بعد أن كان مقرراً إنعقاده في الفترة من 18-24 تموز/ يوليو، جاءت محاولة الإنقلاب العسكري الفاشلة في الخامس عشر من تموز لتعرقل فعاليات هذا المعرض وفعاليات الدورة الأربعين لمنظمة اليونسكو في إسطنبول. وبعد أيامٍ عمت فيها التظاهرات شوارع المدينة وتزينت أغلب المباني الضخمة فيها – وحتى دور وشقق المواطنين – بالأعلام التركية وإنتشرت عبارة “الحكم للشعب” على كافة الجسور ولوحات الإعلانات الكبيرة وتلك الموجودة في محطات النقل العام، تقرر تأجيل المعرض للفترة من 25-31 تموز. زرت المعرض في البداية يوم 24 تموز معتقداً بأنه اليوم الأخير له، لأقابل صاحب دار القمر السورية للنشر المختصة بكتب الأطفال والوسائل التعليمية وأكتشف بأن المعرض قد أجل فعالياته.
في يوم 29 تموز، قررت زيارة المعرض من جديد والكائن في موقع المعارض قرب مركز التجارة العالمي القريب من مطار أتاتورك. وما أن دخلت إلى المعرض المنظم بشكل جيد حتى لاحظت الحضور الكثيف لدور النشر الدينية فضلاً عن مكتبات الأطفال والوسائل التعليمية للصغار والتي لا يغيب عنها التأثير الديني هي الأخرى. ويبدو أن للواقع السياسي في المنطقة تأثيره على الحضور في المعرض، حيث غابت أغلب الدور المصرية المهمة عن المعرض بسبب العلاقات المتأزمة بين البلدين بسبب الإطاحة بمحمد مرسي، ومع ذلك سجلت 28 دار نشر مصرية مشاركتها في المعرض. وبإستثناء بعض الدور العامة التي توفر عناوين روائية وفكرية وتاريخية ذات طابع علماني فقد كانت الدور الدينية الصفة الغالبة على المشاركين من لبنان وسوريا، حيث شاركت 24 داراً لكلٍ من البلدين. وشملت قائمة الدول المشاركة الأخرى العراق، والبحرين، والأردن، والإمارات العربية المتحدة، وفلسطين، والسعودية، والكويت، واليمن، وإيران، وتركيا، وإيطاليا.
شاركت تركيا بـ 24 دار نشر ومنفذ للبيع أو الإعلانات، غلبت على الكثير منها المطبوعات الدينية، وتلك التي تركز على التاريخ العثماني. ففي إحدى الدور، وجدت كتب مترجمة للعربية تتكلم عن التاريخ العثماني، والسلاطين وما هو غير معروف عنهم، وكتب بعناوين “العثمانيون في ثلاث قارات”، و”إعادة إستكشاف العثمانيين”، وروايات عن الحريم وغيرها. وفي مكتبات أخرى كانت هنالك كتب مثيرة للجدل وأغلبها تبدو ذات طابع سلفي نذكر منها: عقيدة السلف الصالح، التربية الجهادية في ضوء الكتاب والسنة، ورياض الصالحين، وأحكام عصاة المؤمنين، وقاعدة أهل السنة والجماعة في جمع كلمة المسلمين، والبراهين القطعية وتطبيق الأحكام الشرعية، وكتب باللغة التركية، مع كتابٍ واحد بعنوان “شبهات تنظيم الدولة الإسلامية وأنصاره”. وفي دارٍ أخرى نجد عناوين كتب مثيرة للجدل أيضاً، منها ما يمجد أعمال رجال دين متطرفين، مثل العناوين التالية: مدرستا العلامتين إبن تيمية والسبكي في القرن الثامن الهجري ببلاد الشام، والشهيد مروان حديد ومنهجه في الدعوة والجهاد، وهو شخصية يصفها الكتاب بأنها “قد كانت شديدة الخطر على النظام السوري”. وفي دارٍ أخرى نجد “مجموعة رسائل الإمام البنا”، و”المهدي المنتظر في روايات أهل السنة والشيعة الإمامية”. كما كانت هنالك إعلانات كثيرة عن كتاب من تأليف جيار حاجي أوغلو بعنوان “معالجة نظرية التطور والدعوة إلى الحقيقة” ويفترض الكاتب بأنه يحاول ملء الفراغ الذي يخلقه كون هذه النظرية “خاطئة”. وفي مكتبات أخرى نجد مجلات