أنا أتذكر جيداً اللحظة التي تبخّر فيها يقيني حول المُستقبل اللامع أول مرة، عندما هُزّت ثقتي بالترياق العام للتقدُّم التقني. كان ذلك في 2007م، في ليلة دافئة من شهر أيلول – سبتمبر في سان فرانسيسكو، عندما كُنت أستريح في غُرفة فندق رخيصة بعد يومين من تغطية قمة “التفرُدية”، اجتماع سنوي للعُلماء، التقنيين، ورجال الأعمال لمُناقشة الزوال المُستقبلي للبشر.
في الرياضيات، “التفرُدية” هي دالة تكتسب قيمة غير محدودة، عادةً على حساب معنى و معقولية مُعادلة. في الفيزياء، المُصطلح عادةً يُشير إلى منطقة من الكثافة اللانهائية والفضاء المُقوس بشكلٍ لا نهائي، شيءٌ أُعتقد بوجودهِ داخل الثقوب السوداء في البداية المُبكرة من الانفجار العظيم. بـ لُغةٍ أُخرى في وادي السيليكون، “التفرُدية” هي حدثٌ قادم لا محالة، يركب البشر فيها موجة مُتسارعة من التقدُّم التقني لخلق فكر اصطناعي مُتفوق بطريقةٍ ما – الفكر الذي يحمل تقلُّبات مُتوّقعة يصنع بشكلٍ انفجاري ابتكارات مُعرقلة، قوية جداً وعميقة لدرجة أن حضارتُنا، جنسنا، ورُبما كوكبُنا بالكامل يتحول بسُرعة إلى حالة يندُر تخيُلها. ليس بعد وقت طويل من وصول “التفرُدية”، ومُناقشة مؤيديها، سيادة البشرية على الأرض ستنتهي. صادفني طيفٌ واسع من الأفكار داخل وحول المؤتمر.
بعض الحضور فاضوا بالحماسة، مُنتظرين وصول آلات نعمة الحُب لحراستهم في يوتوبيا ما بعد الندرة الفردوسية، بينما الآخرون، الأكثر وعياً بالتاريخ، مُرتعبون مما يُمكن للتقنية الجديدة أن تُطلق من شياطين. حتى الذين يُعرفون بكونهم شكّاكين من الحضور أحسّوا أنّ العالم كان يقف على أعتاب انتقالات هائلة مُعتمدةً على التقنية. أي مُحاضرة نموذجية في المؤتمر سوف تُشير على الأقل مرة لبعض المفاهيم الغريبة مثل مُحاكاة العقل الكامل، تحسين الإدراك، الحياة الاصطناعية، الواقع الإفتراضي، تقنية الصغائُر (النانو) الجُزيئية، والكثير مما يحمل سُخرية لامعة للمساومة الأخروية: اصعد على المتن، لا تؤجل، استثمر حالاً، وأنت، أيضاً، قد تكون ضمن المُختارين الذين يصعدون الى السلطة من رماد العالم السابق.
مع بعض المُشهيات النباتية والنبيذ الأحمر في ڤيلا في منطقة خليج سان فرانسيسكو، تحدثتُ مع الملياردير المُغامر الرأسمالي بيتر ثيل «PeterThiel»، الذي خطط لتبني استراتيجية “مُندفعة” للاستثمار في تفرُدية “ايجابية”، والتي من الممكن أن تكون “أكبر ازدهار قد يحصُل،” إذا لم “يُدمر الكوكب بالكامل” أولاً.”
