الريبوزي منقصوص الأوكسجين”، ويعرف إختصاراً بالـDNA.
اليوم، نحن نعتبر أن حمل الحمض النووي DNA لجيناتنا أمراً مسلماً به، ولكن هذا في الحقيقة جاء بمثابة الصدمة لكل علماء الأحياء في منتصف القرن الماضي. إن البروتينات أكثر تعقيداً، لذلك ظنّ العلماء أنها جينات.
تلك الفكرة قد تم دحضها في العام 1952 بواسطة ألفريد هيرشي “Alfred Hershey” ومارثا تشايس ”Martha Chase” من معهد كارنيجي في واشنطن. فقد قاموا بدراسة الفيروسات البسيطة التي تحتوي فقط على الحمض النووي DNA والبروتينات، والتي يجب أن تصيب البكتيريا حتى تتكاثر. وجد الباحثون أن الحمض النووي الفيروسي هو الذي دخل البكتيريا: بقيت البروتينات بالخارج. واتضح أن الحمض النووي DNA هو المادة الوراثية.
تسببت نتائج هيرشي وتشايس ببدء سباقٍ محموم لإكتشاف بُنية الحمض النووي DNA، وبالتالي معرفة كيفية عمله. في العام التالي، تم حل المشكلة بواسطة فرانسيس كريك “Francis Crick” وجايمس واتسون ”James Watson“ من جامعة كامبريدج، المملكة المتحدة – مع الكثير من الشكر في المساعدة من زميلتهم روزاليند فرانكلين ”Rosalind Franklin”.
كان إكتشافهم من أعظم الإكتشافات العلمية في القرن العشرين. فقد قام أيضاً بإعادة رسم خريطة البحث عن أصل الحياة، من خلال الكشف عن تعقيد شيءٍ لا يصدق أنه كان مخفياً داخل الخلايا الحية.
p04cl2x3
جايمس واتسون وفرانسيس كريك مع نموذج الحمض النووي DNA الخاص بهم (حقوق الصورة: A. Barrington-Brown/Gonville and Caius College/Science Photo Library)
أدرك كريك وواتسون أن الحمض النووي DNA عبارة عن حلزونٍ مزدوج، مثل السلّم الذي تم ثنيه بشكلٍ حلزوني. قطبيّ السلّم مبنيّان من جزيئاتٍ تسمى النيوكليوتيدات.
لقد فسّر الهيكل كيفية نسخ الخلايا للـDNA الخاص بها. بعبارةٍ أخرى، لقد كشف عن كيفية نسخ الآباء لجيناتهم وتمريرها لأطفالهم.
إن النقطة الأساسية هي أنه يمكن للحلزون المزدوج أن “يُفتح”. هذا يكشف عن الشفرة الوراثية – وهي تتكون من سلسلة من الأساسات الوراثية A وT وC وG – والتي عادةٍ ما تكون محبوسة داخل “درجات” سلّم الـDNA. يتم إستخدام كل خيط بعدها كقالب لخلق نسخة من الأخرى.
باستخدام هذه الآلية، يتم تمرير الجينات من الوالدين إلى الأطفال منذ بداية الحياة. فجيناتكم تأتي في نهاية المطاف من أسلافٍ بكتيرية – وعند كل خطوة يتم نسخهم باستخدام الآلية التي تم إكتشافها بواسطة كريك وواتسون.
قام كريك وواتسون بعرض نتائجهم في في عام 1953 في ورقة بحثية في مجلة نايتشر “Nature”. في السنوات القليلة اللاحقة، تسابق علماء الكيمياء الحيوية لمعرفة ما يحمله الحمض النووي DNA من معلومات بالضبط، وكيفية إستخدام هذه المعلومات في الخلايا الحية. لقد بدأ الكشف عن أعمق أسرار الحياة للمرة الأولى.