دينية ذات طابع سلفي وصور لحسن البنا، فضلا عن كتب عن تاريخ بني عثمان والفتح عام 1453 وغيرها من كتب عن السلاطين. وفي جناحٍ آخر كان هناك تركيز على الأقصى ومنشورات باللغة التركية عن القدس “أورشليم”. ومن العناوين الغريبة “الغزو الفكري والتيارات المعادية للإسلام” يتكلم فيه الأستاذ عبد الستار فتح الله عن تشخيصه “للوباء” وتعريته لجذور “الداء” الذي أصاب الأجيال المعاصرة بسبب المفاهيم الأوروبية ويروج للعودة للقرآن لتستأنف “الأمة” رسالتها في الحياة مرة أخرى. وبهذا كان التأثير الديني بارزاً على الدور التركية التي تنشر بالعربية وكأن هذه اللغة قد إحتكرها الدين بالنسبة لكل من لا ينطق بها، هذا طبعاً بإستثناء وجود بعض كتب جبران خليل جبران المترجمة للتركية.
أما مصر، التي شاركت بـ 28 داراً، فقد كان هنالك تنوعاً في العناوين، وهناك كتب سياسية تشمل الأوضاع الراهنة في الشرق الأوسط، ومذكرات توني بلير، وجورج بوش، وهيلاري كلنتون، وكتباً لنعوم تشومسكي، وغيرها الكثير عن داعش والرايات السود، وحروب الإمبراطوريات، و”داعش السكين التي تذبح الإسلام”. كما كانت هنالك كتب “في أصول التاريخ العثماني”، وكتاب “رؤية للسلام العالمي” بقلم رجب طيب أردوغان. ولم تغب بالتأكيد الروايات لكبار المؤلفين المصريين المعاصرين والكلاسيكيين، فضلاً عن كتب محمد حسنين هيكل في السياسة.
أما العراق، فقد شارك بـ 4 دور نشر، منها دار من أربيل، وأخرى للوقف السني. وكانت المشاركة التي تضم كتباً منوعة من نصيب دار المدى التي وفرت عناوين ممتازة في الأدب والتاريخ والسياسة. ومن كتب ديوان الوقف السني: “ظاهرة الغلو والتطرف وأثرها في المجتمع” و”أحاديث حقوق الفرد والمجتمع في الكتب الستة”. فيما شملت بعض العناوين في دار “التفسير” الكردية ما يلي: “كيف تدخل في الإسلام”، و”إجحاف بحق المجاهد صلاح الدين الأيوبي”، و”نقد كتاب الرسول للمستشرق ر. ف. يودلي”، و”هولير حبيبتي”، و”حتى لا ننسى أربيل”، و”الأمن في بغداد في العصر العباسي الأول”، وبعض العناوين التي يبدو وكأنها محاولات للنقد الديني مثل: لا قتل للمرتد المفسد في القرآن، ولا رجم في القرآن. أما دار الرافدين المحسوبة على لبنان في قائمة المعرض، فقد شملت عناوينها الكثير من الكتب التاريخية عن العراق القديم، والأقليات العرقية والدينية، فضلا عن الروايات السريانية للتاريخ، فشكلت تنوعاً مغايراً للجو السائد في المعرض، ومن بين العناوين البارزة: كتب الباحث سعد سلوم، المدافع عن حقوق الأقليات في العراق، مثل “المسيحيون في العراق، الأقليات في العراق، السياسات والإثنيات في العراق، الإيزيديون في العراق، الوحدة في التنوع، ومائة وهم عن الأقليات في العراق”. ولم تغب كتب علي الوردي عن المعروضات، بالإضافة إلى كتب عن “إيديولوجيا التوحش: دراسة في تاريخ الإرهاب”، وكتب تاريخ نصارى العراق، وجوهر المسيحية، والإسلام والمسيحية، والتشيع في بلاد فارس، والإسلام المبكر في التواريخ السريانية، ومؤرخون سريان محدثون. وتبرز النوستالجيا في منشورات الدار من خلال كتابي: النوارس المهاجرة: هجرة مسيحيي العراق لسهيل قاشا، وآخر اليهود في بغداد: ذكريات وطن مفقود لنسيم رجوان. في النهاية يمكن القول بأن المشاركة العراقية كانت واسعة وتشمل كتباً قيمة في جوانب مختلفة ولم يهمين لونٌ ما على ما سواه من موضوعات.
