مع استيلاء التكنولوجيا على الوظائف، بما سنشغل أنفسنا؟ يأخذنا يوفال حراري وهو مؤلف كتاب (البشر: تاريخ موجز للجنس البشري) في رحلة لاستطلاع ما سيحصل مع “الطبقة العاطلة عن العمل” وكيف ستدخل المعنى في حياتها.
كتبها لصحيفة الغارديان: يوفال نوح حراري
بتاريخ: أيار 2017
ترجمة: مصطفى شهباز
تصميم: حسام زيدان
ستختفي معظم الوظائف الموجودة اليوم خلال عقود مع تفوق الذكاء الاصطناعي على قدرات الانسان في تنفيذ المهام يوماً بعد يوم. وستظهر اختصاصات جديدة مثل مصممي العالم الافتراضي. لكن مثل هذه الاختصاصات تتطلب مقدار أكبر من الابداع والمرونة ومن الصعب لسائق تكسي أو موظف في شركة تأمين بعمر الأربعين وعاطل عن العمل أن يُلبّي متطلبات هذه الوظائف (لنتخيل عالم افتراضي يقوم بتصميمه سائق تكسي!). وحتى لو استطاع موظف التأمين الانتقال لمجال تصميم الواقع الافتراضي فإن سرعة التقدم الحاصلة في هذا المجال تتطلب منه تحول أخر خلال 10 سنين.
النقطة الحاسمة ليست في خلق وظائف جديدة بل هي في خلق وظائف يستطيع البشر القيام بها أفضل من خوارزميات الذكاء الاصطناعي. نتيجة لذلك ومع حلول العام 2050 ستظهر طبقة جديدة من البشر نستطيع تسميتها بـ”طبقة لا يمكنها العمل”.
قد تؤمِّن التكنولوجيا تكاليف المعيشة لهذه الطبقة العاطلة عن العمل من خلال ما يعرف بالدخل الأساسي العام. لكن المشكلة الحقيقية تكمن في إشغال أوقات فراغ هذه الطبقة لأن الناس بطبيعتهم لا يستطيعون البقاء بلا عمل وإلا فسيصابون بالجنون. اذن ما سيفعل كل هؤلاء الناس بأوقاتهم؟
إحدى الإجابات تقترح إشغالهم بألعاب الفيديو. سيمضي الأشخاص الذين لا يمكن تشغيلهم أوقات أكثر في العالم الافتراضي، والذي سيوفر لهم اثارة وتواصل عاطفي أكثر من العالم الحقيقي في الخارج. في الحقيقة، هذا حل قديم جداً. حيث وجد المليارات من البشر منذ آلاف السنين معنى حياتهم من خلال اللعب في الواقع الافتراضي. كنا ندعو هذه الألعاب في الماضي بـ”الأديان”.
ماذا يكون الدين سوى لعبة واقع افتراضي كبيرة يمارسها الملايين من البشر سوية؟
ابتكرت الأديان مثل الإسلام والمسيحية قوانين خيالية، مثل “لا تأكل لحم الخنزير”، “كرر الصلوات لعدد محدد من المرات في اليوم”، “لا تكن مثلياً” وهكذا. هذه القوانين موجودة فقط داخل المخيلة البشرية. لا يوجد قانون طبيعي يفرض تكرار صلوات سحرية أو يمنع المثلية الجنسية أو يُحرِّم أكل لحم الخنزير. يمضي المسلمون والمسيحيون حياتهم محاولين كسب النقاط (الحسنات) من أجل الفوز في لعبة الواقع الافتراضي هذه. إذا صليت يومياً فستربح نقاط. إذا نسيت الصلاة فستخسر نقاط. وبعد انتهاء حياتك وأنت تملك نقاط كافية فستنتقل إلى المرحلة التالية من اللعبة (الجنة).
وكما تبين لنا الأديان فلا يجب على الواقع الافتراضي أن ينحصر في جهاز مغلق. بل يمكن توليده على الواقع المادي الخارجي. تم هذا الأمر في الماضي من خلال الخيال البشري والكتب المقدسة، لكن في القرن الواحد والعشرين فيمكن إنجازه عبر الهواتف الذكية.
ذهبت مرة مع ابن أخي ماتن لصيد البوكيمون وبينما كنا نمشي في الشارع ثبت ماتن نظره على هاتفه الذكي لكي يستطيع معرفة أماكن البوكيمونات حولنا. أنا لم أر أي بوكيمون لأنني لم أكن احمل هاتف ذكي. ثم شاهدت طفلين أخرين يحاولان اصطياد البوكيمونات مثلنا، وكدنا أن نتشاجر معهما. لقد أدهشني مقدار تشابه هذا الوضع مع الصراع بين اليهود والمسلمين على القدس. فعندما تنظر للواقع الموضوعي لمدينة القدس ستجدها عبارة عن صخور وأبنية. لا توجد قداسة في أي مكان. لكن لو نظرت من خلال الكتب المقدسة (مثل القرآن والانجيل) ستجد أماكن مقدسة وملائكة تطير في كل مكان.
إن فكرة إيجاد معنى للحياة عبر ألعاب الواقع الافتراضي لا تقتصر على الأديان فحسب بل تمتد للأيدولوجيات العلمانية وأسلوب الحياة الناتج عنها. النزعة الاستهلاكية هي لعبة واقع افتراضي أيضاً. أنت تكسب نقاط إضافية عبر شراء سيارة جديدة، شراء ماركات مكلفة، أو قضاء اجازات خارج البلاد. وفي حال حصلت على نقاط أكثر من الأخرين فستخبر نفسك بأنك قد نجحت في اللعبة.
