كتبه لصحيفة ذي أتلانتيك: ريحان سلام
ترجمة: مازن سفّان
صميم الصورة: اسماء محمد
في حياة كل منا كتاب يغيّر نظرته تجاه العالم. أحد مفضلاتي هو كتاب “التعددية العرقيّة والوحدة الوطنيّة في تاريخ العالم” للمؤرخ الأمريكي الكندي ويليام مكنيل؛ الذي نُشر للمرة الأولى عام 1985. علمتُ منذ فترة أن مكنيل قد توفي في صيف عام 2016 ليس بفترة طويلة قبل تصويت بريطانيا للخروج من الاتحاد الأوروبي وانتخاب دونالد ترامب لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكيّة. باعتقادي أن مكنيل لو كان موجوداً سيكون لديه الكثير لقوله حول إعادة التأكيد على القوميّة حول العالم، وأأسف لعدم وجوده ليشاركنا أفكاره، وأعتقد أنه سيردد أفكاري الخاصة، ولكنني على ثقة أنه لن يفعل ذلك، لكن بدلاً من ذلك فإن أعماله ستعيد توجيه وجهة نظرنا حول الأمور.
مع أن مكنيل كان متشككاً حول القوميّة، فقد علمني، بطريقة غير مباشرة، أن أقدّر فضائل القوميّة. يشير نقّاد القومية عادةً إلى أنها عقيدة مُحدثة، وهم ليسوا مخطئين بذلك الشأن. لكن ما يميل عادةً إليه هؤلاء النقّاد أن الشيء نفسه يمكن قوله عن منافس القوميّة الأول ألا وهو مثاليّة التعددية الثقافيّة المفتقدة أصلاً للتسلسل الهرمي. في الدوائر الليبراليّة، عادةً ما يتم فهم القوميّة على أنها مقسّمة، قوة إقصائيّة، وهكذا حتى يتم تعريف القومي على أنه شوفيني.
ولكن كما يقترح مكنيل؛ فإن القوميّة هي بديل موحِّد لمجتمع مبني على التسلسل متعدد الأعراق، بحيث تعيش طوائف عرقيّة متوارثة مع بعضها في سلام غير مستقر، وعادةّ ما تسيطر أحدها على الآخرين. إن التسلسل الهرمي المتعدد الأعراق كان هو القاعدة طوال التاريخ الحديث، وليس الوحدة القوميّة أو المساواة التعدديّة. يمكن للمرء أن يجادل أن حلم التعددية بدون تسلسل هرمي هو على الأقل خيالي مثله مثل القومية القائمة على المساواة والتي تُبنى على اندماج وانصهار جماعات ذات تمييز واحد، إن لم يكن أكثر من ذلك.
إن تاريخ مكنيل المنمق يمنحنا إحساسًا بما نواجهه ونحن نحاول بناء مجتمعات لائقة وإنسانية وسط الانقسامات العرقية الراسخة، ولماذا اعتنق العديد من المفكرين المعاصرين سياسات الوحدة الوطنية.
يجادل مكنيل أنه حتى منتصف القرن الثامن عشر، كانت الوحدة السياسيّة العرقيّة في الحضارات الكبرى من أوروبا حتى البحر المتوسط وسهول آسيا < <شيئاً خادعاً غالباً وهشاً دائماً>>، كانت مثاليّة القرن التاسع عشر للدولة القوميّة المتجانسة والتي انطلقت في فرنسا الثوريّة شيئاً من الشذوذ التاريخي، حيث بدأت التحولات الديموغرافية والإيديولوجيّة في القرن العشرين الدموي بالتلاشي. اليوم، قد نجد أنفسنا في خضم نقطة تحوّل ضخمة حول العلاقة بين الدولة والعرق.
يستشهد مكنيل بثلاثة عوامل عرقلت تشكيل هويات وطنيّة مستقرة ومتماسكة لفترات طويلة في التاريخ المسجل. أولاً، في فترة ما قبل الحداثة، أدى الاستيلاء المستمر على الأراضي الشاسعة واستعادتها من قبل مجموعات متنافسة من البدو العسكريين المتنافسين على الموارد إلى استمرار الاختلاط العرقي والاضطرابات، خاصة في المراكز السكانية الرئيسية. يكتب مكنيل في كتابه: < <إن ظهور البدوية كأسلوب للحياة أحدث أثراً على شعوب أوراسيا كالمطاحن، حيث طحن الأغلبيّة الفلاحيّة بشدة، حيث أنهم هم من عانوا من النهب ودفع الضرائب، ودعموا أسيادهم العسكريين والاختصاصصين المهنيين الذين احتشدوا في المدن وحافظوا على فنون ومهارات الحضارة>>.