تحدّثتُ مع الباحث في علم الذكاء الصناعي والتعلُّم الذاتي إيلايزر يودكوسكي «Eliezer Yudkowsky» عن مخاوفه بإن العقول الاصطناعية قد، عندما تنشأ، تُدمّر الأرض سريعاً. في نقطة ما، تحوّل المُخترع لـ داعية. راي كورزويل «Ray Kurzweil» ألقى خطاباً بمؤتمرات مُتصلة لمناقشة، من بين أشياء أُخرى، خُططهِ ليُصبح “إنساناً عابراً” (يمتلك صفات لا يمتلُكها الإنسان العادي – إنسان فوقي) «Transhuman»، يتفوق على بُنيته الحيوية الخاصة ليُحقق نوعاً من الحياة الأبدية. كورزويل يعتقد أن هذا مُمكن، وحتى مُرجّح، شريطة أن يعيش فقط ليرى بزوغ “التفرُدية”، الذي كان قد قدّرها في وقتٍ ما في مُنتصف القرن الواحد والعشرين. تحقيقاً لهذه الغاية، قُيل أنه يستهلك نحو 150 مُكملاً من الفيتامينات يومياً.
حضارتُنا التقنية هي لتجنُّب الاضمحلال، الزوال الإنساني بشكلٍ أو بآخر يستحيل تجنبُه.
بعودتي إلى غرفتي في الفندق مُرهقاً الليلة الماضية، استرخيتُ بقراءة مُقتطفات من كتاب قديم، “سوما تكنولوجيا” «Summa Technologiae» (جُملة لاتينية تعني حرفياً خُلاصة التقنية). المؤلف البولندي الراحل ستاينسلاف ليم «Stanislaw Lem» كتبهُ في بدايات الستينيات من القرن الماضي، واضعاً لنفسهِ الهدف الشامخ لصياغة نظير علماني لكتاب “الخُلاصة” «Summa Theologica» (أحد الكتُب الكلاسيكية في تاريخ الفلسفة وأحد الأعمال المؤثرة في الأدب الغربي كتبه ثوماس أكويناس في القرن الثالث عشر)، الموجز الوافي البارز لـ ثوماس أكويناس (توما الأكويني) «Thomas Aquinas» الذي يستكشف أُسس وحدود علم اللاهوت المسيحي. حيث جادل أكويناس عن يقين وجود الخالق، الروح الخالدة، والخلاص الأبدي المُستند على الكتاب المُقدس، عنى ليم نفسهُ مع المُستقبل المجهول للذكاء والتقنية عبر الكون، موجهاً بعقائد العلم الحديث.
لكي يُعيد ليم صياغتهُ بنفسه، الكتاب كان تحقيقاً عن أشواك الأزهار التقنية التي لم تُزهر بعد. ومع ذلك، على الرغم من مُلاحظة ليم اللاحقة أنّ “لا شيء يشيخ بسُرعة كالمُستقبل،” لدهشتي مُعظم تكّهُنات الكُتاب التي تتراوح أعمارها لنحو نصف قرنٍ تقريباً تعلّقت بنفس المواضيع التي صادفتُها أثناء وجودي داخل المؤتمر تماماً، وشعرتُ كأنني جديد. الأكثر دهشة على الإطلاق، خلال المُحادثات المُتلاحقة أكدّتُ شكوكي إنّ من بين أسياد كوننا التقني الذين تجمعوا هُناك في سان فرانسيسكو لـ صياغة مُستقبل “الإنسان العابر”، قليلٌ منهم كانوا مُطلعين على الكتاب أو، في هذه الأمر، مع ليم. شعرتُ كأنني أحد الرُكاب داخل سيارة يستكشف نُقطة عمياء في البؤرة المركزية لنظر السائق.
مثل هذا العمى كان رُبما مفهوماً. في 2007م، فقط أجزاء مُفردة لـ “خُلاصة التقنية” ظهرت باللُغة الإنجليزية، بواسطة ترجمات جُزئية حصلت بشكلٍ مُستقل من الباحث الأدبي بيتر سويرسكي «Peter Swirski» ومطُور برمجيات ألماني يُدعى فرانك برينجل «Frank Prengel». هذه الأجزاء كانت ما قرأتهُ داخل الفُندق. أول ترجمة مُكتملة للإنجليزية، بواسطة الباحثة الإعلامية جوانا زيلينسكا «Joanna Zylinska»، ظهرت فقط في 2013م.