لقد تبيّن أن لدى الحمض النووي DNA عمل واحد فقط. فهو يقوم بإخبار خلاياكم كيفية صناعة البروتينات: جزيئات تؤدي مجموعة من المهام الأساسية. بدون البروتينات لن يمكنكم هضم طعامكم، وستتوقف قلوبكم، ولن تستطيعوا التنفس.
ولكن، إتضح أن عملية إستخدام الـDNA لصنع البروتينات معقد إلى حدٍ مذهل. كانت هذه مشكلة كبيرة لأي أحدٍ يحاول تفسير أصل الحياة لأنه من الصعب تصور كيفية نشوء شيءٍ معقدٍ جداً.
كل بروتين هو في الأساس سلسلة طويلة من الأحماض الأمينية، وهي ممتدة معاً في ترتيبٍ معين. يحدد تسلسل الأحماض الأمينية الشكل ثلاثي الأبعاد للبروتين، ولهذا هي تبدو بهذا الشكل.
يتم ترميز تلك المعلومات في تسلسل قواعد الـDNA. لذلك عندما تحتاج خلية لصنع بروتين معين، فإنها تقوم بقراءة الجين ذي الصلة في الـDNA للحصول على سلسلة من الأحماض الأمينية.
ولكن هناك حيلة. الـDNA ثمين، لذلك تفضّل الخلايا الإحتفاظ به بعيداً بشكلٍ آمن. لهذا السبب، تقوم الخلايا بنسخ المعلومات من الـDNA فوق جزيئاتٍ قصيرة من مادة أخرى تدعى RNA (الحمض النووي الريبي). إن كان الـDNA عبارة عن كتابٍ مكتبيّ، فإن الـRNA سيكون قصاصة ورقية مع مفتاح مرور مدون عليها. إن الـRNA مشابه للـDNA، فيما عدا أنه لا يملك سوى حلقةٍ واحدة.
أخيراً، إن عملية تحويل المعلومات في خيط الـRNA إلى بروتين تتم في جزيءٍ معقدٍ جداً يدعى “الريبوسوم”.
هذه العملية مستمرة في داخل كل خلية حية، حتى في أبسط البكتيريا. إنها ضرورية للحياة كالأكل والتنفس. أي تفسير لأصل الحياة يجب أن يُظهر كيفية مجيء هذا الثالوث المعقد – DNA وRNA وبروتين الريبوسوم – إلى الوجود وكيف بدأوا العمل.
p04cl97n
يمكن أن تكون الخلايا معقدة جداً (حقوق الصورة: Russell Kightley/Science Photo Library)
فجأة، بدت أفكار أوبارين وهالدين بسيطة وساذجة، في حين أن تجربة ميلر، والتي لم تنتج سوى عددٍ قليل من الأحماض الأمينية المستخدمة في بناء البروتينات، بدت هاوية. بعيداً عن أخذنا أكثر من طريقة لخلق الحياة، كانت دراسته عبارة عن بذرة وضّحت الخطوات الأولى على طريقٍ طويل.
كان اول شخص يواجه هذا حقاً هو الكيميائي البريطاني ليزلي اورغل “Leslie Orgel”. لقد كان من أوائل الذين رأوا نموذج كريك وواتسون عن الحمض النووي DNA، وكان سيساعد ناسا لاحقاً في برنامج فايكينغ “Viking”، وهو برنامج إرسال الروبوتات المخصصة للهبوط على المريخ.
وضع أورغل تبسيطاً للمشكلة. في العام 1968، كتب أورغل وبدعمٍ من كريك، إقتراحاً في أن الحياة الأولى لم تكن تمتلك البروتينات أو الـDNA. بدلاً من ذلك، كانت مصنوعة كلها تقريباً من الحمض النووي الريبي RNA. من أجل أن يحصل هذا، يجب أن تكون جزيئات الحمض النووي الريبي RNA البدائية هذه متعددة الإستعمالات لأشياء محددة. أحد هذه الأشياء هو أنه من المفترض أن تكون هذه الجزيئات قادرة على بناء نسخة من نفسها، ويُفترض أن تستخدم نفس آلية قاعدة الإقتران كالحمض النووي DNA.