العامل الثاني للحياة ما قبل الحضريّة وبدايات الحضريّة والتي أجبرت على الاختلاط العرقي هي الأمراض المعدية القاتلة في المناطق المكتظة بالسكان. كانت معدلات الوفيات مرتفعة للغاية بحيث لم تكن المدن قادرة على الحفاظ على سكانها من خلال التكاثر وحده، وفي حين أن بعض النقص في العمالة يمكن أن يعوض بسبب الهجرة العضوية من المناطق الريفية المجاورة ، فإن النخب السياسية كثيراً ما تلجأ إلى استيراد الأعراق الأخرى كعبيد، أو مساعدين، أو أقنان من الأطراف الإمبراطورية. حتى الدولتين المدينيتين الكلاسيكية في أثينا وروما، واللتان تعتبران في بعض الأحيان جمهوريتين ليبراليتين متكافئتين ، ستتحولان قريباً إلى إمبراطوريات هائلة كانت عواصمها غارقة بأجانب من مواليد الخارج الذين كانوا تابعين سياسياً واقتصادياً للطبقة المهيمنة من المواطنين اليونانيين أو الرومانيين.
أخيراً، إن المجموعات العرقيّة المختلفة تفاعلت مع بعضها بحيويّة بسبب التغيرات الاقتصاديّة واسعة الانتشار والنشاط التبشيري. أنجبت التجارة مجتمعات مستقرة يتواجد فيها أجانب في المراكز الحضريّة الرئيسيّة، أدى ظهور الديانات الكونيّة المتنقلة إلى توفير درع ثقافي للمغتربين التجاريين، وعزلهم عن محيطهم في مسائل الإيمان والعائلة كما لم يحدث من قبل. النتيجة هي أنه عبر أوراسيا، بينما كان التجانس العرقي أمراً شائعاً في المناطق الريفية، فقد تم تصنيف المدن التي كانت مراكز للسلطة السياسيّة والتقدم الحضاري عن طريق التعددية العرقيّة أو عن طريق تسلسل الطوائف العرقيّة. مع استثناءات ملحوظة، بما في ذلك الإمبراطورية اليابانيّة وبدايات الإمبراطورية المقدونية، فإن معظم النخب السياسيّة افترضت أن التماثل مرغوب فيه وأن الاستيعاب لأسلوب مشترك للحياة أو نمط ثقافي إما طبيعي أو ممكن.
وفقاً لمكنيل، بدأت التقديرات الحقيقية الأولى للدول القومية في أوروبا – أي الوحدات السياسية التي تتوافق مع الحدود العرقيّة – في أواخر العصور الوسطى؛ فرنسا وإنجلترا، جنباً إلى جنب مع مجموعة من الآخرين: الدنمارك، السويد، هنغاريا وبولندا وربما البرتغال أيضاً. لكن حتى هذه الحالات شبه المبكرة لم تكن محددة جيداً أو مكتفية ذاتياً. كان الحدث الفاصل في ولادة القومية كفكرة هو الثورة الفرنسية، التي طالت حقبة من الادعاءات الجديدة والقوية إلى التضامن العرقي الوطني عبر القارة وما وراءها. يستشهد مكنيل بأربعة أنماط تاريخية جعلت هذا الثوران ممكنناً.
النمط الأول هو تأثير الإنسانويّة المدنيّة. والتي بدأت في بدايات العصور الوسطى، حيث بدأ يُشير عدد من المفكرين الأوروبيين إلى التقاليد السياسيّة الكلاسيكيّة للرومان والإغريق على أنها ذروة التنظيم الإنساني. وكما يُلاحظ من قبل، فإن الإمبراطوريتين الرومانيّة والإغريقيّة أصبحتا بشكل سريع إمبراطوريات متعددة الأعراق، لكن مفكري القرن التاسع عشر ركزوا اهتمامهم على سنوات تلك الإمبراطوريات الأولى (أو نموذج منمق منها)، حيث تُنشئ مجموعة من الرجال المتعاهدين بروابط الأخوة ثقافة مدنيّة خاصة بها وتقرر مصيرها الخاص. هناك مستوى من التجانس العرقي في شمال أوروبا أوشك أن يجعل هذه المثاليّة قريبة من الواقع بحيث أنها انتُزِعت بقوة فعليّة، ولقد حاول الإصلاحيون في القرن الثامن عشر أن يعيدوا الفضيلة الجمهورية الرومانيّة بكل مجدها.
