يوصف التعاطف غالباً بأنه المشاعر والانفعالات الطيبة والمهارات التي تتسم باللين. إن التعاطف يمكن أن يكون قوة علمانية تساهم في التحولات الاجتماعية والسياسية. يضع الفيلسوف رومان كرزنارك شرط التعاطف مع شرط العقلانية والتفكير النقدي كشيئان يعملان وفق مبدأ القفل والمفتاح لتحقيق السلام العالمي والمزيد من الحرية وحقوق الانسان والازدهار الانساني.
في واحدة من أكبر الاجتماعات التي حصلت بين غرباء في تاريخ بريطانيا هي عملية الاخلاء بين عامي 1939-1944 خلال الحرب العالمية الثانية، حيث تم اخلاء ما بين مليون إلى مليوني طفل من المدن والبلدات الرئيسية الى المناطق الريفية هرباً من الألمان وقنابلهم. حدث ذلك الإخلاء لكي يواصل التلاميذ تعليمهم، بدلاً من وضعهم في مخيمات اللجوء، وكانوا يُقيمون في المنازل الخاصة، والعديد منهم أقاموا مع أُسر بديلة لسنوات.
في الأونة الأخيرة تم التركيز في المناقشات العامة على الاضطراب العاطفي والصدمات التي تسبب بها الإخلاء للاطفال.حيث تم فصل الاطفال عن أُسرهم وعاش الكثير منهم في أماكن تحملوا فيها سوء المعاملة في بعض الأحيان. لكن مثل هذه القضايا، على أهميتها، تُخفي جانباً حيوياً من هذا الاخلاء، فلأول مرة تعرض الأُسر الريفية الرغيدة العيش نسبياً المساعدة للعوائل الفقيرة القادمة من المناطق الحضرية الفقيرة.
فقد امتلأت فجأة مئات الالاف من المنازل في المدن والقرى الريفية الصغيرة بالأطفال النحيفين من الأحياء الفقيرة في لندن وليفربول وغيرها، أولئك الذين يعانون من سوء التغذية وأمراض الكساح وانتشار القمل، ويفتقرون للاحذية والملابس الداخلية اللائقة. فوفقاً لمقال افتتاحية الايكونومست عام 1943 فإن الأمة البريطانية صُدمت من العوز الشديد الذي تواجهه غرف المعيشة في الأقاليم، وأن الاخلاء الكبير كشف البقع السوداء لحياة الشعب الاجتماعية.
من النتائج غير المسبوقة لذلك الإخلاء الكبير، هو انفجار غير مسبوق في الفهم التعاطفي الشامل للبريطانيين، من خلال تمكين سكان الريف من الاطلاع على حياة الفقراء في المناطق الحضرية. كانت الاستجابة موجة ملحوظة من العمل العام. حيث تمت كتابة رسائل الى التايمز، ضغط من منظمات الاتحاد الوطني للمعاهد النسائية لأجل إتباع سياسة جديدة لصحة الطفل، يدعو بعض أعضاء البرلمان لعمليات إصلاح بهذا الجانب.
الامر الاكثر استثنائية هو استجابة الحكومة بشكل فوري تقريباً لأحكام رعاية الأطفال، وكان هذا امراً مذهلاً في زمن التقشف والحرب وقلة الموارد. تم رفع مستوى الوجبات المدرسية وقدمت وجبات من الحليب والفيتامينات الرخيصة للأطفال والأمهات الحوامل. في بداية فترة الأربعينيات قُدمت تشريعات جديدة لضمان تحسين الصحة العامة والتغذية والتعليم للأطفال، على عكس عقود من عدم كفاية الرعاية الاجتماعية المتجذرة في القوانين التي سُنت لصالح الفقراء في القرن التاسع عشر. وتواترت تلك التشريعات أكثر بعد نهاية الحرب.
الاثر كان كبيراً لدرجة أن المؤرخ AJP تايلور خلُص الى أن “الإخلاء كان في حد ذاته نظام رعاية مستتر” وأشار بسخرية الى “أن سلاح الجو الألماني كان مُبشراً قوياً لدولة الرفاهية”.