باعتراف ليم الخاص، مُنذ البداية الكتاب كان فشلاً تجارياً ونقدياً وقد “إختفى بدون أثر” حينما ظهر لأول مرة في الطباعة. إصطلاحات ليم والإسلوب الباروكي الكثيف هي جُزئياً لـ إلقاء اللوم – العديد من أروع نقاطه تمّت بأمثال إستطرادية، حكايات، هوامش، وصاغ تعابيره الخاصة لِما كان في ذلك الوقت واضح في المجالات عبر الأفق. في معجم ليم، الواقع الافتراضي كان “فانتوماتيكس،” تقنية الصغائر الجُزيئية كانت “مولكترونيكس،” تعزيز الإدراك كان “سيري بروماتيكس،” و مُحاكاة الطبيعة وخلق حياة اصطناعية كان “ليميتولوجي.” حتى أنه صاغ مُصطلح لتحسين مُحركات البحث، على غرار جوجل: “أريادنولوجي.” الطريق للذكاء الاصطناعي المُتقدم سمّاه “تكنوإيفليوشن” لـ “إنتليكترونكس”.
حتى الآن، كون ليم معروف للأغلبية الكُبرى من مُتحدثي الإنجليزية حول العالم، ذلك بسبب تأليفه لـ “سولاريس” «Solaris»، رواية خيال علمي معروفة في عام 1961م التي أنتجت اثنين من التعديلات السينمائية المشهود لها نقدياً، الأولى كانت بواسطة اندريه تاركوفسكي «Andrei Tarkovsky» والأُخرى بواسطة ستيفن سودربيرغ «Steven Soderbergh». بعدما قيل إنّ كتابة المؤلف غزير الإنتاج خيالاً علمياً فقط سيكون إستخفافاً أحمق. إنّ الكثير من نتاجه يُمكن أن يُصنف على هذا النحو لأن الكثير من تجواله الفكري اقتادهُ إلى الحدود الخارجية من المعرفة.
كان ليم موسوعياً، قارئ شره الذي التهم ليس فقط الكُتب الروحانية الأدبية، ولكن أيضاً وفرة من مجلات البحوث، نشرات الدورات العلمية، والكتب الرائجة بقيادة الباحثين. عبقريتهُ كانت في الوقوف على أكتاف العمالقة العلميين لتقطير جوهر عملهُم، مُطعماً بالبصائر الحلوة والمرة وخلال تجارب ربطت تجريدهم الرياضي لأسرار وجودية عميقة وطبيعة الظروف الإنسانية. لهذا السبب وحده، قراءة ليم هو تعليم وتثقيف بحد ذاته، عن طريق تعلُّم النتائج العميقة للإنجازات مثل تطوير كلود شانون «Claude Shannon» لنظرية المعلومات، عمل آلان تورنج «Alan Turing» على الحوسبة، وإكتشاف جون ڤون نيومان «John von Neumann» لنظرية الألعاب.
الكثير من أفضل أعماله استلزم بناء تحليلات مُستندة على المنطق والذي فيه سيوافق الكُل، بعدها عرض كيف لهذه الفرضيات المعقولة المتفوقة أن تقود الى استنتاجات مُدهشة. والمسُودة الأولى الأساسية لكُل هذا، المنبع من حيث بقايا نتاجاته تدفقت، في “خُلاصة التقنية”.
صميم الكتاب عبارة عن مزيج مُندفع من علم الأحياء التطوري، الديناميكيا الحرارية – دراسة تدفُق الطاقة خلال نظام – وعلم التحكُم الآلي، مجال مُنتشر ابتكر في الأربعينات من القرن الماضي بواسطة نوربرت وينر «Norbert Wiener» يدرُس كيف لـ حلقات التغذية الإرتجاعية أن تضبُط آلياً (تلقائياً) سلوك الآلات والأحياء. مُعتبراً الحضارة الكوكبية بهذه الصورة، افترض ليم مجموعة من الارتجاعات بين استقرار المُجتمع ودرجة تقدمهُ التقني.