بداية من منتصف القرن الثامن عشر، ترافق هذا التغير الثقافي مع تغيّر ديموغرافي مساوي له. وبفضل التغيرات في أنماط الأمراض والتقنيات الزراعية الجديدة، بدأ التعداد السكاني بالارتفاع بوتيرة غير مسبوقة في تاريخ العالم. كان لظهور فائض العمالة في الريف تأثيران في جميع أنحاء أوروبا؛ أولاً، تضاءلت حاجة النخبة السياسية في استيراد العمالة من الخارج بالقوة إلى حد كبير، وحتى المدن الكبرى مثل لندن وباريس تمكنت من الحفاظ على التقارب بين الأعراق المتجانسة. تم تعطيل التسلسل في المناطق الحضرية. وعلاوة على ذلك، فإن البطالة الاقتصاديّة في الريف أدت إلى حدوث اضطرابات سياسية، وكان العمال العاطلون عن العمل من الفئات المتحمسة للحركات الثورية والقومية.
لعب التقدم في محو الأميّة والاتصال والذي غالباً ما تم تمويله من المبشرين البروتستانتين، دوراً هاماً في ازدياد التماسك، حيث أصبحت اللغات قواعد قويّة جديدة في عبور وتقليص الحواجز القوميّة والاتصال بين المجموعات القوميّة المحددة. كما شجعت القواسم اللغوية التجارة التي تجمع المدن والريف، وساعدت البيروقراطية الحكومية على توسيع وتعميق روابطها مع السكان الخاضعين لولايتها.
العامل الرابع في سرد ماكنيل لصعود الوحدة العرقية – السياسية كان التحديث العسكري. وكما هو الحال في روما واليونان، فإن المشاركة في القوات المسلحة أقامت تضامناً بين مواطني المجموعات القوميّة الأوروبية، حيث صهرتهم سويةً كما لم تفعل تجربة أخرى. وجعلت التكنولوجيا العسكرية الجديدة الحكومات الوطنية أكثر قدرة على الحفاظ على حدودها، قمع الانتفاضات، صد الغزوات، وتنمية التجارة. جعلت الأسبقية العسكرية لفرنسا النابولوينيّة الدول الناشئة الأخرى تتطلع إلى تكرار نجاحها. ولكن في نهاية المطاف، فإن القوة العسكرية للدولة القومية الأوروبية في القرن التاسع عشر “ستقوض أساسها الاجتماعي” من خلال إنتاج عالم ليس من الدول بل من الإمبراطوريات ، وبعد ذلك إلى عالم من الحروب المدمرة لدرجة أنها تقلل إلى حد كبير من مكانة المثاليّة العرقيّة – القوميّة.
ربما يكون الفصل الأكثر شهرة في قصة ماكنيل، على الأقل في البيئة السياسية اليوم، هو ظهور العولمة التي حدثت بعد الحروب العالمية في النصف الأول من القرن العشرين؛ < <الاختلاط المتسارع بين مختلف الشعوب داخل حدود الدولة التي نشهدها في كل مكان في وقتنا الحالي، وتحديدًا منذ الحرب العالمية الأولى>>. تتمثل رؤيته الأساسية في تأطير هذه الزيادة في التعدديّة العرقيّة على مدى القرن الماضي وليس كتطور جديد ، ولكن “كعودة إلى الشكل الطبيعي”، على الأقل “بقدر ما تشعر الدول الأوروبية الغربية”.
كان السبب الأهم في أن يكون المحور بعيداً عن القومية إيديولوجياً. إن تدمير الحرب العالمية الأولى والمذابح الإمبرياليّة للحرب العالمية الثانية (والتي تضمنت على نحو متناقض مستويات عالية من الاختلاط العرقي على شكل أعمال رِق للنازيّة) أساءت بشكل فعال للنزعة القومية بين النخب الأوروبية. وقد ساهم ذلك في إنشاء هيئات دوليّة جديدة، مثل الاتحاد الأوروبي، والتي سهلت التعاون والهجرة وتلاشي الحدود العرقية بين الدول القومية. وثمة تأثير آخر إيديولوجي غير مباشر من أهوال الحرب العرقية، وهو أن الهويات العرقية دون القومية اكتسبت مكانة متجددة.