إن القدرة التخيلية التي يتخذها المرء من خلال النظر الى حذاء مهترئ لشخص أخر وفهم مشاعره وخبراته والتعاطف معه يبدو أمر جيداً. إن المهارات الناعمة والتعاطف تبدو أكثر أهمية في الشؤون الخاصة من الشؤون العامة، لكن قصة الاخلاء الكبير فتحت عقولنا الى احتمال آخر؛ أن التعاطف يمكن أن يكون طاقة قوية للتحول الاجتماعي والسياسي.
كان ماركس يقول أن الصراع بين الطبقات هو المحرك الأساسي للتاريخ البشري، أما دارون فيعتقد أنه كان الكفاح التطوري للبقاء على قيد الحياة، وزعم آخرون أن أهم قوة للتغيير هي صراع الحضارات وصعود الايديولوجيات والحركات السياسية الدينية، او التقدّم في المجال التكنولوجي. هناك عدد متزايد من المفكرين بدؤوا يُدركون أن التعاطف هو العنصر المفقود والضروري في هذه الروايات التقليدية.
حيث يقول الباحث الاجتماعي جيرمي ريفكين:”حدوث تطور غير عادي في الوعي التعاطفي هي القصة الأساسية والجوهرية في التاريخ البشري”. اما ستيفن بنكر فيحكي حكاية مماثلة في كتابه الضخم “أفضل طباعنا الملائكية”حيث يُشير الى أن “التوّسع في التعاطف” كان واحداً من الأسباب الرئيسية لانخفاض ملحوظ في العنف على مدى نصف الألفية الماضية-بما في ذلك عمليات التعذيب بأوامر قضائية، والعبودية واضطهاد الأقليات.
إن قوة التعاطف-رغم إهمالها احياناً- هي القوة العلمانية لإحداث التغيير الاجتماعي والسياسي عبر التاريخ. لم يكن التعاطف هو القصة كلها بالتاكيد، إلا أنه كان عاملاً حاسماً في النضال من أجل حقوق للانسان والعدالة الاجتماعية، على الأقل منذ القرن الثامن عشر، وما يزال المحرك الرئيس للتغيير التدريجي اليوم.
من المهم أن نعترف، أن هناك الكثير من المشككين في مسألة التعاطف ودورها. فقد كانت لي محادثة مع الفيلسوف بيتر سنجر حول كتابه الأخير “ماهو أكثر شيء جيد يمكنك القيام به؟” حيث يقول أن “المنطق وليس التعاطف” هو ما يجب أن يكون أساس سلوكنا الأخلاقي، وعندما تسألني لماذا؟ سأجيب: لأن التعاطف يُركز اهتمامنا على حالات فردية او شخص قريب منا، إنه يجعلنا نهمل الغرباء البعيدين عنا الذين يصعب اجراء اتصال شخصي او عاطفي بهم. لذلك فإن التعاطف يجعلنا نهتم لسيدة كبيرة بالعمر لديها كسر بسيط بساقها اكثر من آلاف الضحايا الذين يتضورون جوعا في جنوب الصحراء الافريقية.
اما عالم النفس في جامعة ييل بول بلوم فيذهب الى أكثر مما ذهب له سنجر إذ يقول:”عقلانياً، فحتى التحليلات المضادة للتعاطف والالتزام الأخلاقي هي أفضل دليل على التخطيط للمستقبل من وجع البطن الذي يأتينا من التعاطف.”
إن الانتقادات للتعاطف هي عاطفية للغاية، فالفردية وأخذ الأمور بظاهرها هي سمة شخصية في نهاية المطاف، وليس لها مكان جدّي في الفكر الأخلاقي الذي يسعى لعالم اكثر عدلاً واكثر اخلاقاً.
أعتقد أن مصدر خطأهم هو انصباب اهتمامهم على نوع واحد من التعاطف وهو ما يطلق عليه التعاطف الوجداني، وهذا النوع يشير الى تبادل المشاعر مع الآخرين كأن ترى الحزن على وجه طفل او أن تجفل من رؤية شخص حُصرت اصابعه بين الباب والحائط.