ربما تقول إن الناس يستمتعون كثيراً بسياراتهم وسفراتهم السياحية، وهذا صحيح بالتأكيد. لكن المتدينون يستمتعون حقاً بالصلاة وأداء الفرائض وابن أخي يستمتع أيضاً باصطياد البوكيمون. في النهاية، فإن العمل الحقيقي يقع داخل الدماغ. فهل يختلف الأمر إذا تم تحفيز الخلية العصبية بواسطة مشاهدة شاشات الهواتف أو من خلال النظر من النافذة لساحل جزيرة مشمس أو تخيل الجنة في أذهاننا؟ في كل الحالات فإن المعنى الذي نُسبغه على الأشياء التي نراها هو نتاج لأذهاننا الخاصة. فليس هنالك معنى واقعي في الحقيقة. معرفتنا العملية تؤكد أن لا معنى لحياة الانسان. وإن معنى الحياة هو قصة خيالية من اختراع البشر.
في مقالة لمهمة لعالم الأنثروبولوجيا كليفورد كيرتز بعنوان “اللعب العميق: ملاحظات على مباريات عراك الديكة في جزيرة بالي الإندونيسية” نشر في سنة 1973 يصف فيه مقدار الوقت والمال الذي يصرفه سكان جزيرة بالي في المراهنة على قتال الديكة. تتضمن عملية المراهنة طقوس معقدة ويكون لنتائجها تأثير كبير على المجتمع والاقتصاد والسياسة للمتبارين والمراهنين.
وكان لقتال الديكة أهمية كبيرة لدى سكان بالي لدرجة تمسكهم به بعد تجريم الحكومة الإندونيسية له وتحملهم لغرامات كبيرة. بالنسبة لهم كان قتال الديكة “لعبة عميقة” ذات معنى مهم ساعد بتحولها إلى واقع. وكذلك يمكن كتابة مقال مشابه عن كرة القدم في الارجنتين أو اليهودية في إسرائيل.
واحد من أهم الأمثلة التي تعطينا صورة لمجتمع ما بعد العمل في المستقبل هي في إسرائيل. حيث إن نسبة كبيرة من اليهود الارثودوكس المتشددين الرجال لم يعملوا في حياتهم. حيث قضوا كل حياتهم في دراسة النصوص المقدسة وأداء الواجبات الدينية. والسبب في عدم موتهم جوعاً مع عوائلهم هو عمل زوجاتهم في الغالب والمساعدات الحكومية. إلا أنهم يعيشون في فقر لأن مساعدات الحكومة تضمن لهم الحد الأدنى من المعيشة.
وهذا مثال أخر لتوضيح فكرة الدخل الأساسي. رغم كونهم فقراء ولم يعملوا قط، إلا أن استطلاعات الرأي توضح بأنهم يعيشون بسعادة أكبر من كل فئات المجتمع الأخرى في إسرائيل. وفي استطلاعات السعادة العالمية، عادة ما تحقق إسرائيل مرتبة متقدمة بين الدول والفضل في ذلك يعود لهؤلاء المؤمنين العاطلين عن العمل.
أنت لا تحتاج للذهاب إلى إسرائيل لمشاهدة مستقبل ما بعد العمل. فاذا كان لديك ابن مراهق يحب الألعاب الفيديوية، ستستطيع إجراء تجربة خاصة بك. وفر له الحد الأدنى من الطعام والشراب ولا تطلب منه القيام بأي واجب ودعه بدون أي مراقبة. النتيجة الأكثر احتمالاً هي بقائه في غرفته لأيام، ملتصق بشاشة التلفاز. لن يقوم بأي واجبات منزلية أو مدرسة، سيترك المدرسة، ويفوت وجبات الطعام وحتى الاغتسال والنوم. مع ذلك فهو لن يعاني من الملل أو الإحساس بتفاهة حياته. على الأقل لن يحصل ذلك في المدى القريب.
لذلك فإن فكرة الواقع الافتراضي ستكون على الأرجح المفتاح لتوفير معنى للحياة لدى هذه الطبقة التي لا يمكنها العمل. ربما ستكون من إنتاج الحاسوب أو عبارة عن أديان وأيديولوجيات جديدة. أو مزيج من كليهما. الاحتمالات مفتوحة ولا أحد يعرف بصورة مؤكدة ما هي اللعبة العميقة التي سنمارسها مع حلول العام 2050.
في كل الحالات فإن نهاية عصر العمل لا يعني نهاية معنى الحياة، لأن هذا المعنى ناتج من مخيلتنا وليس من العمل. العمل أساسي لتوفير المعنى فقط في بعض الأيديولوجيات وأنماط الحياة. في انكلترا القرن الثامن عشر كان المعنى في الاقطاع، والآن في الارثدوكسية اليهودية، كما وجد الأطفال في كل الثقافات والأزمان الكثير من المعاني والتجارب المثيرة في الحياة بدون العمل. سيتمكن الناس على الأرجح في سنة 2050 من المشاركة في ألعاب أعمق وبناء واقع افتراضي أكثر تعقيداً من أي واقع افتراضي في التاريخ.
لكن ماذا عن الحقيقة؟ ماذا عن الواقع؟ هل نريد العيش في عالم ينغمس المليارات من أفراده في خيالات، ويسعون لتحقيق أهداف وقوانين خيالية؟ سواء أحببت ذلك أم لا، هذا هو العالم الذي نعيش فيه منذ الاف السنين.
يوفال حراري: أستاذ التاريخ في الجامعة العبرية في القدس
المقال باللغة الإنكليزية: هنا