في المراحل الأولى، كتب ليم، تطَور التقنية هي عملية مُعززة ذاتياً والتي تُعزز الوازن، القُدرة على إبقاء الإستقرار بمواجهة التغيٌّرات المُستمرة وتزايُد الفوضى. هذا التقدُّم المُتراكم بالتقنية يميل إلى زيادة تقدُّمية في مرونة المُجتمع ضد القوى التخريبية البيئية كـ الأوبئة، المجاعات، الزلازل، وضربات الكويكبات. يؤدي التقدُّم الأكثر إلى حمايةٍ أكثر، والتي تُروّج إلى بقاء أكثر تقدُّماً.
النتيجة هي تناقُض مُقلق: لحفظ السيطرة على مصيرنا، علينا أن نُنتج مؤسستُنا بعقول أقوى بأضعافٍ مُضاعفة من عقولنا
ورغم ذلك، يُجادل ليم، أنّ نفس الإرتجاعات الإيجابية المُشتقة من التقنية هي أيضاً “كعب أخيل” للحضارة الكوكبية، على الأقل بالنسبة لنا هنا على الأرض. كما التقدُّم في العلوم والتقنية يتراكم وسُرعة الاكتشاف تواصل تسارُعها، مُجتمُعنا سيقترب من “حاجز المعلومات” تتجاوز عقولنا – الأحياء العمياء المُتشكلة عشوائياً بالتطور لإغراض مُختلفة جداً – لا تستطيع بعد الآن التفسير بشكلٍ كفء والعمل على سيلٍ من المعلومات.
بعد هذه النقطة، حضارتنا يجب أن تصل الى نهاية ما كان مُسبقاً فترة النمو المُتزايد بالعلوم والتقنية. سيتوقف التوازن، ومن دون بعض التدخُلات الرئيسية، سننهار نحنُ إلى “أزمة تطورية” رُبما لن نتعافى منها بالكامل أبداً. المُحاولة لتبسيط الفوضى من خلال، كتابات ليم، ستقود فقط لدائرة مُفرغة من من فُقاعات إقتصادية تزدهر وتكسد بينما يتعرّج المُجتمع بشكلٍ اعمى نزولاً إلى طريق يعتمد على مسار عشوائي من الاكتشاف العلمي والتطور التقني. يكتُب، “انتصارات، هذه التي تُظهر فجأة مجالات من بعض الأنشطة الجديدة الرائعة. ستقوم بابتلاعنا بحجمها المُطلق، بالتالي تمنعُنا من مُلاحظة بعض الفُرص الأُخرى – والتي قد تتحول إلى أن تكون أكثر قيمة على المدى البعيد.”
استنتج ليم أنّ حضارتنا التقنية هي لتجنُّب الوقوع في الاضمحلال، الزوال الإنساني بشكلٍ أو بآخر لا يُمكن تجنُّبه. الخيار الوحيد المُتبقي لاستمرارية التقدُّم سيكون إذاً “أتمتة العمليات الإدراكية” من خلال تطوير حسابات “مزارع المعلومات” والعقول الاصطناعية الفوق إنسانية (الخارقة)، هذا قد يَحْدُث عن طريق إنتحالات مُتطورة، المُحاكاة الإفتراضية للقوة الوحشية المجنونة للإختيار الطبيعي التي نراها تأخُذ دوراً في التطوّر الحيوي، التي لاحظها ليم بجفاء، هي التقنية الوحيدة المعروفة في الكون لبناء الفلاسفة، بدلاً من مُجرد فلسفات.
النتيجة هي تناقُض مُقلق، والذي يشرحهُ ليم مُبكراً في هذا الكتاب: لحفظ التحكُم في مصيرنا، علينا أن نُنتج مُؤسستنا لعقول أقوى بأضعاف مُضاعفة من عقولنا، تُخلْق من خلال عمليات لا نستطيع فهمها بالكامل، وللآن فإنها غير معروفة لنا فعلياً. هذه هي الأساسات لـ استكشافات ليم في “التفرُدية”، وفي وصف نتائجها توصل الى العديد من الاستنتاجات التي قد يُشاركُها العديد من نُظرائه الموجودين في وقته الحاضر. ولكن هُناك اختلاف بين النهج العلمي النموذجي ونهج ليم، ليس بالدرجة ولكن بالنوع.