لكن هناك نوع أقل انفعالية من التعاطف، ويسمى التعاطف المعرفي، والذي يقوم على أخذ وجهة النظر لما يكون عليه شخص آخر والتعاطف معه ،والتعامل مع أفكاره ومعتقداته ومخاوفه وخبراته ووجهات نظره، لذلك عندما ترى رجل بلا مأوى في الشارع، فتخيل نفسك ترتدي حذاءه وملابسه، تخيل أنك تنام مثله في الشارع أثناء ليلة شتائية باردة. كلا النوعين من التعاطف يتطوران بشكل طبيعي في معظم الاطفال في سن الثالثة، وتجعلك تتحفز للعمل نيابة عن الاخرين، لكن عندما يتعلق الأمر بالتحول الاجتماعي والسياسي فإن التعاطف المعرفي هو ما يصنع الفارق.
إن أكثر ما يوجّه للنقاد هو أن يكونوا عُميانً لدروس التاريخ، حيث يبدو أنهم غير مستعدين للاعتراف أن التعاطف-بالاخص التعاطف المعرفي- قد برز في كثير من الأحيان -وعلى نطاق جماعي- لتغيير معالم المجتمع وتعميق ثقافة الديمقراطية.
ما هو الدليل؟ نحن جميعاً سمعنا بالمذابح الجماعية الناتجة من التعاطف، من مذابح الحروب الصليبية الى المحرقة النازية الى الابادات الجماعية في رواندا. ما كنا لا نسمع عنه هي اللحظات المزدهرة من التعاطف الجماعي الإيجابي. الإخلاء الكبير هو واحد منها.
دليل آخر هو الجهد المتعمد من أجل التغيير السياسي من خلال تسخير قوة التعاطف، كالحركات ضد الرق وتجارة العبيد في أواخر القرن الثامن عشر في بريطانيا. ففي سنوات 1780 وما بعدها كانت بريطانيا الدولة الرئيسية لتجارة العبيد حيث استعبدت أكثر من نصف مليون من العبيد الأفارقة حتى الموت في مزارع قصب السكر المملوكة لبريطانيا في منطقة البحر الكاريبي.
كانت البلاد تعتمد على العبودية في ذلك الوقت مثلما نعتمد اليوم على النفط. ولكن حدث بعد ذلك شيء مذهل، حيث صعدت أولى حركات حقوق الانسان الكبرى بقيادة الشمّاس الانجليكاني توماس كلاركسون، والذي ركزّت على الظلم الكبير للعبودية.
ووفقاً للمؤرخ آدم هوشايلد في كتابه “دفن السلاسل”، فإن الحملة الأصلية كانت تسعى لإلغاء عقوبة الإعدام من خلال الاعتماد على التعاطف الإنساني لا النصوص المقدسة. كان الهدف هو تشغيل التعاطف المعرفي لدى الناس.
كانت هناك سفينة للعبيد تُدعى بروكس تضع ملصقاً أنها تحتوي على 500 من العبيد على متنها، لكن بعد ذلك تم إجراء أحاديث مع اولئك المٌستعبدين ووصفوا ما مرّوا به بتفاصيل دقيقة من تعرضهم للجلد أو تعليقهم من أقدامهم برافعات وغيره من أساليب التعذيب الوحشية. ثم جرت بعد ذلك حملة ناجحة للغاية جعلت آلاف الناس يتعاطفون مع المصاعب التي يواجهها العبيد، مما أثار احتجاجات علنية وجرت أول مقاطعة لتجارة السكّر الناتجة من مزارع العبيد. إن التعاطف شّكل عاملاً مهماً يضاف الى عوامل ثورات العبيد في إلغاء تجارة الرقيق عام 1807 ثم انهاء العبودية نفسها بعد ذلك.