كانت فكرة أن الحياة بدأت مع الـRNA ستثبت تأثيراً هائلاً. لكنها أثارت أيضاً نزاعات علمية إستمرت حتى يومنا هذا.
p04cl2rf
يُعتبر الحمض النووي DNA جوهر كل شيءٍ حي تقريباً (حقوق الصورة: Equinox Graphics Ltd)
عن طريق الإقتراح أن الحياة بدأت مع الـRNA وأشياء أخرى، إقترح أورغل أن الجانب الحاسم من الحياة – أي قادر على إعادة إنتاج نفسه – ظهر قبل كل الجوانب الأخرى. بمعنى، أنه لم يكن يشير فقط إلى كيفية تكوّن الحياة: لقد كان يقول شيئاً حول ماهية الحياة.
يتفق العديد من علماء الأحياء مع فكرة أورغل “صفة التكرار أتت أول شيء”. إن القابلية على إنتاج الذرية في نظرية التطور لداروين، تعد أمراً أساسياً: السبيل الوحيد للكائن كي “يفوز” هو أن يترك ورائه الكثير من الأطفال.
لكن توجد خواص أخرى للحياة تبدو ضرورية على حدٍ سواء. الأكثر وضوحاً منها هي التمثيل الغذائي: القابلية على إستخراج الطاقة من محيطك وإستخدامها لإبقاء نفسك حياً. بالنسبة للكثير من علماء الأحياء، يجب أن يكون التمثيل الغذائي هو السمة المميزة لتعريف الحياة، ثم تظهر بعدها سمة التكرار.
لذلك، إنقسم العلماء الذين يدرسون أصل الحياة من ستينات القرن الماضي فصاعداً إلى عدة مجموعات.
يقول ساذرلاند، “كان الإنقسام بين هل كان التمثيل الغذائي هو من أتى أولاً أم الجينات”.
في الوقت نفسه، أصرّت مجموعةٌ ثالثة على أن أول شيءٍ قد ظهر كان حاويةً للجزيئات الأساسية، للحفاظ عليها من الضياع. يقول ساذرلاند، “يجب أن تأتي الحاوية أولاً، لأنه لا توجد هناك فائدة من التمثيل الغذائي إلا إن كان داخل شيءٍ مغلق”. بعبارةٍ أخرى، تحتاج إلى أن تكون خلية – كما أكد كل من أوبارين وهالدين قبل عدة عقود – محاطة ربما بغشاءٍ من الدهون البسيطة والببتيدات.
حصلت كل الأفكار الثلاثة على أتباع، وبقيت حية حتى يومنا هذا. لقد أصبح العلماء ملتزمين بحماس بأفكارهم الأليفة، ففي بعض الأحيان يلتزمون بها بشكلٍ أعمى أيضاً.
نتيجةً لذلك، كانت الجلسات العلمية حول أصل الحياة منقسمة في كثيرٍ من الأحيان. كان العلماء من إحدى المجموعات يخبرون الصحفيين الذين يغطون هذه الجلسات أن الأفكار الخارجة من المجموعات الأخرى هي إما غبية أو سيئة بشكلٍ مستمر.
وبفضل أورغل، فكرة أن الحياة بدأت مع الحمض النووي الريبي RNA والجينات تم طرحها مبكراً. ثم أتت ثمانينيات القرن الماضي، وبدأت في الإكتشاف الذي بدا أنه يؤكدها إلى حدٍ كبير.
p04cl4d4
يمكن أن يكون الـRNA هو المفتاح لبداية الحياة (حقوق الصورة: Equinox
Graphics Ltd
المصدر: هنا

عن

شاهد أيضاً

لا يحدث كل شيء لسبب

بقلم: نيكولاس كليرمونت ترجمة: رحاب الهلالي تدقيق: ريام عيسى تصميم الصورة: امير محمد ١١/حزيران / …

كيف تركز على شيء واحد فقط

نشر في: موقع فوكس تأليف: ريبيكا جينينغس بتاريخ: 4 سبتمبر 2019 ترجمة: مازن سفان تدقيق …