على خلاف المُستقبلية السلعية (مُعاملتُها كسلعة تجارية) الآن الشائعة الى حدٍ كبير في العوالم الفُقاعية لمليارديرات وادي السيليكون، كانت توقعات ليم في الحقيقة ليست عن السعي لإثراء شخصي من تقلُّبات السوق، أدوات برّاقة جديدة، أو عقائد (أيدولوجيات) لـ “ابتكارات تخريبية.” في كتابه “حصيلة التقنية” والكثير من أعماله المُتعاقبة، بحث ليم عوضاً عن ذلك لـ رسم خريطة للخروج بأجوبة معقولة للأسئلة التي تُمرر بصمت أحياناً كثيرة، رُبما لأنها تفشل في أن تُناسب بصورةٍ مُلائمة لأي عرض على منصة تيد «TED» أو خطة عمل أساسية: هل تتحكم التقنية بالإنسانية، أو إنّ الإنسانية تتحكم بالتقنية؟ أين هي الحدود المُطلقة لمعرفتنا وإنجازاتنا، وهلّ ان تلك الحدود ستتشكل بالقوانين الأساسية للطبيعة أو بواسطة الحدود المُتأصلة لروحنا؟ إذا ما أُتيحت لنا القُدرة لتلبية أي رغبة مادية تقريباً، ما الذي سنُريدُه فعلاً؟.
استكشافات ليم لهذه الأسئلة تمت السيطرة عليها مع الحظ، التوتُّر الاحتمالي بين الفوضى والنظام باعتباره الحكم في مصير الإنسان. كان يملُك تقديراً عميقاً للأنتروبيا (مقياس العشوائية)، القدرة على الإضطراب الطبيعي للنشوء والإنتشار التلقائي، يشتُم البعض بينما يُجنّب آخرين. لقد كان تقديراً ولد من تجربته عندما كان شاباً في بولندا قبل، أثناء، وبعد الحرب العالمية الثانية، عندما رأى الفُرص (الحظوظ) تتحكم في تدمير أحلام لا حصر لها، وعندما، رُبما عن طريق الصُدفة وحدها، لم يتسبب ميراثهُ اليهودي في موته. كتب ليم في كتابه “هاي كاسل: مُذكرات وسيرة ذاتية” « Highcastle, an autobiographical memoir» “كُنَّا مثل النمل المُزدحم داخل عِش النمل الذي فيه تمّ رفع كعب الحذاء، البعض رأى ظلهُ، أو إعتقدوا أنهم رأوهُ، ولكنّ الجميع، بضمنهم المُرتبكون، شغلوا أعمالهم المُعتادة حتى الدقيقة الأخيرة، أداروها بحماس، تفانٍ وإخلاص – لتأمين، لاسترضاء، لتذليل المُستقبل.” من الثقل المُتراكم لهذه التجارُب، كتب ليم في صحيفة نيو يوركر «New Yorker» في سنة 1986م، إنه “وصل الى فهم الضعف الذي تشترك فيه كُل الأنظمة مُجتمعةً. وكيف أن البشر يتصرفون تحت ظرووف مُشددة – كيف لسلوكهم عندما يكونوا تحت ضغطٍ شديد مُستحيل التوقُّع تقريباً.”
بالنسبة لـ ليم، (وللكثيرين المشهود لهُم ، عدد كبير من المُفكرين المُعاصرين)، “التفرُدية” هي فُرصة أقل من مُجرّد كونها علامة استفهام، اختبار قاسٍ مُتعدد الأبعاد الذي فيه سيُزّور (يُزيّف) المُستقبل الإنساني.
