نيك دانفورث
توقفوا عن الاعتقاد بظهور مارتن لوثر مسلم ليُصلح الإسلام لأن لكل دين مساره التاريخي الخاص.
في الأسبوع الماضي، وفي خطابه السنوي بعيد الميلاد، صلى الأب فرنسيس لضحايا الدولة الإسلامية في العراق وسوريا ”داعش“. صلاته كانت تكريماً لكل ضحايا أرهاب الجهاديين من المسيحيين والمسلمين وضحايا العنف الجهادي في الحوادث التي شكلت أكبر مصدر للحزن في سنة 2014. ولكن كلمات البابا تقدم أيضاً تناقض صارخ بين تواضع الفاتيكان الواضح ووحشية الخلافة ”داعش“ المعلنة حديثاً.
هذا التناقض قاد بعض المراقبين (بيل مار على سبيل المثال وهو مقدم برنامج أمريكي ساخر) ليعلنوا أن علينا الكفّ عن كوننا دبلوماسيين والتصريح بما هو واضح: لا يزال الإسلام عالقاً في العصور الوسطى. وحتى أولئك الذين يرون أن هذه الصيغة بالذات وقحة جداً لا يزالوا يتخبطون في محاولة شرح هذا التناقض، لماذا يبدو أن الكثير من الدول الغربية قد توصلت إلى كيفية فصل الدين عن الدولة، بينما تستمر الدول الإسلامية من المملكة العربية السعودية إلى مصر وتركيا في هذا الصراع.
إحدى التفسيرات الأكثر متانة هي أن العالم الإسلامي يحتاج إلى ثورته الإصلاحية الخاصة. يحتاج إلى مسلم على غرار مارتن لوثر ليقوم بتحديث دين محمد. وهو جدل صُنع من قبل توماس فريدمان وغيره لأكثر من عقد. في العام الماضي وحده أضيف فتح الله غولن وعبد الفتاح السيسي الى القائمة القصيرة للشخصيات المحتملة لأن تكون مارتن لوثر الإسلام. العديد من المحللين والنقاد المختصين بالشأن الإسلامي ملتزمين بهذه الفكرة، سواء كان الداعية التركي المنعزل أو الجنرال المصري الفاشستي(مؤيد لمبدأ إخضاع الفرد و حقوقه إخضاعاً كاملاً لمصلحة الدولة) لابد من وجود شخص ما ليقوم بتصحيح الإلتباس حول دور الدين والدولة في العالم الإسلامي، مما سيساعد الإسلام في النهاية لينتقل من الأصولية الشمولية الى التنوير، دين ليبرالي، من أبو بكر البغدادي الى البابا فرنسيس.
ولكن قبل أن يبدأ المراقبين الغربيين بتطبيق دروس التاريخ الأوربي على العالم الأسلامي، قليلٌ من التأمل الذاتي هو أمر مهم. ألم يكن الإصلاح في العالم الأوربي هجوماً على الكنيسة الكاثوليكية؟ ألم يكتب مارتن لوثر، الرجل الذي بدأ الإصلاح، كتابٌ ضد البابوية الرومانية بعنوان: مؤسسة الشيطان؟ في الواقع، في كل مرة يقوم فيها كاتب غربي بتحديد مارتن لوثر الإسلام، يسلط الضوء على مسألة لم تحل في العالم الغربي نفسه: هل العالم المسيحي الحديث اليوم أنتصاراً للبروتستانتية على البابا؟ أو هو أنعكاس لجوهر المسيحية الأكثر علمانية، والمتأصلة في البروتستانتية والكاثوليكية على حدٍ سواء؟
لا هذا ولا ذاك، نتجت الثقافات السياسية المختلفة في البلدان المسيحية والمسلمة التي نناقشها اليوم من تاريخ معقد، مسارٌ ملتوي يقدم أمثلة بسيطة أو عِبَر مرضية.
وبالنسبة لمعظم التاريخ الأمريكي، كان من البديهي لغالبية البروتستانت الأمريكيين أن الانفصال الشهير بين الكنيسة والدولة في الولايات المتحدة أصبح ممكناً فقط لأن الإصلاح البروتستانتي كان قد روض الفاتيكان في القرن ال16. تعتبر الكاثوليكية كدين من القرون الوسطى على خلاف مع التقاليد الأنجلو – أمريكية للديمقراطية العلمانية. بعد فترة وجيزة من إعلان واعظ بوسطن جوناثان مايهيو أن “البابوية والحرية غير متفقان” أعلن الكونغرس القاري الشهير أن الكاثوليكية دين ينشر “المعصية و التعصب والاضطهاد والقتل والتمرد في كل جزء من العالم”.
كانت الحركة الأمريكية المضادة للكاثوليكية خشنة وصريحة بالتأكيد ولكنها لم تكن بدون سبب. في النهاية، لم يرعى الفاتيكان حركة تقدمية في ذلك الوقت. فقد أعلن قادة الكنيسة بفخر أنهم معارضون لجوانب أساسية للديمقراطية، مثل التصويت. على سبيل المثال، أصدر البابا بيوس التاسع المنشور البابوي الشهير لعام 1864 والذي سمي منهج الأخطاء التي تدين، من بين أمورٌ أخرى، الليبرالية وحرية الضمير والتقدمية.