أما لبنان، الذي شارك بـ 24 دار نشر، بعضها دينية، فقد وفر تنوعاً كبيراً في العناوين هو الآخر. ففي مركز دراسات الوحدة العربية، نجد عناوين قيمة وكثيرة منها “داعش إلى أين؟ جهاديو ما بعد القاعدة” و”الشرق الأوسط الجديد: الإحتجاج والثورة والفوضى في الوطن العربي” بقلم الدكتور فواز جرجس، وكتاب “متاهة الحاكمية: أخطاء الجهاديين في فهم إبن تيمية” للدكتور هاني نسيرة. وشملت بعض العناوين أطروحات دكتوراه منها “النظام السياسي التركي في عهد حزب العدالة والتنمية 2002-2014” للدكتورة رنا عبد العزيز الحماش، وكانت هناك عشرات العناوين في الفلسفة “الإشتراكية والليبرالية الجديدة”، والإقتصاد، وعلم الإجتماع، ونظريات الترجمة. ولم تغب السياسة، وقضايا المرأة، والهوية، ومؤسسات الدولة وإخفاقها عن عناوين الدار. ومن الكتب في دورٍ لبنانية أخرى، نجد تركيزاً على تركيا، من خلال عناوين مثل: “تركيا بين تهديدات الداخل ورهانات الخارج”، و”عودة تركيا إلى الشرق”، و”رجب طيب أردوغان: قصة زعيم”، و”المكانة الإقليمية لتركيا حتى عام 2020″، فضلاً عن كتاب بعنوان “فوبيا داعش وأخواتها” بقلم غوين داير.
ومن بين تنوع العناوين في الدور الأردنية المشاركة، وعلى الرغم من هيمنة العناوين الدينية، أفزعني العثور على كتب للأطفال تمجد العنف أو الشخصيات والموضوعات المثيرة للجدل وغير المناسبة لأعمار الأطفال، فوجدت عناوين من قبيل: شيخ المجاهدين: عز الدين القسام، صلاح الدين الأيوبي محرر القدس، وسلطان فلسطين: عبد الحميد الثاني، وإنتفاضة الأقصى، وعمر يفتح القدس، والرملة مدينة الخلفاء والقادة. ولم تكن هذه الدار الوحيدة التي تكرس الدين في نفوس الأطفال، بل وجدت بأن القصص التي كان جيلنا معتاداً على قراءتها غائبة تقريباً الآن وهذا ما يشير إلى خطورة القادم بالنسبة للجيل الجديد في الشرق الأوسط. ومن العناوين الأخرى التي نشرتها دور أردنية: التحول التركي تجاه المنطقة العربية، والإسلاميون وتحديات الحكم في أعقاب الثورات العربية، ومشاريع التغيير في المنطقة العربية ومستقبلها.