لم أستطع التفكير في علامة إستفهام ليم في ذلك الصيف في عام 2007م. داخل وحول الحدائق المُحيطة بالقصر التقليدي الحديث لمسرح الفنون الجميلة في المكان الذي تمّ إجراء قمة “التفرُدية” فيه، ظلال سوداء مُعرقلة تبدو كأنها ظهرت على الخُطط والطموحات لـ المهام المُجمّعة بشكلٍ جيد. لكن كان لديهم مهمّة صغيرة ثمينة مع العقول الإصطناعية الخارقة المؤذية أو تكنولوجيا الصغائر الهاربة. بين فندقي والمكان الذي تمّت دعوتي إليه، إستراح الشحاذون على طول الممشى، أو وقفوا مع أكواب فارغة في التقاطُعات المُزدحمة، تقريباً غير مرئيّين للجميع. عندما مشيتُ إلى الخارج خلال إستراحة واحدة بين الجلسات، تعثّرتُ فوق رجُلٌ مُشَرَّد يتغوّط بين شجرتين مُشبّذتان بشكلٍ جيد. حتى ضمن سياق كلام المؤتمر، لمحات من اليأس في بعض الأحيان خلطت المُحادثات غير المُتكررة حول رأس المال المُرتفع؛ أزمة الرهن العقاري كانت قد كشفت بالفعل إنّهُ بعد سنة، ستُشعل الإنقباض القريب في نظام الإقتصاد العالمي. بينما جبابرة مُجتمعنا في مجال التقنية كانوا يتحينون الفُرص لخلق ما كانوا يأملون أنه سيكون الأفضل بين كُل المستقبليات الممكنة، العالم خارجاً يُذكّر هؤلاء الذين قد يستمعون بأننا اليوم بالكاد مُسيطرون.
من وجهة نظر ليم، نحنُ البشر، بالنقص الموجود فينا، سنُجاهد دوماً للتقدُّم والإزدهار
حضرتُ إلى إثنين من المزيد من قمم “التفرُدية”، في 2008م و 2009م، وخلال فترة الثلاث سنوات تلكَ، كُل مكاسب الأداءات المُثيرة للفخر في مُختلف التقنيات بدت تافهة بمواجهة نمط أكثر وضوحاً أقل مُناقشة من التغيُّر المُتسارع: النمو السريع المُستمر في التدهور البيئي العالمي، وعدم المُساواة الاقتصادية، وعدم الاستقرار المُجتمعي. هُنا، التوقُعات تميلُ إلى أن تكون أقل تفاؤلاً (وردية) من تلك لإمكانياتنا المُستقبلية في تقنية المعلومات. هُم يقترحون مع بعض الثقة، أنه متى ما وإذا تمكنّا من إدخال الأرواح في مكائننا، مُعظم البشر لن يحلموا بتجاوز بُنيتهم الحيوية، لكن عوضاً عن ذلك سيحلمون بماءٍ عذب، بطنٌ مُمتلئة، وسريرٍ دافئ وآمن.
كم سيكون مُفيداً الحاسوب الخارق الذكاء إذا ما غُمر بارتفاع منسوب مياه البحار أو فُصل من مصدر تيار كهربائي مُستقر؟ هل أن إطالة عُمر الأشخاص باستخدام التقنية الحيوية “البايوتك” ستكون ذات أهمية في عالم دمّرتهُ الأسلحة، حشود الجائعين الغاضبة، النازحين؟ تساءلتُ أكثر من مرة لماذا العديد من التقنيات السامية تُعنى أكثر من قبل بالتهديدات غير الموجودة – لحد الآن – بينما تترك أكثر الأمور الدنيوية وأكثرها واقعية حرفياً أمام أعينهم.
ليم كان قادراً على التحدُّث عن تجربتي عن العالم خارج النوافذ لمؤتمر “التفرُدية”. خيط من التواضع الإنساني مرّ خلال عمله، حقيقة حصل عليها بصعوبة أنّ التقدُّم التقني في أغلب الأحيان يحدُث فقط في خدمة دوافعنا البدائية، مُكافئاً الجشع الفردي على الصالح العام. رأى عالمنا هشّاً للغاية، مُتوقفاً على عدد فلكي من مُصادفات حقيقية، حيث أن تقلّبات النفس البشرية قد أصبحت المُتغيرات الأكثر تقلُّباً للجميع.