كما هو الحال مع صعود القومية في القرن التاسع عشر، كان لانحدارها في النصف الثاني من القرن العشرين أيضًا مكونًا ديموغرافيًا قويًا. أدت الخسائر البشريّة الهائلة الناتجة عن الحرب إلى اختلال توازن في العمالة في أوروبا،و التي سببت هجرة لعدد كبير من البشر من الدول الجنوبيّة في أوروبا للبحث عن العمل في الدول الشماليّة الغنيّة. كما شهد الاتحاد السوفيتي إعادة تكوين داخليّة كبيرة تحت الحكم الستاليني. وعلى المدى الطويل، أدى انخفاض معدلات المواليد في الدول الغربية، التي تغذيها وسائل منع الحمل، الاقتصاد والمعايير الاجتماعية المتغيرة ، إلى زيادة الطلب على العمالة، وقد وفرت زيادة معدلات المواليد في الشرق الأوسط والجنوب الإمداد المناسب.
أخيراً، هناك زخارف العولمة التي نعرفها جميعاً؛ المطارات، السفن الناقلة، والحواسيب. تحسينات في الاتصالات والنقل التي تذلل باستمرار عقبات هائلة أمام التفاعل البشري عن بعد. يتم الآن تنظيم التجارة العابرة للقوميات عن طريق هيئات دوليّة مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. هناك أيضاً بُعد عسكري للعولمة الجديدة؛ تشكل الحاميات المتمركزة بشكل دائم على أرض أجنبيّة شكلاً هاماً آخر من التعددية العرقيّة. وقد كتب مكنيل ذلك، بالطبع، قبل انهيار الاتحاد السوفيتي؛ والذي ساهم بشكل كبير في زيادة الاتجاه العالمي نحو التعدديّة العرقيّة خلال تسعينات القرن الماضي، كما هاجر ملايين البشر والذين كانوا قابعين خلف الستار الحديدي نحو بلدان أخرى في جميع أنحاء العالم وتم رفع جميع أنواع القيود التي فرضتها حقبة الحرب الباردة على الحركة الدوليّة.
خَلُصَ مكنيل في نهاية محاججته إلى تنبؤ متوافق بشكل مخيف مع عصرنا الحالي: < <يكاد يكون من المؤكد أن زيادة الضغوط الاجتماعية والاحتكاكات داخل الدول التي تستضيف مجموعات عرقيّة مختلفة وتشكل ملاذً للمشتتين يؤدي إلى الشغب وعلى الأرجح القتل بالجملة>>.
وقد أشار أيضاً إلى التحدي الجوهري الذي يواجه التعددية العرقيّة على مر تاريخ العالم: < <إن الجهود الرامية إلى الحفاظ على المساواة في مواجهة الاختلافات الفعلية في المهارة والعرف قد حققت نجاحًا محدودًا للغاية ... وقد تقبلت المجتمعات المتحضرة الأخرى تقريبًا وطبقّت عدم المساواة بين المجموعات العرقية المتنوعة التي كانت تتألف منها>>. تشير تلك الملاحظتين إلى التحدي التاريخي العالمي الذي يواجهنا؛ أن نقود واقعنا متعدد الأعراق بينما نحافظ على السلام الاجتماعي بدون أن نساوم على المبادئ غير القابلة للنقاش حول التساوي في حق المواطنة. أي الانتقال إلى مستقبل أكثر تنوعًا دون الخضوع للتسلسل الهرمي الطبقي للإمبراطورية الرومانيّة المتأخرة أو إلى النزعة القومية العدوانية في بروسيا في أوائل القرن العشرين.
هل ينتمي المستقبل إلى التعددية الثقافية القائمة على المساواة، والتي لا تزال فيها التمييزات الحادة بين المجموعات العرقية القائمة على التسلسل الهرمي إلى حد ما؟ أم ينبغي علينا أن نسعى إلى شكل قومي ينصهر الجميع في بوتقته، حيث تتضاءل الحدود الواضحة بين المجموعات مع الزمن، وتتعزز المساواة المدنية والوحدة الوطنية مع بعضهما البعض؟. لقد وصلت لاعتقاد أن المثاليّة الأخيرة هي في نهاية المطاف أكثر واقعية وإثمار. ولكني أدرك تمامًا أن الصدام بين هاتين الرؤيتين لن يتم حله قريبًا.
المقال باللغة الإنجليزيّة: هنا