في هذه الأيام، على الرغم من أن معظم البروتستانت على الأرجح يوافقون أن البابا فرانسيس يبدو وكأنه رجل لطيف جداً، وبالتأكيد لا يشكل تهديداً للديمقراطية. فإن البابا في نفس المركب مع التقدم. وحتى أنه يعترف بصحة نظرية التطور الآن. فما الذي حصل؟
بالنسبة لمعظم تاريخ أوربا، فالشيء الوحيد الذي توافق عليه قادة الكنيسة ونظرائهم من الملوك هو وجوب اتحاد الدولة والكنيسة. وأختلفوا فقط في من يجب أن يمسك زمام الأمور. وفي الحقيقة، الشيء الوحيد الذي أبقى الدولة والكنيسة منفصلتين، كان الصراع على السلطة بين المعسكرين.
حينما فقدت الإمبراطورية الرومانية السيطرة على أوروبا خلال الألفية الأولى، حافظ البابا على سيطرته على الكنيسة وممتلكاتها الواسعة في جميع أنحاء أراضي الإمبراطورية الرومانية السابقة. السلطة الدنيوية للبابا كثيراُ ما قادته للصراع مع ملوك أوروبا. فعندما حاول هؤلاء الحكام الاستيلاء على أراضي الكنيسة أو تعيين الأساقفة، مما دعى الكنيسة الكاثوليكية لتحشيد حلفائها الكبار ومواردها للمقاومة. مما أدخل ببعض أقوى حكام أوروبا في هذا الصراع ــ شارلمان العظيم، والعديد من خلفائه، أباطرة روما المقدسين، وملك فرنسا فيليب الرابع ــ ضد البابا حول مسألة ما إذا كان على الملوك أختيار البابوات أو ينبغي للبابوات اختيار الملوك. أراد الجانبين لعب دور (الخليفة) مع ما ينطوي عليه هذا الدور من سلطة روحية ودنيوية تفرضها هذه الألقاب. ولكن بما أن كل من الكنيسة والدولة يستندان على بعضهما البعض للحصول على الشرعية فلم يتمكن أي منهما من السيطرة على الآخر بشكل دائم لقرون.
الإصلاح البروتستانتي أخيراً أعطى ملوك أوروبا مثل هنري الثامن التبرير الديني لتوحيد الكنيسة والدولة تحت سلطتهم بدلاً من سلطة الفاتيكان. في الواقع، فضل البروتستانت الفصل بين الكنيسة والدولة طالما كانت الكنيسة المعنية هي الكنيسة الكاثوليكية ؛ في 1534 عندما أنفصل الملك الإنجليزي هنري الثامن عن الفاتيكان، وجعل نفسه رئيساً للكنيسة الإنجليزية المعلنة حديثاً. في أحد وجوه التاريخ، التي قدمتها أجيال من المؤرخين البروتستانت، هذا كان أنتصاراً للعلمانية. الدولة، كما نصها الملك هنري، قد حررت نفسها من الكنيسة، على النحو المنصوص عليه من قبل البابا في روما.
ولكن يبدو أن لا أحد يدعو لهنري ثامن مسلم لإعادة تشكيل المجتمع المسلم ــ ولا يكمن السبب فقط في ميل الملك لقطع الرؤوس والدكتاتورية.وإنما لأن هنري قد حول انكلترا الى دولة ثيوقراطية، فقد أعلن نفسه القائد السياسي والديني الأعلى للدولة وهو دور مشابه جداً لما يتمتع به الخليفة في نظر المسلمين (لليوم، تتنافس الملكة اليزابيث مع الدالاي لاما للحصول على لقب الحكم الثيوقراطي المحبب في العالم).
توحيد الدولة والكنيسة في ظل ملوك البروتستانتية كالملك هنري ساعد فقط في التمهيد للعلمانية الحديثة لأن هؤلاء الحكام كانوا أكثر جدية حول سلطتهم الجديدة من التدين والكهنوت. حيث أرادوا لبلدانهم أن تصبح غنية وقوية. في مراكزهم الجديدة كسلطة دينية، تمكنوا من إخضاع وحرف القوانين الدينية لأهداف دنيوية. وكلما أصبحت الدول الأوروبية أكثر ثراءً وأستقراراً على مر القرون، أصبحت الثقافة السياسية أكثر ليبرالية وديمقراطية. وحافظ الدين في أيدي الملوك البروتستانت على السلام. وقيدت الملكة إليزابيث ببرلمان منتخب وأجيال من القوانين العامة الأنكليزية، فلن تتمكن من استخدام سلطتها كعاهلة أنجليكانية، وليس لها أستعباد سجناء الحرب كما فعلت الدولة الإسلامية مؤخراً. بأختصار، فإنها ليست الخلافة المنشودة في الدولة الإسلامية. تطورت العلاقة بين الدولة والكنيسة بشكل مختلف في البلدان التي بقيت كاثوليكية، مثل فرنسا أو إيطاليا. بدلاً من أن يصبحوا قادة كنائس جديدة، سعى القادة الثوريين اللاحقين مثل روبسبير في فرنسا أو غاريبالدي في إيطاليا إلى إلغاء المؤسسات الكاثوليكية تماماً. الثورة الفرنسية، على سبيل المثال، صادرت أراضي الكنيسة، وحظرت الرهبنة، وأجبرت الكهنة أن يحلفوا على الدستور المدني (وطبعاً، كل هذا تضمن قطع العديد من الروؤس). البابا وأتباعه ولأسباب مفهومة، أصيبوا بالرعب. وقضى الفاتيكان الجزء الأكبر من القرن ال19 على هامش السياسية، رافضاً التعامل مع الأنظمة العلمانية في أوروبا.