هنا وجدنا مفتاح قوة ليم كمُستقبلي. رفض خصم تأثير الطبيعة الإنسانية في قُدرات “الإنسان العابر” (الإنسان الفوقي)، وأعتقد أنّ المهمة المُتبقية غير المُكتملة لـ فهم قوتنا وضُعفنا كـ بشر كان شرطاً أساسياً حاسماً لكُل المسارات التخمينية لـ أي مُستقبل ما بعد “التفرُدية”. رغم ذلك هذه القوة قادت أيضاً إلى ما قد يكون ضُعف ليم الأكبر، الذي شاركهُ مع الحالمين بالـ “إنسان العابر”: كُل تفاؤل الإنسان الذي يشعُّ خلال غير ذلك من الظلام الفاتر، إيمان وطيد بأنّهُ عندما يتواجه مع تحديات المُستقبل للـ “الإنسان العابر”، سنغرقُ بشكلٍ بطولي بتهور صوب الأعماق.
في رؤية ليم، البشر، بكل النقص الموجود فينا، يجب أن نُجاهد بإستمرار للتقدُّم والإزدهار، البحث عن ذلك كُله هو شيء جميل ومُمكن بدلاً من ما قد يكون مُريحاً فقط ومُربح، ومن خلال هذا، قد نجد الخلاص. الذي قد نخضع بدلاً عنه إلى التراخي، الركود، الإنحسار، والإنقراض هو شيءٌ يُقرُّ به لكن بالكاد يؤيّدهُ. في النهاية، ليم، أيضاً، كان مغوياً – وإنّ لم يكُن من قبل المفاهيم شُبه الدينية للخلود الشخصي، النمو اللامُتناهي، الغائية الكونية، لكن بدلاً من ذلك فكرة وجود روح الإنسان التي لا تُقهر.
مثل العديد من الأفكار الأُخرى من كتاب “حصيلة التقنية”، هذه تجد أفضل تعبيرٍ لها في أحد أعمال ليم عن الخيال، روايته القصيرة «Golem XIV» عام 1981م، التي فيها حاسوب عسكري خارق مُبرمج ذاتياً الذي أدخل نفسه نحو الوعي وأوصل سلسلة من المحاضرات تُناقش التطور والإنسانية. قد يقول البعض أنّه لغباءٌ البحث عن الحقيقة في الخيال، أو لرسم مساواة بين أفكار شخصية خيالية واعتقادات مؤلف حقيقية، ولكن بالنسبة لي الاستنتاج لا مفرّ منهُ. عندما صنع الفيلسوف الاصطناعي للرواية تصريحاته من خلال مُشفّر صوتي مُتصل، إنه الصوت الإنساني لـ ليم الذي ينبثق، ينطُق نبوءة العبور (التجاوز) التي كانت في آنٍ واحد مُعظم أمله – ورُبما، في ضوء اتجاهات اليوم، أكثر أخطاءه.
“أنا أشعُر أنك تدخُل عُمر التحوّلات؛ التي تجعُلك تُقرر أن تُلقي جانباً التاريخ بأكمله، تُراثك الكامل، وكُل بقايا الإنسانية الطبيعية – التي صورت، تضخّمت إلى مأساة جميلة، هي بؤرة مرايا مُعتقداتك؛ التي تجعلُك تتقدم (لسبب أن لا توجد طريقة أُخرى)، وفي ذلك، التي بالنسبة لك الآن مُجرد طفرة نحو الهاوية، سوف تجد تحدياً، إذا لم يُكن جمالاً؛ وذلك سيجعُلك تتقدم بطريقتك الخاصة بعد ذلك كُله، مُنذ هجر البشر، فإن الجنس البشري سيُنقذ نفسه.”
المصدر: هنا