أما سوريا، التي شاركت بجناح لكتابة أول مصحف بالأبرة، والعديد من الدور الدينية، فقد برزت بعض المكتبات بأسماء نهرينية خالصة مثل داري نينوى وتموز، ووفرت دور أخرى عناوين متنوعة فكرية وعلمانية، فضلاً عن كتب التاريخ والأدب المعاصر، وروايات أمين معلوف. ومن بين العناوين التاريخية: الأسطورة السومرية، أكد وأور الثالثة من النشأة حتى السقوط، وتداول السلطة في العراق القديم، ولغز طاووس ملك، والبكاء على تموز عند ضريح الولي ابو حصيرة، والتوراة والنقد الجديد. وكانت العناوين الخاصة بالعراق بارزة بشكل كبير، لأن الكتاب العراقيين يفضلون النشر في سوريا على ما يبدو.
أما السعودية، التي شاركت بـ 17 دار نشر، فقد كانت في معظمها دور نشر إسلامية، وكانت هنالك دار نشر توزع الكتب مجاناً من بينها كتاب “إركب معنا” لمحمد العريفي، وبعض العناوين الغريبة مثل “الوسوسة: رؤية شرعية وطبية ودراسة ميدانية” بقلم الدكتور عبد الرزاق محمود، أستاذ الطب النفسي في كلية الطب بجامعة الملك سعود. ويبدو واضحاً بأنه يعامل موضوعاً طبياً بطريقة دينية بعيدة عن مفاهيم العلم الحديث. وتنوعت العناوين الأدبية في دور النشر الإماراتية والبحرينية والكويتية، فيما ركز جناح “الجزيرة مباشر” على “الإستراتيجية الإيرانية في الخليج العربي”، و”المرتزقة الجدد: الجيوش الخاصة وما تعنيه للنظام الدولي”، و”حزب العدالة والتنمية التركي: دراسة في الفكرة والتجربة”، و”تنظيم الدولة: دراسة تحليلية في بنية الخطاب” وجميعها صادرة عن مركز صناعة الفكر للدراسات والأبحاث.
أما الندوات التي شهدها المعرض فقد كانت تركز – في يوم حضوري – على أنشطة وورشات لكتابة السيناريو والإخراج السينمائي، والتسويق عبر مواقع التواصل الإجتماعي، إلا أن اليوم الأول شهد نقاشات عن محاولة الإنقلاب الفاشلة والأحزاب التركية ومستقبل النظام السياسي. وتمحورت نقاشات الأيام الأخرى حول الحالة السورية والأهداف الدولية، والديمقراطية في مصر للمحاضر أيمن نور، فضلاً عن نقاشات عن الدولة العثمانية، والمعماري التركي سنان، ومدرسة الصحابة لرضا الحديثي، والثقافة السطحية لسلمان العودة، ومنظمة “كير” الأميركية لنهاد عوض، وأثر المقيمين العرب في نشر اللغة العربية، وفكرة تدريس اللغة العربية في المدارس التركية. وبالتالي فقد كان حضور الإسلاميين بارزاً أيضاً في نشاطات المعرض، بالإضافة إلى زيارة مفاجئة للقرضاوي للمعرض بعد مغادرتي له.
ختاماً، ومع توفر العديد من العناوين التي تمنح الجميع فرصة للعثور على كتب تلائم ذائقتهم وإهتماماتهم، إلا أن الجو العام يوحي بهيمنة دور النشر الإسلامية على الساحة، وتميز الحضور التركي بكونه من الإسلاميين حصراً، لكأن اللغة العربية لا تحتوي على ما يثير الإهتمام عدا الموضوع الديني، كما غابت الكتب العلمية – عدا البرمجيات والعلوم الإنسانية – بشكلٍ ملحوظ، مع تركيز على كتاب يعارض نظرية التطور لداروين. بإختصار، لم أشعر كشخصٍ علماني بأن المعرض قد كان مكاناً ملائماً لي، عدا بعض الدور المتفرقة وسط بحرٍ من مدٍ ديني جارف.