في بدايات القرن العشرين، أدركت الكنيسة الكاثوليكية متأخرة أن قبول سيادة الدولة الجديدة وحتى بعض ايديولوجيتها الليبرالية كان ثمن بقائها في الساحة. وباتفاق الفاتيكان مع الدولة الإيطالية عام 1929، تمكن المؤمنين أخيراً من التصويت في الانتخابات المدنية دون الخوف من اللعن والإدانة. ما معناه، أنه بتنازلات كهذه تمكنت الدولة والكنيسة من الالتقاء في منتصف الطريق. كما أن الحكومات في فرنسا وإيطاليا وضعت أسس الوضع الحالي من خلال السماح للفاتيكان باستعادة بعض قوته السابقة وممتلكاته.
تاريخ تطور العلمانية في البلدان البروتستانتية والكاثوليكية بمثابة التذكير بأن السياسة والظروف تشكل الدين وتصيغ تطبيقه في المجتمع، أكثر بكثير مما يفعل اللاهوت المجرد. وهذه القوى يمكنها تغيير العقيدة بشكل كبير حتى في حالة بقاء النصوص نفسها. فالإدعاء بأن المسيحية بطبيعتها علمانية وإنسانية لا يكاد يصمد أمام تاريخ 250 من البابوات الذين قرأوا نفس الكتاب المقدس الذي يقرأه البابا فرنسيس وخرجوا باستنتاجات مختلفة تماماً حول دور الكنيسة في المجتمع.
ولكن إذا كان الفصل بين الدولة والكنيسة يدور حول السياسة وليس اللاهوت، فيبدو أن السؤال الأهم هنا هو أي من السياسيين السابقين من التاريخ الغربي يعرض أفضل نموذج للعالم الأسلامي. هل الحل هو روبسبير وليس هنري ثامن مسلم؟
من غير المرجح، الجواب الحقيقي هو أنه لا يوجد مسار تاريخي واحد مثبت وواضح للعلمانية الحديثة. لنأخذ مثالاً واضحاً، النهج الثوري الفرنسي في التعامل مع الكنيسة كان بمثابة المثال لأحد العلمانيين في العالم الإسلامي، وهو التركي مصطفى كمال أتاتورك. أتاتورك عامل المؤسسة الدينية الإسلامية كعدو ــ تماماً كما كان الفاتيكان بالنسبة للثورة الفرنسيةــ ولا بد من هزيمتها. صادر أموال المؤسسات الدينية وحظر الجماعات والقوانين الدينية. وكان ملتزماً جداً بتعليم وجهة نظر معادية للكاثوليكية من التاريخ الأوروبي ــ مستوحاةً من إجحاف وتحامل البروتستانتية على الكاثوليكية وعلمانية الثورة الفرنسية ــ حتى اليوم، عدداً مفاجئ من خريجي المدارس الثانوية التركية أخبروني بأنهم يعتقدون بأن البروتستانتية هي المسيحية الحديثة وأن الكاثوليكية هي المتخلفة.
ولكن أي شخص كان يتابع الأخبار من تركيا على مدى العقد الماضي أو نحو ذلك يعلم أن قرن على نهج أتاتورك لم ينجح تماماً. بقيت السياسة التركية منقسمة بشكل مرير بين أولئك الذين يعتقدون أن البلد علماني جداً و أولئك الذين يشتكون من أنه لم يعد علماني بما فيه الكفاية.
إذا لم يتمكن حتى أتاتورك من فعلها، فهل هناك أي أمل لخلق توافق في الآراء حول دور الدين في الحياة العامة كافي لتمهيد طريق الديمقراطية الليبرالية في البلدان ذات الأغلبية الإسلامية؟ أو على الأقل كافي للحد من أعمال العنف التي شهدناها في عام 2014؟ أنظر بتفائل للعام الجديد، درس واحد من صراع أمتد لآلاف السنين بين الدولة والكنيسة في أوروبا هو أنه حتى من دون اتباع أي نموذج معين، يمكن للبلدان الإسلامية أن تنجح في شق طريقها بنفسها، مثلما تدبر الفاتيكان فعل ذلك، حتى دون حاجتها لمارتن لوثر كاثوليكي.
المصدر: هنا