كانت هذه الأمثلة يجب أن تكون حاضرة لبيتر سنجر وغيره قبل أن يفكروا في قضية التعاطف. إن التعاطف يفتح باب القلق الأخلاقي لدينا، حيث يجعلنا نهتم بمحن ومعاناة الغرباء خارج مجتمعنا المحلي ويدفعنا للتعامل مع البشر بقيم متساوية مع أنفسنا، ثم بعد ذلك نعود لاستخدام العقلانية في تشكيل الآليات القانونية والسياسية العامة بناءاً على هذا الاعتبار الأخلاقي.
هذا النمط شهدناه مراراً وتكراراً في نصف القرن الماضي حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة، ومن أجل حقوق المثليين وحقوق السكان الأصليين وحقوق المعاقين.
ببساطة فإن التعاطف والعقلانية تعملان جنباً الى جنب لخلق أسس حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية، فهما ليسا ضدّين في الواقع بل هما من أفضل الأصدقاء، ويؤديان عمل ديمقراطي مزدوج، إنهما مثل السكين والشوكة، القفل والمفتاح يعملان أفضل عندما يكونان معًا.
يتعيّن علينا أن نفكّر فيما يبدو عليه العالم في حال غياب التعاطف. فعلى مرّ التاريخ البشري فإن عدم أخذ وجهة نظر الاخر هو أساس جذور التعصّب والاستغلال والعنف. فالاستعمار البريطاني في أستراليا -على سبيل المثال- تجاهل الى حد كبير وجهات نظر السكان الأصليين، فالبريطانيون يعتقدون أنهم بنوا حضارة أما السكان الأصليين فيعتقدون أنه غزو.
وفي الاونة الاخيرة، ادّعت الدول الغربية أنها تشارك في حرب العراق وأفغانستان ليبنوا من خلالها “الديمقراطية” في المنطقة والعمل من أجل تحقيق الصالح العام، لكن لم يكن هذا حال السكان المحليين الذي اعتبر الكثير منهم أن الغربيين غزاة بدلاً من أن يكونوا محررين. هذا هو السبب المهم الذي يجب أن نعتمد فيه على التعاطف المعرفي، او ما اشار اليه آدم سمث في كتابه “نظرية المشاعر الأخلاقية” بأنها قدرتنا على تبادل الأماكن مع تصورات المتألم”
ماذا يعني وضع التعاطف في صدر استراتيجيات التغيير الاجتماعي والسياسي اليوم؟ إنها تُمثّل تمهيداً لمبادرات بناء السلام وزيادة التعاون بين الدول وداخل المجموعة.
في نهاية المطاف، أعتقد أن خلق رؤية جديدة للسياسات التقدمية من خلال المطالبة بتدريس مهارات التعاطف في النظام المدرسي، ورفع ذلك الى مستوى المواضيع المهم كالرياضيات والجغرافيا. هناك أدلة قوية على إمكانية تدريس التعاطف، فواحد من افضل البرامج هو برنامج جذور التعاطف، والذي بدأ في كندا منذ منتصف التسعينيات والذي انتشر الآن في نصف دزينة من الدول “بما في ذلك ألمانيا وايرلندا واسكتلندا” حيث وصلت لنصف مليون طفل.
المهمة الكبيرة التي نواجهها هي خلق تحول لدى الأجيال، من خلال اعادة التوازن بالتركيز على القيم الجماعية بدلاً من التركيز على القيم الفردية، وأن تعليم التعاطف في المدارس هي واحدة من أفضل الوسائل لتحقيق ذلك.
إن مفكرين مثل بيتر سنجر وبول بلوم على حق بشأن التركيز على مسائل التفكير العقلاني، فبلا شك أن التفكير العقلاني له القدرة على قطع طريق الإيمان بالخرافات والتفكير الغامض، وهو مرساة الأخلاق في المبادئ العامة، لكن دعونا لا ننسى أنه يكتسب قوة أكثر عندما يشكّل نسيجاً مع التعاطف. إذا فشلنا في بذل المزيد من الجهد “للمشي في احذية الآخرين” فلدينا فرصة ضئيلة لإحداث تغيير في الرؤية الإنسانية ولا يمكن أن تزدهر تلك الرؤية.
المصدر: هنا